تلوح في الأفق السياسي العراقي تغييرات جوهرية، تبحث عن تجديد وتغيير أسس العملية السياسية، عبر مطالبات جماهيرية، رفعت سقف مطالبها إلى درجة أعلى وأقوى من كل المطالبات السابقة، فصار مطلب تغيير قانون الانتخابات من أهم أهداف حراكهم الشعبي، وقد أقرّ البرلمان العراقي مؤخرا قانونا انتخابياً يختلف كلّيا...
تلوح في الأفق السياسي العراقي تغييرات جوهرية، تبحث عن تجديد وتغيير أسس العملية السياسية، عبر مطالبات جماهيرية، رفعت سقف مطالبها إلى درجة أعلى وأقوى من كل المطالبات السابقة، فصار مطلب تغيير قانون الانتخابات من أهم أهداف حراكهم الشعبي، وقد أقرّ البرلمان العراقي مؤخرا قانونا انتخابياً يختلف كلّيا عمّا درجت عليه دورات الانتخاب البرلمانية السابقة.
كذلك كان مطلب تغيير المفوضية القديمة التي كانت تسيّر تحت ضغوط الكتل السياسية، أحد أهم ما رفعه المتظاهرون السلميون، وبالفعل تم إقرار ذلك في البرلمان، وهي نتائج تدل على تأثير الشعب واستجابة السياسيين له، بعد أن أيقنوا بجدية ما يطالب به الناس، وإصرارهم التام على تحقيق ما يبتغونه من تغيير مهم في أسس اللعبة السياسية وفق قواعد قاعدة ومنصفة.
بعض ما أفرزه الحراك التشريني، مطالبات لا تصب في صالح العراق والعراقيين، ولعلّ أخطرها تلك الدعوات التي ربما ستكون بوابة لعودة الدكتاتورية، وهذا أخطر ما يمكن أن يتعرّض له العراق، لاسيما أن هناك نوعا من التضليل الإعلامي الذي يستهدف التجربة الديمقراطية في العراق الذي جرَّب الدكتاتورية والحكومات الانقلابية وذاق على يدها أقسى الظروف وأصعبها، بداً من مصادرة الرأي، ومنع المعارضة بكل أشكالها وليس انتهاءً بالاعتقال والتعذيب والمطاردة والنفي!.
العراقيون لن ينسوا أنظمة القمع الدكتاتورية، لهذا فإنهم مطالبون بعدم السماح للأصوات التي تريد إعادتهم إلى الدكتاتورية أن تخدعهم، وتستغفلهم بحجة أن النظام الديمقراطي البرلماني لا يناسب المجتمع العراقي، فالخلل ليس بهذا النظام وإنما بالساسة الذين فشلوا في تطبيقه بالعراق.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) حسم هذا الأمر، حين قال بوضوح في الكتاب الموسوم بـ (من عبق المرجعية): (العراق بحاجة إلى التعدديّة لا الدكتاتورية).
وأضاف سماحته بالوضوح نفسه قائلا: (بقدر ما تجرّع العراق آلام الدكتاتورية فهو بحاجة اليوم إلى التعدديّة).
الحاجة الملحة للتعددية
هذا الطريق السياسي ينبغي أن يكون محسوماً لدى العراقيين وهم يواصلون اليوم مظاهراتهم لتغيير القواعد التي دأبت عليها الطبقة السياسية، والتي أثبتت أنها لم تجدِ نفعا في بناء دولة العراق القادرة على نشر العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الشعب بسبب اختلال التطبيق وليس بسبب عيب في النظام البرلماني.
لهذا لابدّ من التركيز على الأدوات التي يمكنها إقناع الشعب والجماهير على أن الدكتاتورية لا يمكن أن تلبّي مصالحهم، لاسيما أنهم تعاملوا مع هذا النوع من الأنظمة، فما هي السبل التي يمكن من خلالها توضيح اللبس الدائر اليوم حول جدوى النظام البرلماني والديمقراطية، وكيف يمكن أن يصبح العراقيون أكثر وعيا بما يلامس مصالحهم واحتياجاتهم ويلبيها، ويقدم لهم حياةً كريمة في ظل نظام سياسي تعددي يضمن لهم حق الانتخاب وحماية الرأي وحق المعارضة وجميع الحقوق التي لا يجوز أن تُهدر أو تهمَل أو تُسرق بأية طريقة كانت.
التوعية والتثقيف هي أهم ما يحتاجه العراقيون اليوم، حتى لا تنطلي عليهم تلك الخدع التي يسعى المروجون للدكتاتورية بثّها بين العراقيين، وتقديمها على أنها تقدّم لهم الحلول المثالية لمشاكلهم، بل على العكس من ذلك، الأنظمة الدكتاتورية، هي التي تسلب حقوق الشعب، لهذا ينبغي القيام بحملات توعية وتثقيف عالي المستوى، كي تتضح الصورة للمحتجين ولجميع العراقيين لكي لا يقعوا في فخ العودة إلى الدكتاتورية التي باتت من (عذابات) الماضي المرير.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (في العراق حاجة ماسّة إلى برامج تثقيفية وتوجيهية).
