الحق سوق عظيمة وكبيرة متاحة لجميع الناس، ولكن هناك فجوة كبيرة في الضمائر، من يمتلك ضميرا صادقا سوف يميل إلى الحق، ويجعل منه الهدف الأول والأهم في حياته، وبذلك تكون تجارته رابحة، في الدنيا توجد أسواق عديدة اما في الآخرة لا يوجد إلاّ سوق واحد وهو سوق الحقّ...
يطأ الإنسان دنياه، ليجد نفسه في ربوع دائرة اجتماعية صغيرة، يتعلّم فيها مجاراة الحياة، ويستمد منها الثقافة والأخلاق والدين والأعراف، تلك هي العائلة، ويوم بعد آخر ينمو في داخله رقيب ذاتي يلتصق بكينونته، ويسمى بـ (الضمير)، أو ما يسمى بالوجدان، وهو قدرة الإنسان على التمييز فيما إذا كان عمل ما، خطأ أم صواب، أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل، وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة أو النزاهة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية.
هنا ترتبط راحة الإنسان وسعادته بضميره، فإذا كان راضيا عن نفسه وعمّا يقوم به من أفعال وأقوال تجاه الناس، من خلال نشاطاته المختلفة معهم، فهذا يعني أنّ ضميره في حالة قبول واستقرار واطمئنان، على العكس من ذلك، حين يكون الضمير غير مقتنع ولا راضٍ عن صاحبه، فهذا يعني ارتكاب أخطاء بحق النفس والآخرين، لهذا أصبح ضمير الإنسان قائدا له نحوَ السعادة أو الفشل.
من لا يواجه مصاعب في حياته، ويبحث عن الراحة ويلوذ بالخمول، لن يكون له دور مهم في الحياة، ولن يترك البصمة الخاصة به لمن يأتون من بعده، أما الإنسان الذي يكون مستعدا للمصاعب ولا يخشاها، ويتحمّل أوزارها ونتائجها، فغالبا ما يكون ضميره مستقرا راضيا، لذا هناك معادلة تقول، كلّما كان الإنسان قادرا على المواجهة وتحمّل المصاعب، يكون ضميره مطمئناً، وهذا يعني أفضلية مَن يواجه ويتحمّل ولا ينزوي أو يلهث وراء الراحة.
كثيرا ما قرأنا أو سمعنا بأن الدنيا (قاعة اختبار)، ولن يجد الإنسان ما يريده فيها، فهو لن يحصل على الخلود، حتى لو كنزَ الأموال والذهب، وحتى لو ضاعف من الأولاد والأملاك والأطيان والقوة والجاه والنفوذ، والدلائل كثيرة نجدها في من سبقونا إلى الفناء، (فرعون، وقارون) وغيرهما من واقعنا القريب، ملوك وحكام ورؤساء وطغاة، كل هؤلاء وغيرهم من الناس بمختلف صفاتهم، لم ينالوا الراحة في الدنيا، فهل يمكن أن ننالها نحنُ؟؟
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يجيب عن هذا التساؤل في إحدى كلماته التوجيهية القيمة فيقول:
(الله تبارك وتعالى لم يوفّر لرسوله وحبيبه وأشرف الأنبياء والمرسلين الراحة، فهل يوفّرها لي ولكم. ولذا حاول أن تتحمّل ما تتعرّض له من مصاعب حتى تسعد في الدنيا وفي الآخرة، وحتى لا يؤنّبك ضميرك، وحتى تنام ليلتك براحة).
علينا إحقاق الحقّ
لذلك فإن الإنسان مطالب بالبحث عن سوق يربح منها، غير سوق (الراحة) وتجنّب المصاعب، أملا بحياة مرفّهة خالية من الأعباء، فما هي السوق المربحة؟، إنها تلك التي تبقي على ضمير الإنسان في حالة قبول واستقرار، وإذا تعامل الناس وفق ضمائرهم مع النتائج التي تفصح عنها أفعالهم، فهذا يعني أمريْن:
أولا: إنهم يعملون ما تمليه عليهم ضمائرهم الصادقة الحيّة.
ثانيا: إنهم مستعدون لتحمّل مصاعب المواقف لإحقاق الحق، ولا يضعفون أمام المغريات التي قد تقودهم صوب الحرام وانتهاك الحقوق.
