الجهود الجمعية في البناء الخلاق، تحتاج إلى وعاء جامع وقائد ومدبّر لها ولمساراتها ونشاطاتها المتعددة، وهذا لن يتحقق إلا بوجود نظام لا مركزي إداري صالح، حكومة لها قدرة اتخاذ القرار المستقل، وتمتلك الرؤية الثاقبة، وتتناغم في توجهاتها السياسية والاقتصادية مع يجري في العالم من تطورات يومية هائلة...
العراق بلد مختلف عن سواه في أمور وشؤون كثيرة، فهو لا يشبه غيره من البلدان كأرض ووقائع وكتاريخ، من هنا وتأسيسا على هذه التميّز التاريخي والواقعي، ينبغي التنبّه لما يجري في العراق من قبل الجميع، خصوصا أولئك الذين يهمهم هذا البلد ويرتبطون به روحيا أو ماديا، فما حدث ويحدث في العراق أمر معقّد وينطوي على الكثير من علامات الغموض، وتثير الأمور التي تجري فيه كثيرا من علامات الاستفهام، وغالبا ما تذهب التحليلات - حتى المستقلة منها- إلى وجود مآرب ومخططات مسبقة معدّ لها مسبقا لإلحاق الأذى بالعراقيين، وكأنّ هؤلاء المخطّطون لم تكفِهم عقود طويلة من الأذى والحرمان والقمع الذي طال حياة العراقيين في أنظمة أقل ما توصف به هو الطغيان والظلم والفردية المريضة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول: (ينبغي على الجميع الانتباه والالتفات لما يجري في العراق).
إن من يطلّع على مجريات الأمور في العراق منذ ما يقرب من خمسين عاما، سوف يكتشف بسهولة، أن حياة العراقيين عبارة عن سلسلة من الأزمات المترابطة مع بعضها، فما أن تنتهي أزمة حتى تربطهم بأخرى، وهكذا تحولت حياتهم في كل المجالات إلى واقع متأزّم مليء بالنواقص والأخطار، فبلغ الحرمان أشدّه، وأخذ منهم القمع ما أخذ، وبطش بهم الفقر رغم أنهم يعيشون في أرض تعد من أعنى بلدان العالم بثرواتها وخيراتها، والمشكلة أن هذه الأوضاع لا تزال تهيمن على حياة العراقيين وتبطش بها حتى بعد الخلاص من أعتى الدكتاتوريات.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (ابتلي العراق اليوم، رجالاً ونساء وشباباً، بأزمة مزدوجة، فهو ومنذ خمسين عاماً ينتقل من أزمة إلى أزمة، ومن أمر شديد إلى أمر أشدّ، ومن صعب إلى أصعب، وفي الوقت الحاضر تضاعفت هذه الأزمة بالنسبة إلى كل فرد عراقي، والجميع يعلم سواء عن طريق وسائل الإعلام العامة، أو من طرقهم الخاصة، أن العراق يمرّ بأوضاع معقّدة جدّاً، لا يعلم مداها ومنتهاها إلاّ الله).
شيء متوقَّع وطبيعي أن تجد العراقيين مطوَّقين بالاحتياجات الكثيرة، صغيرها وكبيرها، وحين أزيحت الدكتاتورية، وتم إطاحة النظام المتجبّر البائد، كان الأمل يحدو الجميع أن تتغير حياتهم، وأن يعيشوا بما يتناسب وكرامة الإنسان ويضمن العيش الكريم له، لكن الحاجة لا تزال تعصف بالناس، حتى الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء عزَّت عليهم، وضاعت أحلامهم أدراج الرياح، والأسباب ليست عصيّة على الفهم، ولا ينبغي أن يستغرب أحد من مطالبات العراقيين بحقوق تبدو مستغربة لدى غيرهم، فهي في الحقيقة ليست حقوق وإنما حاجات أساسية لا يمكن للإنسان أن يواصل العيش العادي من دونها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (العراق عاش سنين متمادية في ظلام حالك، تطوّقه الاحتياجات الكثيرة من كل الجهات).
لماذا يتظاهر العراقيون بهذا الزخم؟
هناك تساؤلات تتردد على ألسنة كثيرين، ومنهم بعض الساسة أو القادة، لماذا يتظاهر العراقيون اليوم؟، ولا يسأل هؤلاء أنفسهم كيف هو أداءهم لواجباتهم، وهل قاموا بأدوارهم كما يجب، وهل عاش العراقيون بنمط عيش يليق بهم، ويعوضهم قليلا عمّا لحق بهم في أنظمة الانقلابات العسكرية الفردية الدكتاتورية؟، بالطبع لم يحصل العراقيون على نمط العيش الكريم الذي كانوا يحلمون به بعد زوال الأنظمة الظالمة، فمن حقهم أن يتظاهروا سلميا وأن يطالبوا بما ينقصهم، ليس في مجال الحاجات الأساسية وحدها، وإنما في مجال الحقوق التي تنقص حياتهم.
