أراد الإمام عليّ سلام الله عليه بنهجه الذي اكتفى فيه من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه.. تحقيق هدفين: الأول: أن يبعد عنه أي شبهة كحاكم إسلامي، ويسلب منتقديه الذين أنكروا عليه حتى مناقبه أي حجّة تدينه. والثاني: تذكير الحكّام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم في ظل حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم، والسعي بجد من أجل تأمين الرفاهية والعيش الكريم لهم)....
تتجدد ذكرى استشهاد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وتُدمى قلوب المسلمين بفجيعة وتفاصيل واقعة الغدر التي قام بها بن ملجم، فيما يتوجب علينا كمسلمين متمسكين بولاية الإمام وملتزمين بمبادئه، أن نستذكر تفاصيل واقعة الاستشهاد، لكي تتجدد فينا روح الإيثار والتمسك بالمبادئ التي آمن بها الإمام علي عاليه السلام وطبقها طيلة سنوات حكمه وإدارته لشؤون المسلمين، بل تمسّك بها في عموم سيرته الخلاقة التي تعد من أندر النماذج في التاريخ.
ومن محاسن العقل أنه يسعى لتوظيف النماذج الناجحة عبر التاريخ لتعديل الحاضر وتشذيبه من زلاته وخطاياه، لاسيما أن حاضرنا يغصّ بالأخطاء البشرية المتفاقمة، على مستوى الحكومات والحكام أو الأمم، إذ ما فتئت الوقائع تفضح أساليب الحكومات عبر العالم، وما تتسبب به في انتشار واحدة من أعقد المشكلات حضورا وتأثيرا وتفاقماً، على المستويين الإسلامي والعالمي، ألا وهي مشكلة الفقر.
ومن الواجب على حكام المسلمين والحكومات التي تتصدى لشؤونهم أن تدرس تجربة الإمام علي عليه السلام في مكافحته للفقر، وفي أساليبه التي استخدمها في مقارعة الفقر، على الرغم من أنه كان يحكم دولة مترامية الأطراف تعدل عشرات الدول في عالم اليوم، فلم يكن في عهده فقيرا واحدا، في حين يضج عالمنا اليوم لاسيما الدول الإسلامية بمشكلة الفقر، وعدم تعاطف الحكام وحكوماتهم مع الفقراء وانشغالهم بغاية واحدة، هي كيف يحمي كرسي الحكم من السقوط!!.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتاب (من عبق المرجعية):
(إحدى خصال الإمام عليّ سلام الله عليه خاصة في فترة خلافته، تعاطفه مع الناس، ويتجلّى تعاطفه مع أفقر الناس من خلال عمله).
وتثبت صفحات التاريخ الناصعة بأن الإمام علي عليه السلام، كحاكم لأكبر وأقوى دولة في عصره، لم ينشغل بمصالحه ولم يستأثر بمزايا السلطة، ولم يجن المال أو الذهب، ولم تشغله توافه الدنيا من مغريات، بل كان الهمّ الأكبر له كيف يحمي الفقراء من آفة الفقر، وكيف يشيع المنهج العادل بين أفراد الأمة، وكيف يحمي الجميع من شر السلطة، ومغرياتها، فتجنّب عليه السلام السكن بالقصور، وأبعد عنه مظاهر الترف والغنى، وزهد بالسلطة، بل بالدنيا كلها، وتركّز جل انشغاله بحماية الناس من وباء الفقر، ونجح في ذلك أيما نجاح.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب:
(لم يضع الإمام عليّ سلام الله عليه حجراً على حجر، ولم يسكن قصراً فارهاً، بل تحمّل كل المصاعب والآلام لئلا يكون هناك فرد في أقصى نقاط دولته يتبيّع بفقره لا يجد حتى وجبة غذاء واحدة تسدّ رمقه).
لم يكن الإمام ينام ليله
ولأن الإمام عليه السلام مسؤول عن الأمة في كل شؤون حياتها اليومية وبعيدة المدى، كان أكثر ما يؤرقهُ مشكلة الفقر، وكان لا يهدأ له بال إلا حين يطمئن بأن الجميع ناموا مطمئنين لا ينقصهم الزاد أو الأمان، وكان عليه السلام ذا حدس عال ينام ويصحو معه القلق على مواطنيه بالأخص في قضية توفير العيش الرغيد والأمين لأفراد الأمة، فإذا شعر أن أحدا ينتمي إلى دولته يعاني من حالة الفقر والجوع، لا يهدأ له بال حتى ينتشلهُ من فقره وجوعه.
ومع أنه حاكم الدولة، وأعلى وأهم منصب بين يديه، ولا يخرج دينار أو درهم واحد من بيت المال إلا بأمره، لكنه عليه السلام كان يعيش حياة الزاهدين بالدنيا ومغرياتها، من حيث الملبس والمأكل والسكن، وكان همهُ الأكبر والأهم هو كيف يكسو الفقراء ويُشبع بطونهم ويعدل فيما بينهم، ولم يكن لأحد من ذويه أفضلية على عامة الناس مطلقا، وثبت هذا بالفعل وليس بالقول، لهذا حرم الإمام علي (ع) نفسه من الطعام الفاخر والملبس المبالغ به والسكن الفاخر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(لمجرّد أن يحتمل الإمام عليّ سلام الله عليه وجود أفراد في المناطق النائية من رقعة حكومته جوعى، لم يكن ينام ليلته ممتلئ البطن، وقد حرّم نفسه حتى من متوسط الطعام واللباس والمسكن ولوازم الحياة العادية).
