إذا آمن الحاكم وحكومته بأن الحكومة إدارة وعمل وظيفي، وليس سلطة وامتيازات، لأن النجاح سيكون حليفها، أـما إذا نظر الحاكم للحكومة على أنها سلطة وامتيازات ومغانم، عند ذاك سوف يتحول إلى طاغية شرير، وليس موظفا إداريا يختاره الشعب ويمنحه شرعية القيادة الإدارية لا أكثر...
في ظل الحكومات الناجحة تسود علامات ومؤشرات أكثر وضوحا من سواها، أول تلك العلامات السياسة العادلة، وحماية الحقوق المدنية، وحفظ كرامة المواطن، وتحقيق مستوى معيشي جيد، وإطلاق حرية الرأي وحماية هذا الحق، وعكس هذا يحدث غالبا في ظل الحكومات الفاشلة، حيث ينظر بعض الحكام الى السلطة كأنها ملك صرف له ولمعاونيه، لكن الحكومة في حقيقة الأمر هي عبارة عن مجموعة وظائف يقوم بها عدد من الوزراء يقودهم رئيس يسمى بـ (رئيس الوزراء)، أو رئيس الجمهورية في النظام الرئاسي، هدفها إدارة شؤون الدولة.
فالحكومة ليست ميزة على الآخرين، وملء المنصب الحكومي الكبير أو الحساس ينبغي أن لا يمنح صاحبه تمييزا على الآخرين تجاه القوانين السارية، باستثناء من هو حاصل على الحصانة، وهذه لا تُعطى لأي كان، وإنما هنالك تشريعات معروفة في كل دول العالم تمنح بعض موظفيها حصانة من الملاحقة القانونية وفقا لتشريعات دستورية يقرها مجلس النواب أو الجهات التشريعية المختصة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يوضّح رؤيته للحكومة وطبيعة مهامها، فيقول سماحته بدقةٍ ووضوح: (الحكومة إدارة وليست مُلكاً).
من الأمور التي لا تحتاج إلى نقاش أو تفسير، إن المناصب الحكومية بكل ما تتوفر عليه من نفوذ وامتيازات، لا يمكن أن تكون من ضمن ممتلكات الحاكم، فهي وظيفة حالها حال الوظائف الأخرى، والحاكم أو الوزير ليس أكثر من موظف يتقاضى أجرى على خدمته التي يقوم فيها بحسب ما تقتضيه الوظيفة، وبالتالي فهي قضية إدارة لا أكثر، ولا يمكن أن تكون نوعا من أنواع الامتلاك، ولكن في قراءتنا للتاريخ الإسلامي السياسي، سوف نلاحظ بسهولة كيف تحولت الحكومة من إدارة إلى امتلاك، وقد بدأ ذلك بالعصر الأموي ثم العباسي حيث صارت السلطة ملكا صرفا يتوارثه الأبناء عن آبائهم، ولا نقاش في هذا الأمر، وقد أدى تكريس هذا المنهج الى القمع والتجويع والإقصاء والتعذيب كوسائل يحمي بها الحكام هذا الملك ونعني به العرش من خلال التجاوز على حقوق الأمة وتجويعها.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يشدّد على هذه القضية وهو يخاطب الشباب بقوله: (أيها الشباب الأعزّة! عليكم بالتاريخ).
سجلات التاريخ كفيلة بتزويد العقول الشابة وغيرها، بأفضل التجارب الحكومية وأسوئها، وهنا سيكون الإنسان بين خيارين، أما أن يذهب إلى الاستفادة من التجربة التاريخية، لصالحه، أو يحدث العكس، فيكون سوء الإدارة الحكومية وبال على الجميع.
الموت جوعا بسبب الاستبداد
متى يمكن أن يموت الناس من الجوع، وما هي أسباب ذلك، وهل حدث فعلا أن مات إنسان بسبب الجوع، في السابق نعم هناك شواهد تؤكد أن الحكومات الفاشلة لم تكن تبذل ما يكفي لتحقيق العدالة الاجتماعية، وقد مات من الجوع فعلا، الصحابي الجليل (أبو ذر الغفاري)، والسبب دائما هو تقصير الحكومات وجعلها من السلطة ملك للحاكم ومعاونيه من الوزراء، وحين تصبح الحكومة ملكا، هنا لابد أن تكون النتائج كارثية على الأمة.
وما يثير الاستغراب حقا، أن الحكومات الزمنية الحالية لم تتعلم من النموذج الحكومي الباهر لقيادة الإمام علي (ع) للأمة الإسلامية في عهده، حيث توسعت الدولة لتصبح واسعة تعد أكثر من خمسين دولة من دول الحاضر حيث امتدت الى الصين واسبانيا وسواهما، ومع ذلك لم تجد فقيرا واحدا فيها ولا جائعا، ولا شخصا مرميا في السجن بسبب رأيه المعارض للحكم.
