q
لقد اضحى القانون اليوم هو عماد الدولة الحضارية الحديثة، فضلا عن الاعلام الحر، والمحاكم، والمعارضة السياسية وغير ذلك من معالم ومرتكزات الديمقراطية. فالمجتمعات لا يمكن ان تستقيم حياتها وتتقدم دون ان تستقر على اساس الاحترام الجماعي للقانون العادل والمنصف الذي يصبح بمثابة دين المجتمع الملزم للكل...

نشرت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر فيه احد ضباط شرطة مدينة اربيل وهو يحرر مخالفة بتغريم قائد القوات البرية، جمعة عناد بسبب سيارته المظللة.

علّق احدهم على الحادثة بقوله: "القانون فوق الجميع أينما كان".

فيما علق ثان في موقع اخر بقوله: "اهانة قائد القوات البرية جمعة عناد".

وتثير هذه المسالة الجزئية موضوعا اساسيا في مجتمعنا وهو: سيادة القانون ونفاذه على الجميع.

فالمعروف ان المجتمعات تبدأ مسيرتها الحضارية وتتعمق هذه المسيرة يوم تبدأ بتطبيق القانون. حصل هذا في بريطانيا عام ٩٣٣ حينما بدأ الملك أثيلستان الذي حكم في الفترة مابين 895 إلى 939 بتوحيد القانون الانجليزي. وهذا ما يعده المؤرخون بداية التطور الحضاري في المجتمع البريطاني الذي شهد محطات اخرى نحو الديمقراطية مثل محطة التوقيع الماجناكارتا عام ١٢١٥ وغيرها.

والعراق كان من اول المجتمعات التي عرفت القانون على يد الملك البابلي حمورابي (١٨١١-١٧٥٠ قبل الميلاد) في مسلته الشهيرة رغم ان المسيرة الحضارية العراقية لم تشهد تراكما متصلا كما حصل في بريطانيا. فقد شهد المجتمع العراقي الكثير من القطوعات الحضارية التي ادت بمرور الزمن الى تراجع هيبة القانون، وقلّ او انعدم احترامه من قبل الناس، وصعدت بدلا منه اعراف وسنن محلية وعشائرية. وحلت نتيجة ذلك الوساطات والمحسوبيات والرشاوى محل الالتزام بالقانون. واثر ذلك كثيرا على المجتمع وعلى قدرته على التقدم وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين، ما عمق التخلف الحضاري الذي بدأ المجتمع العراقي يعاني منه منذ سقوط بغداد على يد المغول عام ١٢٥٨.

لقد اضحى القانون اليوم هو عماد الدولة الحضارية الحديثة، فضلا عن الاعلام الحر، والمحاكم، والمعارضة السياسية وغير ذلك من معالم ومرتكزات الديمقراطية. فالمجتمعات لا يمكن ان تستقيم حياتها وتتقدم دون ان تستقر على اساس الاحترام الجماعي للقانون العادل والمنصف الذي يصبح بمثابة دين المجتمع الملزم للكل.

والقانون لا يقتصر على النص القانوني فقط بل لا بد من توفر المحاكم والسجون والقضاة ومنفذي القانون كالشرطة، اضافة الى الاحترام المعنوي له من قبل الحكام والمحكومين على السواء، من قبل مسؤولي الدولة ذوي النفوذ والسلطان، ومن قبل عامة المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة.

ان حادثة ايقاف سيارة مسؤول كبير بسبب مخالفة قانونية او مرورية تشكل حدثا بسيطا في المجتمعات التي تعودت على حكم القانون واحترامه، والامر يمضي بسهولة وتحرر المخالفة باسم المركبة وصاحبها بكل يسر وبدون نقاش واعتراض، اللهم الا في حالة وجود جدل حول قانونية المخالفة نفسها.

اما في المجتمعات التي لم تتعود على احترام القانون فان الامر لا يبدو كذلك. فسرعان ما يتم النظر الى المخالفة من زاوية الدرجة الوظيفية العالية لمرتكبها، وشخصنة الامر، واعتباره بالنتيجة "اهانة" للمسؤول كما علق احدهم. ولكن لو نظرنا الى الموضوع من زاوية الزامية القانون وتطبيقه على جميع الناس، بلا تمييز او تفريق لاعتبرناه اجراءً عاديا لا يتعلق بالمكانة الشخصية للمسؤول.

والامر في نهاية الامر متعلق بالثقافة العامة السائدة في المجتمع والتربية التي يتلقاها المواطن في المدرسة في السنوات المبكرة من حياته اذا كانت المدارس تتبع نظاما تربويا مجسدا لقيم ومتطلبات الدولة الحضارية الحديثة. وهذا يعيدنا مرة اخرى الى الحديث عن هذا النظام التربوي وضرورة اعادة بناء المناهج الدراسية بالطريقة والمضمون المنتج لمواطن يحترم القانون ويؤمن بالزاميته الشاملة، من بين امور اخرى كثيرة. كل عام يمضي دون اعتماد مثل هذا النظام التربوي الحضاري الحديث يؤخر عملية التغيير الحضاري للمجتمع العراقي.

..........................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
أحبائي
مشكلة المشاكل في عالم البشرية أن القانون الدولي ليس فوق الجميع
الدول العظمى والإستعمار القديم فوقه ويتم تطبيقه على دول الغلابة الجرابيع
أما في دولنا فهناك بعض الأشخاص يخشى القانون ذكر هم وبينهم وبينه السد المنيع
ولايوضع في أقفاص القانون ليطبق عليه مواده ونصوصه الا كل غلبان مسكين وضيع
أقول ذلك ليس بصفتي كاتبا فقط ولكن كدارس أكاديمي للقنانون ولم أمر عليه كقارئ سريع
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن التعليق وآدابه...واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة2019-08-08