الذين سقطوا أثناء تأدية مراسيم عاشوراء، هؤلاء شهداء، والشهداء (أحياءٌ عند ربهم يُرزقون)، كما يؤكد النص القرآني المبارك، ومن أحق من شهداء عاشوراء بهذه المنزلة وهذا الجزاء؟، لاسيما أن واقعة الطف تتجدد كأيّ شيء مسكون بالحياة والاستمرارية، ففي كل يوم جديد، يزداد الوهج الحسيني سطوعا...
الذين سقطوا أثناء تأدية مراسيم عاشوراء، هؤلاء شهداء، والشهداء (أحياءٌ عند ربهم يُرزقون)، كما يؤكد النص القرآني المبارك، ومن أحق من شهداء عاشوراء بهذه المنزلة وهذا الجزاء؟، لاسيما أن واقعة الطف تتجدد كأيّ شيء مسكون بالحياة والاستمرارية، ففي كل يوم جديد، يزداد الوهج الحسيني سطوعا، ويتسامى نور فكره وقيمه وتتجدد مبادئه المتوقدة.
يتكاثر محبو الإمام الحسين عليه السلام، شرقا وغربا، ففي كل عاشوراء، حيثُ تُقدَّم القرابين على دروب الحرية، ويعلو صوت الحق ليعلن القصاص من الطغاة المفسدين الفاسدين، ويضع الملايين من المؤمنين أرواحهم في حومة الفداء على طريق عاشوراء، أملا في الوفاء لموقف سيد الشهداء، وعملا في قيمه ومبادئه.
وفي ذكرى عاشوراء التي مرت بنا هذه الأيام، قدَّم عدد من الشهداء أرواحهم فداءً لإمامهم في (ركضة طويريج)، وهي ليست التضحية الأولى ولن تكون الأخيرة، فالقضية برمّتها صراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الخلود والفناء.
وكم أراد المعادون لنهج الحسين عليه السلام أن يطفئوا هذا النهج، وكم بذلوا من محاولات مستميتة لإخماد النور الحسيني، بيد أنهم فشلوا ورُدّوا على أعقابهم معفَّرين بوحل الخيبة والهزيمة، ذلك أن نور الحسين ومبادئ عاشوراء حيّة ما بقيت الكائنات البشرية على قيد الحياة، وكل محاولات التطاول والمحو والتجاهل ونصب العداء، ذهبت أدراج الرياح وعصفت بها الهزيمة والزوال، وظلّ الضوء الحسيني المبارك مشعّا على مدى القرون وسيبقى ما دامت الحياة قائمة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية):
(اعلموا أن مصباح الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه، ورغم محاولات الأعداء الكثيرة التي أرادوا بها أن يطفئوا نوره، قد بقي منيراً على مدى أربعة عشر قرناً، وسيبقى منيراً إلى يوم القيامة).
مواقف كفاحية خالدة
وإذا كان الناس من غير المسلمين، أشادوا بمبادئ الحسين عليه السلام، وعظّموا تضحياته الجسام، وأكبروا مواقفه الكفاحية الخالدة، وهو أمر أثبتته شهادات من عظماء الأمم الأخرى مثل غاندي زعيم الهند الخالد.
فما بال المسلمين، حين يرون بأم أعينهم إشعاع النور الحسيني يتمدد ويتسع ليملأ الأرض كلها، أملا بالخلاص من المجرمين الفاسدين المتجاوزين ظلما وجورا على حقوق الناس، وخاصة فئة الحكام والساسة الذي يتحكمون اليوم بمقدّرات الأرض، وأولئك الذين يُحسَبون على المسلمين والإسلام منهم براء، وهم يرون الزيارات المليونية، ويلمسون تضحيات الزوار الكرام، التي بلغت مراتب الشهادة في سبيل النهج الحسيني ومبادئ عاشوراء.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لقد أثنى الكثير من غير المسلمين، بل ومن عبّاد النار، على الإمام الحسين سلام الله عليه).
ألم يتساءَل أعداء الحسين عليه السلام، لماذا يقدم الناس اليوم أرواحهم فداءً في سبيل سيد الشهداء، ألم يسأل البغاة أنفسهم، لماذا يشارك الملايين في إحياء عاشوراء، ألم يختلوا بأنفسهم مرة واحدة، ويحاولوا تفسير هذا التدفق المليوني العاشورائي بلا كلل أو ملل؟، ألم يسمعوا كم يتمنى زوار الحسين نيل الشهادة بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام؟.
لماذا يكون الإنسان على استعداد تام للتضحية بنفسه من أجل عقيدته ومبادئه والقيم التي يؤمن بها، لابد أن هناك أسبابا كافية لم يتوصّل لها أعداء الإمام الحسين والممانعين لإحياء مراسيم عاشوراء، فالربط بين احترام قيم النهضة الحسينية وتطبيقها في حياتنا، وبين الاستعداد للشهادة والتضحية بالنفس، كان ولا يزال الهدف الأسمى للمحب الحقيقي المخلص لمبادئ الحسين عليه السلام.