ويعطينا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) شاهدا على ذلك فيقول: (ممن مات من الجوع هو الصحابي أبا ذر الغفاري رضوان الله تعالى عليه. بينما لم يمت حتى شخص واحد من الجوع في حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ولم يكن حتى سجين سياسي واحد أو قتيل سياسي واحد في حكومته صلوات الله عليه. ولم يُعثر على شخص عاش بلا بيت ملك له).
ولذلك كانت رؤية الإمام علي (ع) للسلطة على أنها تكليف وليس تشريف، وهي وظيفة خدمية إدارية لا أكثر، ولا يمكن أن تكون وسيلة لسلب المال العام، أو لاستخدام القوة الغاشمة ضد الناس أو قمعهم، أو الاعتداء على الآخرين، لذلك كان من أهم مبادئ هذه الحكومة أنها لن تبدأ الحرب مع الآخر قط، وهي سياسة انتقلت إلى الإمام علي عليه السلام من الرسول صلى الله عليه وآله، حيث كانت سياسته تتركز على الجنوح الى السلم في حال جنح إليه الطرف الآخر، ولم يبدأ الرسول (ص) أحدا بالحرب قط.
أما حين ينظر الحكام الى الحكومة على أنها ملك لهم، ووسيلة لتحقيق غاياتهم البائسة، ووسيلة لمعالجة أمراضهم النفسية، فإن الحال هنا سوف يختلف، وسوف ينظر الحاكم الى الحكومة على أنها من أملاكه الشخصية وليست وظيفة إدارية يتقاضى عنها راتبا شهرية كأي موظف آخر، أمام الإمام علي عليه السلام فكان على العكس من الحكام الذين استغلوا السلطة كما يفعل الآن بعض حكام العراق والعرب، فيستغلون السلطة لصالحهم وأبنائهم، ويتركون الجوع يطيح بالفقراء ويعبث بهم، في كان عليهم أن يتعاملوا مع الحكومة كما تعامل معها علي (ع).
فالإمام علي صلوات الله عليه كان يعتبر الحكومة: (إدارة وليست ملكاً)، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).
كيف نقضي على أسباب الفقر؟
ولكي يتم القضاء على أسباب انتشار الفقر والجوع بين الناس، ينبغي تحاشي الحروب، وعدم منح الخصم فرصة لإشعال فتيل الحرب، والانشغال بالعمل في إطار الدولة المدنية المستقرة، وهذا كان يستدعي تجنب سفك الدماء بكل الجهود الممكنة، إذ من المستحيل الجمع بين الحرب وبناء الدولة، لذلك سعى الإمام علي (ع) الى تحاشي الاصطدام واللجوء الى إقناع الطرف الآخر بالدخول في حوار مسالم.
نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي بكلمته المذكورة نفسها: (كان الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه يتجنّب الحروب وإراقة الدماء. ففي حرب صفين أرسل الإمام صلوات الله عليه، إلى معاوية بعض رسله ليقنعوه بعدم الحرب، فرفض معاوية وبدأ الحرب).
أولئك الحكام الأمويين كانوا مهووسين بالحرب، ولا يهمهم إلحاق الأذى بأفراد الأمة، ولا يهمهم الانشغال عن البناء والزراعة، كما لا يهمهم زيادة نسبة الفقراء في مقابل ازدياد البذخ ومظاهر الغنى التي يستولي عليها حكام بنو أمية من بين أموال المسلمين فيقومون بصرفها على ملذاتهم ورغباتهم الفردية والعائلية الزائلة، وهذا كان سببا مهما في انتشار الجوع والفقر بين المسلمين، بعد أن كان الإمام علي (ع) يستغرب وجود فقير واحد في الدولة المترامية الأطراف.
إن الكف عن سفك دماء المسلمين كان هو المبدأ الأساس في سياسة الإمام علي (ع)، لأنه يحمي الأمة من الأذى، ويبعدها عن الانشغال بالحروب، وبدلا من ذلك يجعلها تنشغل بالإنتاج والزراعة ومضاعفة القوة الاقتصادية للدولة، لهذا كان منهج الإمام هو الجنوح الى السلم، وهذا ما حدث بالفعل، فما أن توقف معاوية عن الحرب توقفتْ، لأن الإمام علي (ع)، يرفض الحرب رفضا قاطعا، ولا يدخلها أو يخوضها إلا تحت حالة الاضطرار، وهي الدفاع عن النفس.
خلاصة الكلام، إذا آمن الحاكم وحكومته بأن الحكومة إدارة وعمل وظيفي، وليس سلطة وامتيازات، لأن النجاح سيكون حليفها، أـما إذا نظر الحاكم للحكومة على أنها سلطة وامتيازات ومغانم، عند ذاك سوف يتحول إلى طاغية شرير، وليس موظفا إداريا يختاره الشعب ويمنحه شرعية القيادة الإدارية لا أكثر.
اضف تعليق