الدار الأولى مجبولة بالشقاء، هذه صفتها الأزلية الملازمة لها، ولا خلاص من ذلك، لا يوجد كائن بشري خارج دائرة هذا الابتلاء، الكل له حصّته منها، فلا الغني مُستثنى من المشاكل، ولا الفقير، لا القوي ولا الضعيف، لا الرجل ولا المرأة، الجميع يحصلون على حصتهم من الابتلاء...
الدار الأولى مجبولة بالشقاء، هذه صفتها الأزلية الملازمة لها، ولا خلاص من ذلك، لا يوجد كائن بشري خارج دائرة هذا الابتلاء، الكل له حصّته منها، فلا الغني مُستثنى من المشاكل، ولا الفقير، لا القوي ولا الضعيف، لا الرجل ولا المرأة، الجميع يحصلون على حصتهم من الابتلاء، وقد ورد في قول شريف للإمام علي عليه السلام أنّ (المؤمن مبتلى)، هذا هو عنوان الدنيا، وهذه هي مهمة الحياة الأولى التي نعيشها الآن، فنحنُ معرَّضون للمشكلات بأنواعها، قد تكون كبيرة أو صغيرة وربما متوسطة، وقد تكون خطيرة أيضا.
بالطبع الإنسان الذي يتعرض للمشاكل هو الذي يتحرك أكثر من غيره، وينشط وقد يخاطر في صحتهِ وأمواله وأولاده وحتى بنفسه، فمنْ منَا بلا أهداف في هذه الحياة الدنيا، رزقكَ يحتّمُ عليه النشاط والحركة وربما المخاطرة، وعقيدتك تتطلب ذلك، وإيمانكَ، ورزقك أيضا، ومن يجلس في بيته بلا عمل لن يجدَ ما يسدّ به رمقه، لا هو ولا عائلته، كل هذه المسببات تجعل من الإنسان في دائرة المشكلات التي لا مفرّ منها.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهيّة القيّمة:
(كل من في الدنيا مبتلى، كلٌ بشكلٍ ما، فأهل العلم مبتلون، والتاجر مبتلى، وهكذا الموظّف، والحاكم، والمحكوم، والرجل والمرأة).
والابتلاء هو أحد المقاصد الإلهية، وهي الوسيلة التي يُقاس من خلالها ثبات الإنسان على طريق الحق، وحِفاظه على حدود الله، فمن يؤمن بعقيدة أهل البيت عليهم السلام ويسير في خطّهم، عليه أن يستعد لتحمّل أعباء الإيمان بهذه العقيدة، والتاريخ البعيد والقريب يُظهر لنا الكثير من القصص العظيمة للموالين الذين قدموا كل ما يملكون ويمتلكون من أجل دينهم وعقيدتهم، وحتى تحصيل الأرزاق، هو واحد من أهم الاختبارات التي يتعرض لها البشر.
فالموظف الكبير والصغير قد تسنح له فرصة الاستئثار بأموال الناس من خزينة الدولة، وهذا اختبار عظيم للإنسان وفرصة بإمكانه أن يستثمرها لصالحه بكّفِ يده عن المال، وقد تكون ضدّه إذا ضعف إزاء نفسه واستطاب المال الحرام ومدّ يده إليه، فالشيطان لم يبتعد عن حياة الناس، وما يلبث أن يغريهم على مدار الوقت، فمن ينجح في كبحه بالإيمان فاز بالاختبار، ومن يضعف وينهار، سوف يسقط في الاختبار.
يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(إنّ الله تبارك وتعالى هو الذي جعل الدنيا محفوفة بالبلاء، وذلك ليختبر الناس ويمتحنهم، حيث قال تعالى: (لننظر كيف تعملون). والله تعالى هو الذي خلق الشيطان، وهو تعالى يعلم بأن الشيطان ماذا سيفعل بالإنسان، ولكن خلقه ليتبيّن من يتّبع الشيطان ومن يرفضه).
درجات الاختبار الإلهي للإنسان
إن النفس هي (بيت الداء) ومَكنْ الخطر، فإذا انصاع لها الإنسان أدخلته في حبائلها وأضاعت عليه فرصة النجاح، وقد خلق الله تعالى هذه النفس في الإنسان، حتى يكون جاهزا للاختبار وجديرا بالجزاء العظيم إذا نجح فيه، فمن كان قويّا في التعاطي مع نفسه، وتسلّمَ قيادتها ومنع عنها قدرة القيادة له، هنا سوف يحصل على ثوابٍ عظيم، وما هي إلا لحظة يقرر فيها الإنسان هل يرتكب الحماقة أم ينجو منها، فإن نجا من نفسهِ وامتنع عن المحرّمات والتجاوز على حقوق الناس فاز بما يستحق، أما الانحدار في مطاليب النفس الأمّارة، فإنه طريق السقوط وما على الإنسان سوى تجنبّه بكل ما يمتلك من تقوى وإيمان.