هؤلاء الذين نجحوا في الإيمان بقيم عاشوراء وإقرانها بالتطبيق الواقعي، هم الذين يستحقون شفاعة الإمام الحسين عليه السلام، ويستحقون الثناء في الدنيا، وأفضل الجزاء في الآخرة، ويوم نقف بين يديّ الله تعالى، سوف نرى ونلمس ما يحصلون عليه من مراتب عليا للثواب الذي يستحقونه مقابل تضحياتهم ومؤازرتهم للحق ووقوفهم بوجه الباطل ممثلا بالفاسدين والعابثين من حكام وقادة ظالمين.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد على منزلة الشهداء الأبرار قائلا:
(هنيئاً للزوّار الذين استشهدوا وهم في زيارة أهل البيت سلام الله عليهم، ففي الغد نغبطهم وسنرى إن شاء الله مقامهم الرفيع يوم القيامة).
الشهداء طريقنا نحو الحرية
إنه الدرس الواقعي المتجدد الذي يجب على الساسة والقادة وكل الذين يستخفّون بالقيم العظمى، أن يستوعبوا هذا الدرس السنوي المتجدد، وأن يصححوا أخطاءهم ويشذبوا مناهجهم، وينظرون إلى الشهداء على أنهم طريقهم إلى السمو على الذات وعلى المطامح وعلى اللهاث المحموم نحو المادة والجاه والسطوة، ولابد أن يعي ويؤمن الجميع بأن قيم عاشوراء تستحق الشهادة، وأن من وقع اليوم شهيدا في هذه الزيارة الخالدة سيجد مكانه في نعيم الله.
أما أولئك الذين حضروا هذا الدرس ولم يستفيدوا منه، أو أولئك الذي أحجموا عن حضور هذا الدرس العاشورائي، طمعا بالدنيا، فإنهم يفقدون الفرصة تلو الأخرى ليصلحوا أنفسهم، ذلك أن الفرص العظيمة غالبا ما تكون فريدة من نوعها، فعلينا استثمارها قبل أن تذهب سدى، أما أولئك الذين يمنعون الناس من إحياء مراسيم عاشوراء كما قام بذلك الطغاة وأدواتهم، فإن مكانهم الدرك الأسفل من النار.
وكم أثبتت صفحات التاريخ، أن كل من يقف ويعرقل الشعائر، أو يسعى لإلحاق الأذى بالزائرين الكريم، فإن عذابهم وهوانهم في الدنيا سوف يسبق عذابهم في الآخرة، وهذا الدرس يتكرر أمام أعين وعقول الطغاة في كل حين، لهذا فإن من ينال الشهادة في رحاب الحسين عليه السلام، مكانه في جنان الله، وذكراه تبقى خالدة ما بقي الدهر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (لا شكّ أن الذين قتلوا استشهدوا، قد مضوا إلى نعيم الله تعالى، ولكن الويل لأولئك الذين ظلموا معزيّ الإمام سيد الشهداء سلام الله عليه).
أُسدل الستار وبدأنا نودِّع أريج عاشوراء، وكلٌ منّا سيعود إلى بلده ومدينته، ويعاود العيش والحركة والنشاط المعتاد، ولكن هل انتهى يوم عاشوراء، هل ينسى المسلمون وقائع ما حدث، هل تبرد حرارة ما تعرض له أبناء وأسباط الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من تجاوزات ومذابح ترقى إلى أبشع ما يمكن أن يتعرض له الإنسان من تجاوز، ولكن ما هي النتائج المستخلصة من الواقعة التي لا تُمحى على مر الأزمان والعصور؟
النتائج هي انتصار خالد ومتجدد لمبادئ ونهج وقيم عاشوراء، وتوسع وامتداد أزلي متصاعد لمنهج الحسين عليه السلام في التعامل البشري المتبادل، حيث التسامح والعفو والتكافل والإنصاف والعدل والحرية، هذه قيم تناسب الفطرة البشرية، وهي التي تدفع بالملايين إلى التدفق نحو المنهج الحسيني واعتناق الفكر والقيم التي تنصف الإنسان وتحترمه وتبني شخصيته الأعظم.
نعم إن هذه الأيام المعطّرة بالأريج الحسيني التي بدأت بالمرور أمام أعيننا وبصائرنا، لا ينبغي أن تمر من دون أن نوظفها أقصى وأفضل توظيف، كونها نافذة الخلاص التام من الوجه المظلم للدنيا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ينصح بقول شديد الوضوح:
(لقد انقضى يوم عاشوراء (من هذه السنة) إلاّ أن مصائب أهل البيت سلام الله عليهم لم تنقض بل بدأت من (اليوم)، فلا ندعها تمرّ علينا دون أن نستفيد منها على الوجه الأحسن).
ويبقى شهداء عاشوراء علامات مضيئة وفنارات إيمانية عقائدية مشعة في التاريخ الإسلامي، فمن مضى شهيدا في رحاب الحسين وكربلاء، حجزَ له مكانة يتمناها جميع المؤمنين، ويتعلم منها أو يجب أن يتعلم منها الجميع وخاصة القادة والمسؤولون، يتعلمون الدرس جيدا ويحفظونه ويطبقونه وفق قيم عاشوراء ومبادئ الإمام الحسين عليه السلام، وهي قيم الحق والإيمان والتكافل والإنصاف والعفو والسلام والحرية، وستبقى قلوبنا تنبض بالحب الحسيني، وأفواهنا تلهج بذكر الحسين، وعيوننا منذُ الآن تربو مجيء الذكرى القادمة بإصرار وأمل مقرون بالعمل الصالح، وبالتقوى التي لا تزلزلها الإغراءات الدنيوية مطلقا.
اضف تعليق