الأزمة المالية ليست قدرًا محتومًا، بل هي نتيجة طبيعية لاقتصاد ريعي متخلف، والدولة الحضارية الحديثة لا تعالجها بالحلول الترقيعية مثل القروض المؤقتة أو شدّ الأحزمة على حساب الفقراء، وإنما عبر إعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس حضارية تستثمر الإنسان والأرض والوقت والعلم والعمل في إطار منظومة القيم...
منذ سنوات والعراق يواجه أزمة مالية متكررة تكاد تتحول إلى سمة ثابتة من سمات الدولة. الفجوة واضحة: المصروفات أكثر من الإيرادات، وأغلب هذه المصروفات يذهب إلى الرواتب والتقاعد وشبكة الحماية الاجتماعية ونفقات الدولة الجارية.
في المقابل، يبقى الاعتماد شبه الكلي على النفط، بحيث أن أي تراجع في أسعاره أو صادراته يضع العراق أمام مأزق مالي خانق.
أزمة مالية أم أزمة حضارية؟
البعض يظن أن المشكلة محاسبية بحتة: ميزانية لا تتوازن بين الدخل والإنفاق.
لكن الحقيقة أعمق من ذلك: إننا أمام أزمة حضارية قبل أن تكون مالية.
فنمط الاقتصاد الريعي جعل الدولة تتحول إلى موزع رواتب أكثر منها منتجًا للثروة، وأوجد جهازًا إداريًا متضخمًا يستهلك المال العام بلا إنتاجية، وزرع ثقافة استهلاكية بدل ثقافة العمل والإتقان.
أضف إلى ذلك الفساد المالي والإداري الذي يبتلع مليارات الدولارات سنويًا، ويجعل أي إصلاح مالي جزئي مجرد “ترقيع” لا يمس الجوهر.
رؤية الدولة الحضارية الحديثة
في النموذج الذي ندعو إليه، الدولة الحضارية الحديثة، تُقرأ الأزمة المالية بطريقة مختلفة. فهي ليست نقصًا في الإيرادات فقط، بل انعكاس لغياب التوازن في إدارة عناصر المركّب الحضاري: الإنسان، الأرض، الوقت، العلم، والعمل، ضمن إطار منظومة القيم (الحرية، العدل، المساواة، المسؤولية، الإتقان، التضامن).
ملامح الحل الحضاري
1. تنويع الاقتصاد الوطني
الزراعة: العراق يملك أراضي خصبة ومياهاً كافية ليكون سلة غذاء لا مستوردًا دائمًا.
الصناعة: من الصناعات التحويلية والبتروكيمياويات إلى الصناعات الخفيفة والمتوسطة.
السياحة: دينية، تراثية، وطبيعية، قادرة على جذب ملايين الزوار.
التجارة والخدمات: بالاستفادة من الموقع الجغرافي للعراق كجسر بين الخليج وبلاد الشام وتركيا وإيران.
2. إصلاح منظومة المصروفات
ضبط الرواتب وفق سلم عادل يربط الأجر بالإنتاجية لا بالانتماء الحزبي أو المحاصصة.
تحويل شبكة الحماية الاجتماعية من إعانات شهرية إلى برامج تمكين اقتصادي (تدريب مهني، قروض صغيرة، مشاريع إنتاجية).
ترشيد الإنفاق الحكومي ومحاصرة الهدر والفساد عبر أنظمة رقمية شفافة.
3. إنشاء صندوق وطني للاستثمار
استنساخ تجربة النرويج مثلًا، حيث تتحول نسبة من إيرادات النفط إلى صندوق سيادي يستثمر داخل العراق وخارجه.
الهدف: تحويل الثروة النفطية من دخل استهلاكي آني إلى رأسمال دائم للأجيال.
4. تفعيل منظومة القيم
الحرية لفتح المجال أمام المبادرات الفردية والقطاع الخاص.
العدل والمساواة لضمان فرص متكافئة لجميع المواطنين.
المسؤولية والإتقان لربط الأجر بالعمل والثواب بالإنجاز.
التضامن لبناء نظام تأمين اجتماعي مستدام يحمي الضعفاء من دون أن يحولهم إلى عاطلين دائمين.
5. إدارة العلم والوقت والعمل
إصلاح التعليم وربطه بسوق العمل.
إدخال التكنولوجيا في الإدارة والضرائب والجباية.
استثمار الوقت الوطني في الإنتاج بدل الهدر في البيروقراطية والانتظار.
الخلاصة
الأزمة المالية ليست قدرًا محتومًا، بل هي نتيجة طبيعية لاقتصاد ريعي متخلف، والدولة الحضارية الحديثة لا تعالجها بالحلول الترقيعية مثل القروض المؤقتة أو شدّ الأحزمة على حساب الفقراء، وإنما عبر إعادة بناء الاقتصاد الوطني على أسس حضارية تستثمر الإنسان والأرض والوقت والعلم والعمل في إطار منظومة القيم. بهذا فقط يتحول العراق من دولة ريعية مأزومة إلى دولة حضارية حديثة قادرة على تحويل التحديات إلى فرص للنهوض.
اضف تعليق