إن الله تعالى يعرف ما تشكله النفس من خطر على الإنسان خصوصا من يتبوّأ مركزاً فيه أموال أو أي نوع من حقوق الناس، ولكن هذه النفس وانضباطها أو سوءها هو من يحدد درجة نجاح الإنسان أو فشله في الاختبار الإلهي الذي جرى ويجري الآن لمئات الملايين من البشر، فهل يعي المسلم أين مكانه وقدراته في المواجهة التي يخوضها مع نفسه، وهل يعرف حجم الاختبار ونتائجه؟ هذا ما ينبغي أن نفكّر به بعمق وأناة كي نقوّي إيماننا ونردع أنفسنا عن الدفع بنا إلى قعر الجحيم.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الله تعالى هو الذي خلق في الإنسان النفس الأمّارة بالسوء، وهو تعالى يعلم بأنه ماذا ستفعل هذه النفس الأمّارة بالسوء بالإنسان الضعيف، وكم ستوقعه في المعاصي والذنوب، ولكن خلقها ليمتحن الإنسان بها).
إن المشكلات التي يتعرّض لها الإنسان صعبة وينتج عنها آلام كبيرة، وتضع الإنسان تحت سطوتها، ولكن ليس ثمة سبيل لإلغائها أو محوها كليّا، وليس هناك طريق أمام الإنسان سوى مواجهتها والتعامل معها بطريقة الصراع والغالب والمغلوب، وعلى أساس نتائج صراع الإنسان مع المشاكل الكثيرة التي تواجهه، ستكون النتيجة ويكون حجم الثواب أو العقاب، فأما يحصل على المرتبة العظيمة التي يتمناها كل إنسان، أو أن تكون درجته أقل بحسب قدرته في التعامل مع المشكلات التي قد تكون على شكل مغريات كما يواجه اليوم الكثير من القادة والساسة وغيرهم من الناس بمراتب أعلى أو أقل وبمسؤوليات متباينة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في كلمته القيّمة:
(المشكلات والمشاكل صعبة ومؤلمة وتضع الإنسان تحت ضغوط كثيرة، ولكن جعل كل ذلك لأجل معرفة مدى تحمّل الإنسان، وعلى هذا الأساس تعطى المرتبة للإنسان، ويعطى الجزاء للإنسان).
الدروس المستنبَطة من المشاكل
بالنتيجة ما هي الدروس التي يمكن أن نحصل عليها ونستفيد منها لصالحنا، بالطبع الإنسان مطالَب بمواجهة المشاكل وإيجاد الحلول لها والقضاء عليها، وهي كثيرة متعددة تحصل في جميع المجالات والأنشطة، نعم على الإنسان أن يتعامل مع المشكلة ويزيلها، ولكن عليه أن يعرف أيضا بأن المشكلة ربما لا تزول قطّ وهذا النوع هو من أصعب المشاكل وأخطرها، وعلى الإنسان أن يتعامل معها بصبر وذكاء وإيمان قاطع، أما إذا أزيلتْ المشكلة، فلابد أن نعرف أن هناك مشكلة أخرى سوف تحلّ محلها، وهذا يعني أننا أما مشاكل أزلية، حتى نستعدّ تمام الاستعداد لها كي لا نفشل في الاختبار.
لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) هذا الحال بالقول:
(لا شكّ، أنه على الإنسان أن يسعى لرفع المشاكل وإزالتها، سواء كانت مشاكل اجتماعية، أو سياسية، أو عائلية، وغيرها، وفي الوقت نفسه عليه أن يعلم بأن المشاكل إما لا تُرفَع أصلاً، أو إذا رُفعَتْ فستحلّ محلّها مشاكل أخرى. وهذا كلّه امتحان للإنسان).
وأخيرا فإن المشاكل من الممكن أن تكون الطريق السالك لنجاح الإنسان، ليس في الدار الأولى وحدها، وإنما قطف الثمار الأهم سيكون في الدار الأخرى أيضا، لذلك فإن المشكلات هي ومواجهتها هو المعيار الذي يُثاب عليه الإنسان أو يُعاقَب، بحسب الطريقة والحزم في التعامل معها، لذلك لا يمكن للإنسان أن يكون بمعزل عن المشاكل، وهذا يتطلّب أن يواصل حياته حتى بوجودها - المشاكل- ولكن عليه أن يكون واعيا بها متمكنا منها ومستعدا لمواجهتها بما لا يسمح لها باستدراجه نحو مدارج الفشل والسقوط - لا سمح الله-.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
إنّ مفاد الدرس المقصود من وجود المشاكل (هو أن يتبيّن - الله تعالى- من الذي تتعبه المشاكل ومن لا تتعبه، ولذا على الإنسان أن يستمر في حياته ويداوم حتى مع وجود المشاكل).
اضف تعليق