يتحدث كثير من الناس عن الأخطاء السياسية والاقتصادية وانعكاس ذلك سلبا على المجتمع، لكن في الحقيقة تبقى البنية الاجتماعية السليمة هي المنطلَق الأول لتصحيح السياسة ومن ثم الاقتصاد وسواه، وإذا تعاونا على بناء مجتمع واعٍ مثقف سيخرج منه سياسيون واقتصاديون ناجحون، ولعلنا نعرف أنّ المخاصمة...
يتحدث كثير من الناس عن الأخطاء السياسية والاقتصادية وانعكاس ذلك سلبا على المجتمع، لكن في الحقيقة تبقى البنية الاجتماعية السليمة هي المنطلَق الأول لتصحيح السياسة ومن ثم الاقتصاد وسواه، وإذا تعاونا على بناء مجتمع واعٍ مثقف سيخرج منه سياسيون واقتصاديون ناجحون، ولعلنا نعرف أنّ المخاصمة والظلم أمران لا يمكن التخلص منهما، أو التهرّب منهما طالما يتحرك الإنسان وسط شبكة من العلاقات والمصالح، يتطلبها تحصيل الرزق والعيش، حيث يطمح الإنسان إلى تحقيق مصالح مادية اكبر وأكثر لتحسين حياته وعائلته، وهو أمر مشروع، فالجميع يتحرك من أجل تحصيل الرزق، بل هناك أمر إلهي بالعمل، وهناك تأكيد على الكدّ والسعي في الدنيا، على الرغم من الله تعالى يتحكم بالأرزاق، لكن السعي إلى الرزق هو المفتاح الأول لسعادة الإنسان والمجتمع عموما، ولا يمكن خلق مجتمع خالٍ من الظلم والخصام من دون إصلاح القيم الاجتماعية.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يذكر في كتابه القيّم الموسوم بـ (حلية الصالحين):
(يقول الإمام السجّاد سلام الله عليه: اللهُمَّ صَلّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْ لي يَداً عَلى مَنْ ظَلَمَني، ولِسَاناً عَلى مَنْ خَاصَمَني).
يحتاج الناس إلى مراعاة بعضهم بعضها بالاستناد إلى القيم التي تحميهم من ظلم بعضهم، وتبعد عنهم لغة الخصام وأسبابه، لأن المخاصمة قد تقود إلى المواجهة بين الأطراف المتخاصمة، وقد يؤدي هذا إلى حدوث الفرقة بينهم، وقد تُخلق مشكلات تنمو وتكبر وتزداد تعقيدا مع مرور الوقت فيصعب حلّها، لاسيما إذا حدثت حالة من العزلة بين الأطراف المتخاصمة، لذلك يحاول أهل التقوى التقريب بين وجهات نظر المتخالفين، واحتواء عوامل الصراع باستخدام الحوار والتفاهم كوسيلة ناجعة لمواجهة المعضلات الخلافية من خلال إبداء التنازلات المتبادلة بين الطرفين، مع تضييق فرص الانفصال والتباعد عن بعض بسبب اختلاف الآراء أو الأفكار أو المصالح وغيرها.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد على أن:
(الفرقة تعني الانفصال، فالناس إذا كانوا مجتمعين على أمر فلا توجد فرقة فيما بينهم، أمّا إذا اعتزل بعضهم بعضاً وصار بعضهم منفصلاً عن بعض فهذا يعني حدوث فرقة بينهم، ويطلق أهل الفرقة على من ديدنه الافتراق، أمّا من حليته الصلاح وزينته التقوى فإنّه يحاول أن يجمع ويضمّ إليه جميع أهل الفرقة).
فكلما ازداد الإنسان تقوى وصلاحاً كان عنصر خير ومحور إصلاحي يجمع المتخاصمين حوله ويحلّ أسباب الفرقة والخصام، وهذا مدعاة لخلق بنية اجتماعية رصينة غير قابلة للاختراق.
دور المصلحين في المجتمع
للمصلحين المتّقين الحكماء دور حيوي في ردم الفجوة الفاصلة بين المتخاصمين، وكلما تم تقليص هذه الفجوة، أصبحت البنية الاجتماعية أقوة تلاصقاً، لذا من الاشتراطات التي يجب ترصينها في المجتمع، معالجة المسببات التي تؤدي إلى الفرقة بين الأفراد مع بعضهم أو بين الجماعات، وطالما أننا نسعى نحو مصالحنا وأرزاقنا، فإن هناك احتمالات كبيرة لحدوث تصادمات في المصالح وهذا أمر يحدث كثيرا لأنه متوقَّع، هنا يتميز دور المصلحين من أصحاب التقوى والأخلاق الرصينة، حيث يسعى هؤلاء دائما إلى إصلاح ذات البين، ورأب الصدع بين المتخاصمين وتقريب وجهات النظر عبر الإصلاح الاجتماعي الذي يستند إلى قيم عظيمة هي المرتكَز الأقوى لحماية واستقرار المجتمع.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه):
(ممّا يعنيه البيْن هو الصلة والحال التي عليها أفراد المجتمع، وهو نقيض الفرقة، فإصلاح ذات البين يعني: صيانة الألفة والمحبّة من خلال إدامتهما ومعالجة أيّ شرخ ممكن حدوثه قبل اتّساعه مهما كان حجمه سواء بين الإخوة، أو الزوج والزوجة، أو الأصدقاء، أو بين الأُستاذ وتلميذه، أو الأب وابنه أو غير ذلك).
