q
ما هي آليات التحوّل الثقافي ومن الذي يشرف ويقوم على تطبيقها وغرسها في تربة الفرد والمجتمع؟ إن هذا النوع من المسؤوليات المصيرية، يشمل الجميع بلا استثناء، فالمسؤولية جماعية، لكنها تختلف في درجتها حسب المركز الوظيفي والاجتماعي، لذلك على الفرد العراقي أن يسعى بقوة وينشد التحوّل الثقافي...

ليس جزافاً أن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناجحة بالتحول الثقافي، فالأخير هو محور التحولات الأخرى التي تبدأ باكتمال التحول الثقافي في المجتمع أو بالتساوق والتزامن معه، لأنّ الثقافة "سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية، وتعدّ الثقافة مفهوما مركزيا في الأنثروبولوجيا، يشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلّم الاجتماعي في المجتمعات البشرية، بعض جوانب السلوك الإنساني، والممارسات الاجتماعية.

ويوجد أيضا المفهوم المادي للثقافة وهو يغطي التعبيرات المادية مثل التكنولوجيا، والهندسة المعمارية والفن، في حين أن الجوانب غير المادية للثقافة مثل مبادئ التنظيم الاجتماعي بما في ذلك ممارسات منظمة سياسية واجتماعية المؤسسات، الأساطير، الفلسفة، الأدب المكتوب والشفوي، والعلم يتكون من التراث الثقافي غير المادي للمجتمع.

والمقصود هنا بالتحوّل الثقافي، كيف يفكر الإنسان، وإلى ماذا يتحول تفكيره في التجسيد السلوكي، وهل يمكن أن نحيّد القيم الثقافية جانبا، ثم نطالب بمجتمع واعٍ يستطيع أن يغيّر حياته ويطوّرها؟، "في العلوم الإنسانية، كان الشعور بالثقافة بصفتها سمة للفرد هو الدرجة التي يزرعون بها مستوى معين من التطور في الفنون أو العلوم أو التعليم أو الأخلاق، كما يُنظَر أحيانا إلى مستوى التطور الثقافي على أنه يميز الحضارات عن المجتمعات الأقل تعقيدا.

توجد أيضا وجهات نظر هرمية حول الثقافة في التمييز الطبقي بين الثقافة الرفيعة للنخبة الاجتماعية وبين الثقافة المتدنية أو الثقافة الشعبية أو الثقافة الفكلورية للطبقات الدنيا، تتميز بالوصول إلى طبقة رأس المال الثقافي، وفي اللغة الشائعة، غالبا ما تستخدم الثقافة للإشارة على وجه التحديد إلى العلامات الرمزية التي تستخدمها المجموعات الاثنية لتمييز نفسها بشكل واضح عن بعضها البعض، وتشير الثقافة الجماهيرية إلى أشكال الإنتاج الجماعي والمستنير للثقافة الاستهلاكية التي ظهرت في القرن العشرين. وقد جادلت بعض مدارس الفلسفة، مثل الماركسية والنظرية النقدية، أن الثقافة غالبا ما تستخدم سياسيا كأداة للنخب للتلاعب في الطبقات الدنيا وخلق وعي زائف.

هنا لابد للباحث والدارس لمسببات التحوّل المجتمعي إلى فهم جوهر الفعل الثقافي، ومدى تأثيره في صنع عقول يتأسس تفكيرها على ثقافة أخلاقية تعتمد قيم الصدق والجمال والحرية التي تعظّمها المجتمعات كونها سبيلها إلى تغيير الأنماط الساكنة وتحويلها إلى دوافع اجتماعية سلوكية تحيكها وتحركها القيم الثقافية، وصولا إلى المواطن الواعي الذكي الإنساني الذي لا يستطيع السياسيون المخادعون من خداعه والالتفاف على حقوقه.

انطلاقا من ذلك تعرَّف الثقافة على وفق العلماء المختصين بأنها "العملية الاجتماعية التي بواسطتها يوصّل الأفراد المعاني، ويدركون حقيقة عالمهم، ويبنون هوياتهم، ويحددون معتقداتهم وقيمهم"، وتعدّ الثقافة جزءًا كبيرًا من التحول الثقافي لأن المواطنين الأمريكيين على سبيل المثال بدأوا ببناء هوياتهم في العالم الجديد، وأحد الأعمال المبكرة التي ظهر فيها هذا المصطلح كان عبارة عن فصل بعنوان "الحركة النظرية الجديدة" للمؤلف جيفري ألكسندر في كتابه دليل علم الاجتماع (Handbook of Sociology) لمؤلفه نيلين جيه سميلسر (1988).