لا أحد ينكّر ما تعرض له العراقيون من أذى وإهمال وموجات فساد أهدرت ثرواتهم وحقوقهم في ظل نظام قام على ركام الدكتاتورية، لكن الصحيح أيضا أن الخطأ ليس في النظام البرلماني وهذا ما أشرنا له آنفاً، لذلك لابد أن يكون هذا الواقع المرير نقطة انطلاق للتصحيح، وليس نقطة شروع تعود بنا إلى مربّع القمع والتكميم، ولا شكّ أن الحاجة والنواقص المادية وحتى المعنوية التي تلتف حولَ العراقيين، تؤكّد بأنهم كانوا ولا يزالون يعانون من هذه المشكلة الكؤود.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك في قوله: (العراقي الذي عاش سنين متمادية في ظلام حالك، تطوّقه الاحتياجات الكثيرة من كل الجهات).
لا أحد يختلف على مدى الظلم الذي لحق بالشعب العراقي إبان العهود الدكتاتورية، وحتى بعد الخلاص منها لأسباب بات يعرفها جميع العراقيين، لذلك مع توافر فرصة الحراك الشعبي السلمي الجديد، لابد أن يحصد العراقيون نتائج تليق ببلدهم وتاريخهم، من خلال الإصرار على تفويت الفرصة التي تسعى لإعادتهم إلى المركزية والحاكم الواحد، ولابد أن تُسنَد مهمة بناء العراق لأبنائه، فهم الأحقّ والأجدر بالقيام بهذه المهمة من غيرهم.
ما دور عقلاء الشعب وحكمائه؟
وهل يمكن أن نتوقع من غير العراقيين حرصاً على بناء بلدهم، هذا أمر غير متوقَّع بطبيعة الحال، لهذا فإن شباب العراق هم من يجب أن يتصدَّوْن لمهمة بناء العراق الجديد، وهذا ما تمّ التأكيد عليه مرارا وتكرارا من حكماء وعقلاء الشعب.
سماحة المرجع الشيرازي يؤكد على: (إنّ العراقيين أولى من غيرهم للقيام بمهمة بناء العراق الجديد).
فالمهمة ألقيَت على عاتق العراقيين، وهناك مستويات متباينة في أداء المسؤولية، وهذا يتبع مدى إيمان المواطن والمسؤول ورجل الدين والمثقف وكل شرائح المجتمع، بأهمية دورهم في بناء العراق الجديد، لاسيما بعد أن تمخضّ الحراك الشعبي عن نتائج يعدّها المراقبون أول الغيث على طريق بناء الدولة القوية المستقرّة، فمثلما يكون الإنسان حريصا في أداء مسؤوليته إزاء أسرته وأولاده، عليه أن يشعر بمسؤولية بناء العراق بنفس المستوى.
بهذه الدرجة من الاهتمام والالتزام والمسؤولية، يمكن أن يحقق العراقيون مستويات عالية في بناء الدولة القادرة على حماية الحريات والحقوق الأخرى، وإذا ما تحقّق ذلك بصورة فعلية وجادة، فإن هذه الحماسة والجدية وانتعاش روح المبادرة في بناء الحاضر، سوف يعقبها ضمان محقّق لبناء المستقبل اللائق بمن يجتهد من العراقيين في بناء بلده من دون تردد أو تقاعس، وهو ما أظهره العراقيون في حراكهم الشعبي السلمي الذي أجبر ساستهم على أن يحسبوا لهم الحساب الذي يتكافأ مع قدرات الجماهير على الحسم والضغط والتغيير.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه): (يلزمنا جميعاً العمل على بناء العراق الجديد بأن نمسك بزمام المبادرة، ونعمل بنفس تلك الدرجة من المسؤولية التي نحسّها بإزاء أسرنا وأبنائنا، لضمان مستقبل العراق).
كل المؤشرات التي تجري على الأرض بخصوص عراق اليوم، تؤكد بما لا يقبل الريب، بأن واقعا سياسيا جديدا يتشكل بقوة تحت ضغط الشعب، ومطالباته باستثمار التجربة الديمقراطية على أفضل وجه، وبما يحقق للعراقيين أرفع مستوى من التعويض المعنوي والمادي عمّا تعرضوا له في عقود القمع والمصادرة والاستلاب، واليوم تجيء فرصة التغيير في بناء العراق الجديد، ولا يمكن للشعب العراقي أن يفرّط بها لاسيما وإنّ أكُلُوها بدأت تظهر للعيان.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (آن الأوان لاغتنام الفرصة، اليوم قبل الغد، لبناء العراق من جديد في شتى الأبعاد والمجالات).
لا عودة للدكتاتورية، نعم للديمقراطية التي تضمن حقوق الشعب العراقي من دون استثناء، على أن يتصدى العراقيون أنفسهم لمهمة إعادة بناء العراق سياسيا واقتصاديا وعلميا بما يضمن استقلالية القرار الوطني، ومغادرة الضعف ومعالجة الأخطاء السياسية التي وقع فيها السياسيون السابقون.
اضف تعليق