هذا يعني أن جميع شرائح المجتمع مشمولة بقيم الإصلاح المجتمعي ويجب أن تكون ملتزمة بها، لأن منهج الإصلاح والتقريب بين وجهات النظر، واحتواء حالات الصراع وحل النزاعات الصغيرة أو الكبيرة، لابد أن يتم بطريقة متحضرة، وهي طريقة الحوار والنقاش مهما كانت صعوبة المشكلات أو اختلاف الآراء حولها، ففي النهاية سوف يتوصل الجميع إلى حل يرضي جميع الأطراف بالحوار وليس بأسلوب التصادم، لذلك فإن مسؤولية الإنسان المؤمن تتركز على نشر وترويج منهج معالجة المشكلات بالحوار وامتصاص وتذويب عناصر الفرقة والتناحر، صحيح أن الحوار يحتاج إلى صبر لكن النتائج ستكون باهرة في فائدتها للمجتمع.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يرى: (إنّ الأُمور التي ينبغي للإنسان المؤمن أن يعنى بها في المجتمع، أي على الصعيد العامّ والواسع، أن يكون ديدنه الحيلولة دون حدوث الفرقة والاختلاف، كما عليه أن يسعى من أجل الإصلاح على صعيد العلاقات الاجتماعية الصغرى كالعلاقات بين الإخوة والأقارب والزملاء).
الإصلاح الاجتماعي لا يؤازر الباطل
قد يظن بعضهم أن الدعوة للإصلاح الاجتماعي، وسعي المتقين الحكماء إلى التقريب بين شرائح ومكونات المجتمع، هو غض الطرف عن الباطل، وهنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(قد يتبادر إلى الذهن سؤال، وهو: هل الإمام السجّاد سلام الله عليه يدعو للاجتماع وعدم الفرقة دائماً من دون نظر إلى الحقّ والباطل؟ حاشا أن يكون الإمام يريد ذلك؛ لأنّ الإمام السجّاد عدل القرآن، والقرآن يقول: *كَانَ النَّاسُ اُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ* أجل، الوحدة من الفضائل ولكن إذا كانت في إطار الحقّ والفضيلة لا في إطار الباطل والرذيلة).
هناك بلاغة في المطروح أعلاه، فالتقريب بين أفراد وشرائح لا يجب أن يقوم على مهادنة الباطل، لأنه من الواضح هنا أن الدعوة إلى وحدة المجموع، لا تعني الوحدة على المخالفة أو العصيان، أو على المنهج الخاطئ، إنما الوحدة هنا تعني اتفاق الجميع على الحق، وتقارب آرائهم وتمحورها في جانب الحق حصرا، ولا يصح أن يتوحد الناس على الإساءة والمنهج الرديء، وعليهم نبذ الرذيلة، والتمسك بالفضيلة، لأن هذا التمسك سوف يبرر وحدتهم ويدعمها، أما التوّحد بين الناس على قضية خاطئة، فهو أمر مرفوض تماما بسبب خطأ هذا المنهج والنتاج السيئة التي ستتمخض عنه.
لاسيما أن التركيبة الخلْقية للإنسان تحتوي على مجموعة غرائز تدفع به نحو الباطل على حساب الحق إذا لم تشكمهُ القيم وتردعه الأخلاق، فالشهوات بأنواعها تدفع الإنسان نحو الخطأ، وتجعله منصاعا لمطالب ورغبات جسدية غريزية ومادية أيضا، إذ تدفع الإنسان إلى مزالق خطيرة، تجعله يظلم الآخرين بضمير ميت، ويخاصم الجميع، ويبتعد عن حل النزاع بالتفاهم ويعتمد القوة والبطش، فيكون من اشد الظالمين، معالجة هذا الغرور يتمثل بتذكّر الإنسان للموت، فهذا كفيل بأن يطفئ فيه الرغبة للانتقام والظلم والمخاصمة مع الآخرين، فيلجأ إلى معالجة المشكلات بالتفاهم، لذلك فإننا حين نضع الموت في حساباتنا بشكل دائم سوف نتمكن من معالجة الاختلافات بعيدا عن القوة والظلم والتعدي على حقوق الآخرين.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إنّ على الإنسان أن يضع الموت نصب عينيه دائماً، فإذا فعل ذلك خفّت حدّة شهواته واستطاع أن يعمل على ضمّ أهل الفرقة وإصلاح ذات البين بنحو أحسن، ولا يكترث للأعذار غير الصحيحة).
وهكذا فإن مهمتنا جميعا هي تقليص الخلافات فيما بيننا واعتماد القيم العظيمة والحرص الشديد على صيانة حقوق الناس والشعور بالمسؤولية تجاههم، بهذه القيم ومراعاتها يمكننا تحقيق الإصلاح الاجتماعي، والقضاء المبرم على كل مسببات الخصام والفرقة في المجتمع.
اضف تعليق