ولكن يبرز هنا سؤال أو أسئلة غاية في الأهمية، لماذا لم يعش العراقيون الحياة الكريمة التي كانوا يحلمون بها، وما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك، ولعل أول ما يتبادر لذهن السائل أو الباحث أو المحلِّل أو حتى المواطن العادي، هو النظام الذي يدير شؤون الناس ويحكمهم، نعم إن أول المسؤولين عن تردّي وتدنّي مستويات العيش للعراقيين وخصوصا الشباب منهم هو النظام الإداري (الحكومة) التي تسوسهم وتتحكم بحياتهم وشؤونهم، وهذا يعني أن النظام الإداري يعاني من مشاكل تجعله غير صالح.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه): (جلّ المآسي والمعاناة التي تواترت على الشعب العراقي، طيلة العقود الماضية، وعمدتها مردّها غياب النظام الإداري الصالح).
النظام الإداري (الحكومة) التي تقوم على شؤون العراقيين، وتدير حياتهم بمختلف مجرياتها ومجالاتها، هي المسؤولة عن النجاح أو الفشل، وهذا يستدعي من النظام السياسي إعادة النظر في أسباب الخلل ومعالجتها، حيث يطالب سماحة المرجع الشيرازي الحكومة العراقية بأن تكون كالأب الرؤوف لكل العراقيين، وانطلاقا من هذا الشعور يمكنها أن تعالج كل مكامن الأخطاء، على أن يتحوّل هذا الشعور إلى دافع للتصحيح وسوف يكون كذلك إذا كان حقيقياً.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (ينبغي على الحكومة في العراق أن تعتبر نفسها أباً رؤوفاً لكلّ فرد من أبناء هذه الأمة المفجوعة).
مسؤولية نجاح العراق تشمل الجميع
لذلك خرج العراقيون في احتجاجات متواصلة، يطالبون بتغيير حياتهم في عراق ينبغي أن يكون بالمستوى المطلوب كما يصفه سماحة المرجع الشيرازي، وينبغي أن يكون التغيير الحكومي القادم مناسبا للتصدي للأوضاع المستجدة وملامسا لما يطالب به المحتجون، لأن أية حكومة على نسق الحكومات السابقة لن تكون قادرة على تغيير حياة العراقيين، بل ربما ستقودهم إلى أخطاء مضافة ربما تلحق الضرر بالجيل القادم والأجيال التي ستتبع ذلك، لذا ينبغي أن تنطلق خطوات التغيير الحكومي من صعوبة ما تتصدى له من مهمّات بالغة الأهمية أو استثنائية، لأن عدم القدرة على التغيير يعني بقاء الأخطاء الكبرى كما هي واستمرارها إلى مستويات أسوأ، وعدم الاكتفاء بالأضرار الكبيرة التي تدمّر حياة العراقيين حاضرا، وإنما تتعدى ذلك إلى المستقبل، فتجعل منه أكثر سوءاً وهنا تكمن الطامة الكبرى.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) وجّه تنبيهاً للنظام الإداري في العراق يؤكّد فيه على أن: (أية إدارة لا تكون في عراق المستقبل بالمستوى المطلوب فستكون مقدّمة لسلسلة من المشاكل للجيل الصاعد والأجيال الآتية، لا سمح الله).
ولكن لابد أن نفهم بأن الجميع تقع عليهم مهمة البناء الخلاق لعراق جديد يبني جميع العراقيين ركائزه الراسخة التي يقوم عليها بعيدا عن الظلم والطغيان والجهل، فالعالِم يقع عليه جانب من المهام التي تتناسب مع قدراته ومؤهلاته، والشيء نفسه يقع على المثقف والمدرّس والأستاذ الجامعي والرياضي والعامل والفلاح والطالب والشيخ والشاب والمرأة، فجميع العراقيين هم بناة العراق في تجربته الجديدة، مع أهمية أن يكون حجم المسؤولية متناسبا مع مركز الإنسان ووظيفته، فالحكومة يقع عليها الجهد الأساس في التغيير، وهذا ما هو مطلوب من الحكومة العراقية القادمة بعد تشكيلها، وهكذا بالنسبة للجميع، فالعراقيون بلا استثناء، مطالبون ببناء العراق الجديد كل حسب قدرته ومؤهلاته، على أن يتعاون الجميع للارتقاء بالشرائح العراقية كافة كي ينهض الجميع بعملية البناء النموذجية للعراق.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (بناء العراق الجديد يتمّ بأن يتصدّى جميع العراقيين من عالم ومثقّف، ومدرّس وأستاذ، وشيخ وشاب، وطالب وكاسب، وموظّف وعامل، ورجل وامرأة وغيرهم للملمة الأمور وسدّ الثغرات، وتفعيل الطاقات وتعبئة الكفاءات، والنهوض بكافّة شرائح المجتمع).
وهذه الجهود الجمعية في البناء الخلاق، تحتاج إلى وعاء جامع وقائد ومدبّر لها ولمساراتها ونشاطاتها المتعددة، وهذا لن يتحقق إلا بوجود نظام لا مركزي إداري صالح، حكومة لها قدرة اتخاذ القرار المستقل، وتمتلك الرؤية الثاقبة، وتتناغم في توجهاتها السياسية والاقتصادية مع يجري في العالم من تطورات يومية هائلة، لا يزال العراق متأخر عنها بسبب أخطاء إدارة الموارد البشرية والطبيعية، وليس لدى الساسة المزيد من الوقت للتصحيح، وربما تكون هذه فرصتهم الأخيرة إن لم تكن قد ضاعت بالفعل.
اضف تعليق