العثور على السوق المربحة يمكن أن يقودنا إليها ضميرنا، فأمامنا أسواق كثيرة ومختلفة، ونتائج التعامل معها مختلفة أيضا، علينا كي نضمن السعادة والنجاح، أن نبحث بدأب عن السوق الصحيحة المشروعة، ولا نلجأ إلى سوق الغش والاحتيال حتى لو أغدقت علينا كنوز الدنيا كلها، فلا فائدة بأموال وسلطة ونفوذ بلا ضمير.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (إنّ الدنيا فيها أسواق متعدّدة، كسوق الذهب، وسوق الأخشاب، وسوق الفواكه، وسوق الكتب وغيرها من الأسواق، وإذا دخل الإنسان أحد هذه الأسواق ولم يوفّق فيه يحاول في سوق أخرى، وإذا لم يتوفّق في السوق الثاني، فسيحاول في سوق ثالث، وهكذا إلى أن يوفّق).
ولابد من التفريق الوجودي بين دارين، الأولى هذه الدنيا التي نعيشها، وهي ليست بـ دار خلود، إنها إلى زوال، فلا فائدة من كل أسواقها، إلا تلك التي تحقق لنا ربحية أخروية، وهذا يرجع إلى الضمير أيضا، فما يرضى عنه الضمير هو الذي يقودنا إلى السعادة، وأعظم الأعمال تلك التي تسعد الإنسان في الدار الأولى والثانية معا، فهل هذا النوع من الربحية ممكناً؟
نعم هناك أنشطة بشرية كثيرة تجمع بين السعادتين، ويمكن اختصار ذلك بالانتصار للحق، فمن ينصر الحق يفلح، ومن يناصر الحق غير الضمير الحي؟، الحق سوق عظيمة وكبيرة متاحة لجميع الناس، ولكن هناك فجوة كبيرة في الضمائر، من يمتلك ضميرا صادقا سوف يميل إلى الحق، ويجعل منه الهدف الأول والأهم في حياته، وبذلك تكون تجارته رابحة وتقوده نحو الخلود.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول عن السوق الرابحة:
(في الآخرة لا يوجد إلاّ سوق واحد وهو سوق الحقّ)
الامتناع القطعي عن فعل السوء
هنا علينا أن نبحث عن هذه السوق، نفتش عن الطرق والسبل التي تقودنا إليها، هناك مسالك كثيرة يمكن أن تقودنا إلى سوق الحق، ولكن يُصاحب ذلك متاعب ومصاعب وفقدان مستمر للراحة، في وقت يمكن أن يجد الإنسان طرق أخرى ليس فيها متاعب ولا مخاطر لكنّ المشكلة أنها (تتخلى عن الحق)، نعم هنالك مسالك لا حصر لها، تبعدنا عن المتاعب، وترمي بالكنوز والأموال في خزائننا بعد أن نقتل ضمائرنا، ونجافي الحق، ونهرب إلى أحضان الدنيا ومغرياتها.
ولكن ما أتعس النتائج!!، وما أبشع ما نحصل عليه من أخطائنا، لذا علينا أن نتمسك بكل شيء صحيح أو نعتقد بأنه صحيح وننصح الناس بالقيام به، من طبائع البشر التأثر بالآخرين، والإعجاب بما هو ناجح من الأفعال والأعمال، لذلك كل شيء نراه جيدا عند الناس علينا القيام به بأنفسنا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ينصح بذلك فيقول: (أيَّ شيء تراه حسناً بحيث إذا عمله غيرك تقول له أحسنت، حاول أن لا تترك هذا الشيء وإن صعب عليك) القيام به.
وعلى العكس من ذلك، فإن كل شيء نراه سيئا عند الناس يجب أن نمتنع عن القيام به ونتجنبه، كونه مخالفا للضمير ومناقضا له، فضلا عن كونه يذهب بنا إلى السوء، حتى وإن كان ذا منفعة آنية، فليس العبرة أن تكسب الأموال وتكنزها، بقدر ماهيّة النتائج، وطرائق كسب هذه الأموال ومدى قربها من المشروعية، وهل أنّ ما سيترتب عليها ظلم الآخرين والتجاوز على حقوقهم أم لا؟، المهم أننا يجب أن نمتنع عن الإتيان بالأفعال السيئة والمسيئة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه): (كل شيء وكل كلمة وكل موضع وكل أسلوب تراه غير صحيح وتراه سيّئاً بحيث إذا عمله غيرك تقول له لا، حاول أنت أن لا تصنعه حتى وإن كان فيه منفعة دنيوية).
خلاصة ما تقدّم في أعلاه، هنالك ضمير هو الذي يمكنه إنقاذنا مما قد يذهب بنا إلى الدرك الأسفل، وهذا الإنقاذ لا يقتصر في نتائجه على واقعنا ودنيانا التي نعيشها اليوم، بل يمتد إلى الدار الأخرى في تأثيره ونتائجه، لذا من الأفضل أن نتمسّك بالقاعدة التي رسمها سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، والتي تقول: (نعم للشيء الحسن، ولا للشيء السيئ).
اضف تعليق