قد استبشر العراقيون خيرا بزوال حكم الطاغية، ومجيء عهد قيل عنه بأنه سيحمل معه تباشير جديدة، سوف تعوّض الشعب العراقي عن معاناته القديمة، خصوصا ما يتعلق بالفقر والحرمان من التعليم والصحة والعيش الرغيد، بيد أن ما أسفرت عنه السنون الماضية لم يثبت تغييرا جوهريا...
العراقيون شعب صبور، ضحى بالغالي والنفيس كي يعيش كريما معزّزا في وطنه، واجه الطغاة ورفض الخنوع، قدّم ما يلزم وأكثر كي تُصان كرامتهُ وينتهي من دوّامة المآسي التي لا يزال يعيشها، في حين أن المفترَض والصحيح هو أن يتم تعويضه عن تضحياته الكبيرة، فقد تعرّض العراق منذ عقد وأكثر من السنوات، وحتى هذه اللحظة، الى مآسٍ كبيرة تنوعت وتوزعت على الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لكن الأكثر ضررا وخطورة ما حدث من تخريب للنسيج الاجتماعي، فواجه المجتمع العراقي الكثير من المآسي منها على سبيل المثال تلك الأرقام الكبيرة التي تم رصدها في مجال الطلاق وتعاطي المخدرات والبطالة وكثير من حالات الفساد التي ضاعفت من المصاعب التي واجهها العراقيون، بعد أن كان أملهم في الخلاص من الحرمان والجوع والأمراض التي كانت تفتك بهم على مر السنين إبان الأنظمة السياسية الفردية الفاسدة.
وقد استبشر العراقيون خيرا بزوال حكم الطاغية، ومجيء عهد قيل عنه بأنه سيحمل معه تباشير جديدة، سوف تعوّض الشعب العراقي عن معاناته القديمة، خصوصا ما يتعلق بالفقر والحرمان من التعليم والصحة والعيش الرغيد، بيد أن ما أسفرت عنه السنون الماضية لم يثبت تغييرا جوهريا عما كان يتعرض له العراقيون في السابق، فالحرمان لم يتغير والفساد السياسي والمالي لا يزال موجودا، كما أن النسيج المجتمعي بات أكثر هشاشة ما يعني وجود مشكلات ومعوقات لابد من التصدي لأن العراق لا يُمكن أن يُبنى ويستقر إذا لم نوقف تداعيات الحرمان والفقر والمآسي.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الشيرازي (دام ظله) يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيمة: (من المؤسف جدّاً وجود هذه المآسي بالعراق، وهي مآسي كبيرة. علماً أن المآسي التي تحدث في العراق اليوم ومؤخّراً، خصوصاً في العقد الأخير، هي مآسي كبيرة ومؤلمة جدّاً لم نشهدها من قبل، ومن أسبابها هو تأثير بعض دول الجوار).
وقد حدد سماحته العديد من المسببات التي تقف وراء المآسي والمعضلات وحالات التدهور التي يتعرض لها العراقيون، وأكد سماحته (دام ظله) أهمية دور المؤسسة الدينية في تصويب الانحرافات في إدارة الدولة عبر تقديم الإرشاد والنصح للذين يتصدون اليوم لمهمة إدارة الدولة، فهناك الكثير من النواقص التي ينبغي أن يكملوها، وعليهم استثمار الفرص الاقتصادية التي من شأنها التخفيف من ضائقة فقراء العراق، حيث تشير نسب الفقر إلى التزايد في ظل ميزانيات كبيرة.
كيف تُدار مؤسسات الدولة؟
إن المشكلة الكبيرة التي يواجهها العراق، هي السياسات الاقتصادية المتخبطة، وإدارة الدولة ومؤسساتها بطرائق مجافية للنجاح، هنا لابد للمؤسسة الدينية أن تأخذ دورها كما يجب، والسؤال في هذا الإطار، هل المؤسسة الدينية في العراق قامت بدورها التوجيهي كما يجب، وهل نهضت هذه المؤسسة بالوعي العام وطورت الثقافة وجعلت من العقل الجمعي أكثر قدرة على مواجهة التدفق الإعلامي المثير للجدل، والذي يهدف الى تخريب أخلاقيات الشباب وزحزحة ثوابت المجتمع، وبث الشكوك في العقائد والمسلمات والاعراف الجيدة التي انبت عليها منظومة الفكر والسلوك الرصين في المجتمع العراقي؟.
في الحقيقة لا نخطئ إذا قلنا أن الدور الذي يتعلق بالمؤسسة الدينية لم يكن كما ينبغي، فهناك خلل وقصور واضح في هذا المجال، لاسيما أن هناك سببا آخر يسند الأول، ونعني به انشغال أصحاب المؤهلات والكفاءات الكبيرة بصغائر الأمور والتوافه، وعندما يجتمع هذا الخلل الخطير من أهم دعامتين للمجتمع، ونعني بهما (المؤسسة الدينية، والكفاءات وأصحاب القدرات الكبيرة)، فإن النتائج التي تنعكس عن ذلك ستكون كبيرة وخطيرة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ وقوع مثل هذه المآسي في المجتمع، لها أسباب، من أهمّها هو انحسار المؤسسة الدينية وابتعادها عن هموم الشؤون الاجتماعية. هذا أولاً. ثانياً: انشغال بعض، أو كثير من أصحاب القدرات الكبيرة بالتوافه والصغائر).