وقد كان الإمام علي يفكر بالمستقبل كما يفكر بحاضر الدولة والأمة، وأراد بطريقة إدارته للحكم أن يقدم نموذجا راقيا، للحاكم الذين جاءوا من بعده، ووضع في حسبانه هدفين أساسين وهو في سدة الحكم، الهدف الأول: أن يلقم المشككين بحكمه وطريقة إدارته للسلطة حجرا من خلال الإثبات العملي لحسن الإدارة وعدالتها، والثاني: أن يذكّر الحكام المسلمين بأن مغريات السلطة ينبغي أن لا تتفوق على إراداتهم فتجعل منهم مطايا للرغبات، والتجاوز على حقوق الأمة، وهذا ما ينبغي أن يتنبّه له الحكام المسلمون بخصوص امتيازات السلطة، فعليهم أن يلتزموا بسيرة الإمام علي في الحكم، وأن لا تأخذهم السلطة إلى مغرياتها فيفقدون القدرة على المساواة والعدالة والحفاظ على حقوق الأمة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(أراد الإمام عليّ سلام الله عليه بنهجه الذي اكتفى فيه من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه.. تحقيق هدفين: الأول: أن يبعد عنه أي شبهة كحاكم إسلامي، ويسلب منتقديه الذين أنكروا عليه حتى مناقبه أي حجّة تدينه. والثاني: تذكير الحكّام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم في ظل حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم، والسعي بجد من أجل تأمين الرفاهية والعيش الكريم لهم).
لماذا لا يوجد فقراء في حكومة علي (ع)؟
إن الحاكم عندما يضع رأسه على الوسادة ولا يفكر بالفقراء، فهو ليس بحاكم يستحق التشريف بهذه المسؤولية، فالإمام علي عليه السلام كان دائم القلق من أية حالة محتملة للفقر في الدولة المترامية، حتى لو كانت حالة الفقر لشخص واحد يسكن في الأماكن النائية من الدولة، لهذا كان لا يهدأ له بال إلا عندما يتأكد من معالجة حالات الفقر بصورة حاسمة.
وكان الإمام علي عليه السلام يؤكد على نقطة مهمة موجَّهة للحكام، وهي تخص طبيعة العيش أو الحياة التي يعيشونها هم وذووهم، والتأكيد جاء على أهمية أن يكون أسلوب عيش الحاكم بمستوى حياة الناس ولا يعلو عليهم مهما كانت الأسباب والمبررات، وكان عليه السلام يطالب الحكام بتطبيق هذا الشرط في إدارة الحكم، فلا يجوز للحاكم أن يمتلك القصور ويوجد مواطن واحد بلا دار سكن، وكان يرفض الطعام غالي الثمن فيما يتضور أفراد الأمة أو بعضهم جوعا، لذلك على الحاكم الإسلامي أن يعيش بمستوى حياة المواطن.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله:
(إن مجرّد احتمال وجود جياع في أبعد نقاط الحكومة الإسلامية يعتبر في ميزان الإمام عليّ سلام الله عليه مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو سلام الله عليه يؤكّد على الحكام ضرورة أن يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك، وأن يشاركوهم شظف العيش).
ومن أهم صفات وإجراءات الحاكم والمسؤول في دول المسلمين، أن يكون عادلا فيما بينهم، ولا يفضل أحدا على غيره حتى لو كان من أبنائه، ولا يمكن قبول حجج بعض الحكام بتقريب أبنائهم وأقاربهم إلى الحكم والعيش المرفَّه في حين يبقى أبناء الشعب في حالة يرثى لها من المعاناة والعوز، فالعدل والمساواة في توزيع الثروات على الناس بصورة متساوية من أهم شروط الحاكم، لكن متى يستطيع الحاكم أن يكون على هذه الدرجة النموذجية في إدارة السلطة والتعامل معها؟، عندما يزهد في الدنيا ومغرياتها، وهو ما فعله الإمام علي عليه السلام وطبقه حرفيا في تجربة حكمه للأمة ابان سنوات حكمه القليلة من عمر الزمن، لكنها قدمت نموذجيا فريدا في كيفية إدارة الدولة وفي التعامل مع السلطة ومغرياتها.
وهذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي في قوله:
(كان الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه عادلاً في الرعية، قاسماً بالسوية، وزاهداً في حطام الدنيا).
وهذه هي الرسالة التي أراد (عليه السلام) أن يوصلها لجميع الحكام المسلمين، فهل التزم هؤلاء الحكام بهذه الرسالة وتفاصيلها، وهم يعلنون التأسّي بالإمام علي عليه السلام، سيرةً وسلوكا وتعاملا مع السلطة؟، الواقع بكل مؤشراته يقول غير هذا، وما على حكام المسلمين سوى إعادة النظر بقراراتهم وسلوكهم وطريقة تعاملهم مع السلطة والقوة والنفوذ والمال.
اضف تعليق