إن الثقافة كما يراها المعنيون، ليست أفكار مجردة، ولا كلمات مدوَّنة في سجلات أو مذكّرات أو مناهج دراسية محضة، إنها طريقة تفكير ذات خصوصية لصيقة بمجتمع ما، ومقرونة بسلوك محدد ومنهج يميز هذا المجتمع عن سواه، لدرجة أن الثقافة أو السلوك الثقافي تجسّد في طريقة اللبس، والأكل، والتسوق وسوى ذلك من أفعال تديم حياة الفرد والمجتمع وتطبعه بصفات خاصة به.

نستدرك في رأينا أعلاه بالرأي العلمي الذي يقول "لقد اتسع ميدان الثقافة في ذاته بشدة، حتى أصبح متاخمًا لمجتمع السوق بطريقة لم تصبح الثقافة بعدها مقصورة على أشكالها التقليدية والتجريبية المبكرة، ولكن أصبحت تستعمل من خلال الحياة اليومية نفسها؛ في التسوق وفي الأنشطة المهنية وفي أشكال الترفيه المرئية، وفي تقديم المنتجات للسوق، وفي استهلاك تلك المنتجات السوقية، وفي الواقع في كل مكان خفي وزاوية بالحياة اليومية، لقد أصبح الفضاء الاجتماعي مشبعًا تمامًا بصورة الثقافة.

كعراقيين يقودنا ما تقدَّم، إلى فهم الدور الهائل للتحوّل الثقافي، وحاجتنا القصوى له، كمجتمع يروم التحوّل إلى نظام ديمقراطي يشمل ليس السياسة وحدها، وإنما الاقتصاد، والاجتماع، حتى يكون الفرد والمجتمع العراقي مهيَّأً للتحول في شتى المجالات مرتكِزا في ذلك على تحول ثقافي أخلاقي فاعل، له دوره الحاسم في نقل التحوّل الأخير إلى مجالات التحوّل الأخرى.

يحتاج العراقيون إلى ثقافة القيم الواعية، إلى العقل الذكي العارف بما يدور حوله، يؤمن بنفسه، ولا يتخلى عن حقوقه، ويصعب استغلاله أو خداعه، هذا النوع من الثقافة والوعي تحتاج إلى تحوّل ثقافي يتسلل إلى جميع الشرائح والفئات المجتمعية، وإن حدثَ ذلك على نحو متدرّج، فالمهم ليس القفز على مراحل التطور أو حرقها، المهم هو أن تتشكل نقطة انطلاق راكزة وصحيحة، نحو التحوّل الثقافي الذي يقودنا كعراقيين إلى تحول سياسي اقتصادي اجتماعي في إطار ديمقراطي قائم على ثقة الإنسان العراقي بنفسه وثقافته ووعيه.

ربما يطرح أحدهم التساؤل التالي، ما هي آليات التحوّل الثقافي ومن الذي يشرف ويقوم على تطبيقها وغرسها في تربة الفرد والمجتمع؟ إن هذا النوع من المسؤوليات المصيرية، يشمل الجميع بلا استثناء، فالمسؤولية جماعية، لكنها تختلف في درجتها حسب المركز الوظيفي والاجتماعي، لذلك على الفرد العراقي أن يسعى بقوة وينشد التحوّل الثقافي الذي ينقذه وينقله من تسلّط حفنة من المسؤولين الذين لا يعنيهم تطوير الحياة العراقية.

فهناك ممن يتبوّؤون مراكز مهمة في صناعة القرار، لا يعنيهم سوى مصالحهم وهو أمر مفروغ منه، ومتى ما تغيّر الفرد العراقي ثقافيا وتخلَّقتْ لديه القدرة على مواجهة الجهل والاستئثار والاستحواذ، بقوة الوعي والإرادة الصُلبة، يكون التحوّل الثقافي قد أعطى نتائجه الصحيحة التي ستنعكس على حياة العراقيين تقدما واستقرارا وتطورا.

اضف تعليق


التعليقات

حامد الجبوري
العراق
مقال قيّم جداً
وأود الإشارة لمجموعة نقاط ذات علاقة بهذا المقال، وهي الحرية والمقدس والانتقاد وكما يلي
أولاً: الحرية، حيث لايمكن العمل على إشاعة التحول الثقافي الذي تترب عليه التحولات الأخرى، كما طرحت في مقالك، في ظل غياب الحرية.
ثانياً:المقدس، عدم فهم المقدس بالشكل السليم، وهذا هو الواقع، يدفع إلى قولبةالعقل وقبول الاخطاء بل وتبريرها على اعتبار إنها صادرة عن المُقدس، فالفهم المغلوط للمقدس يشكل عقبة حقيقية أمام التحول الثقافي السليم.
الانتقاد، يبدأ التحول الثقافي من وجود الانتقاد على شرط أن يكون الانتقاد البناء لا الهدام، لان الانتقاد يعمل على تشذيب الثقافة السائدة وإظهار الافكار القيّمة، كما تعمل النار عند تسليطها على المعدن، على إكتشاف حقيقته إن كان أصلياً ام شبيهاً؟ كالذهب مثلاً.2020-02-20