لا فمن غير المستحسن أن يكون هنالك تراخٍ أو تردد حيال ما يحدث من مآسي ومخاطر كبيرة تعترض مسيرة العراقيين الى الأمام، ولا يصح أن نيأس من إيجاد الحلول المناسبة لهذه المشكلات الخطيرة، على الرغم من أن الواقع يؤكد وجود خلل كبير في هذا الجانب، ولكن لابد من العمل مجددا وبقوة لرأب الصدع، والوقوف بوجه الانحدار، والبحث عن الأسباب التي تسعى لخلخلة الثوابت في النسيج المجتمعي، ولابد من البحث عن أسباب تلك المآسي التي تحدث حول ظاهرة الطلاق، أو غيرها من المشكلات الآخذة بالتعقيد والتوسع، وفي حالة فهم أسباب حدوث وتوسع تلك المشكلات، يمكن السعي نحو المعالجات الصحيحة، وهذا يعني أهمية تصدي المؤسسة الدينية لمهمة التوعية والتثقيف المستمر للناس بمختلف مشاربهم ومستوياتهم الذهنية والثقافية، إن الأمل بالتصحيح لا يزال قائما، لهذا ينبغي سعي الجهات المعنية في هذا الاتجاه لغرض وضع حد لمسلسل التردي المستمر، ولا مجال لليأس في هذا الإطار.
يستدرك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) فيقول: (لكن هذه الأمور والمآسي، لا تدع الإنسان أن يتقاعس عن فعل ما يستطيع، فبالنتيجة الشيء القليل يُنتج بالمستقبل، رغم المطبّات الكبيرة والكثيرة، ومن اللازم مواصلة الطريق).
الحرمان لا يليق بعصر الحرية
ليس هناك أيّ بديل عن القضاء على مشكلات العراق، فأمام هذا السيل من المآسي والمعضلات التي تواجه العراقيين، ليس أمامنا سوى أن نشمّر عن سواعد العقول والأفكار والأذرع، ونباشر على الفور بكبح الأسباب التي تنتج هذه التراجعات في المجالات الاجتماعية خصوصا في جانب القيم، والحد من الفساد، ومراعاة الفقراء، والسعي الجاد لتعويض الشعب العراقي عمّا لحق به من حرمان وعوز وتشريد في ظل الأنظمة السابقة لاسيما النظام السابق الذي ألحق العذاب والبؤس والأذى الشديد بالعراقيين.
ولكي ننجح في هذه المهمة لابد أن نبحث عن خارطة طريق عقائدية، تساعدنا على تجديد القيم وتحصينها، حتى يكون جميع الناس أكثر حصانة ضد الزلل والانحراف، ونحن في الحقيقة نمتلك هذه الخريطة العقائدية، فهي تتمثل بسيرة الأئمة المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، حيث يمكن للساسة والمسؤولين كافة أن يستفيدوا منها لتصحيح أدوارهم ومواجهة نفوسهم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول عن ذلك: (نحن عندنا منهاج جيّد جدّاً، وهي سيرة المعصومين الأربعة عشر صلوات الله عليهم، لكن لم يُعمل به).
بيد أننا في حقيقة الأمر لا نمتلك خيارات كثيرة بل ليس لدينا خيار واحد بديل عن مواجهة المشكلات والمآسي والنواقص التي يتعرض لها الناس، خاصة في مجال التوعية الدينية والعقائدية، لأننا لا نمتلك طريقا آخر، فمن يريد أن يضع حدا لهذه المشكلات والظواهر الخطيرة التي تسعى الى تمزيق النسيج المجتمعي للعراقيين، وتهدف الى تدمير قيمهم وأخلاقياتهم، ليس أمامه سوى السعي الجاد في مواجهة هذه الظواهر الخطيرة، لذا فإن المؤسسة الدينية وخطبائها وجميع رجالاتها، مطالبون بتحمّل مسؤولياتهم في إعادة منظومة القيم الصحيحة الى حضورها الفاعل، وليس أمامنا في ظل هذا الانحدار الخطير وانتشار الفساد والقيم الرديئة، سوى مواجهة هذا الخلل الخطير بقوة، وبطريقة منظّمة ومدروسة، من أجل بث القيم من جديدة، على أن نستمد الدروس المطلوبة من سيرة أئمتنا المعصومين، فمنهم نستطيع أن نحصل على القيم والأفكار والمواقف والدروس التي تساعدنا كعراقيين على الوقوف مرة أخرى على أقدامنا بقوة ومواجهة حالات الانحدار التي يحاول أعداؤنا أن يزرعوها في طريقنا.
من هنا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (علينا أن نواصل المسير، فبالتالي نصل إلى النتيجة.. كما علينا أن نسحب أنفسنا من الانشغال بالتوافه).
هكذا مطلوب من قادرة العراق ليس الساسة وحدهم بل النخب كلها، أن تتكاتف بالمشورة والرأي والتخطيط والعمل الجاد لمعالجة جميع ما يواجهه العراقيون من مشكلات، كان ينبغي أن تنتهي وتزول مع زوال الطغيان، فلا يليق بعهد الحرية التي يرددها قادة العراق أن يبقى العراقيون يعانون من المآسي والحرمان.
اضف تعليق