استمرار المسيرة الجهادية بوسائل وطرق حديثة بقيادة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي مستفيداً من التطورات في وسائل الاتصال والاعلام، وإدراكاً منه بخطورة الوضع الثقافي والفكري للأمة في ظل ما يُعرف بـ حرب الافكار ومساعي العولمة التي تقودها الدول الكبرى ذات المصالح والاطماع في البلاد الإسلامية...
القضايا الكبيرة والدروب الطويلة لتحقيقها، تعبر -بالضرورة- عن وجود اهداف كبيرة ايضاً، وربما اكبر تستدعي احياناً، وسائل ودروب متعددة، وخلف هذه الاهداف هنالك نوايا كبيرة ايضاً، ويطلقون عليها بـ "الغايات القصوى". فاذا كانت الغاية محدودة ضمن أطر ضيقة، فان القضية تُحل وتنتهي، سواء بالخسران والهزيمة، أو بالمكاسب والانتصار.. كأن تكون الغاية من انتفاضة جماهيرية، الاطاحة بحاكم ديكتاتور، فعندما تدخل الجماهير وطليعتها وقادتها القصور الرئاسية، ثم تخرج الجماهير وتبقى الطليعة لتتسلم قيادة البلاد، ينتهي كل شيء.
بينما النوايا الكبيرة والسامية تشق طريقاً عميقاً وطويلاً في الارض للجماهير وأجيالها القادمة، فأي خطوة وأي كلمة وأي قرار يتخذه القائد يتحول الى شمعة في الطريق الطويل لتحقيق طموحات للحاضر والمستقبل. وهذا يمثل جزءاً من منهج الجهاد والتغيير والإصلاح الذي تبنته أسرة آل الشيرازي منذ القرن التاسع عشر.
فعندما نتحدث عن مواجهة الاستعمار البريطاني – على وجه التحديد- فيما مضى من الزمن، فنحن نقف بالحقيقة امام اهداف وغايات، لا تنتهي وتتوقف عند بعض المكاسب السياسية والتغييرات السطحية اجتماعياً وسياسياً، إنما تمتد الى تغييرات بنوية وشاملة في حياة الانسان والمجتمع، فالحرية – مثلاً- التي تنادي به هذه الأسرة المجاهدة، طيلة العقود الماضية، ليست هي أداة للصراع والتفاوض مع الطرف الآخر، وليست حرية للاعلام والنشاط الحزبي، ولا حتى حرية للرأي والعقيدة وحسب، إنما هي جزء من البناء الحضاري للشعب والأمة، وإلا ربما تكون هنالك آراء وعقائد غير صحيحة تصدر من هذا وذاك من شأنها التأثير سلباً على المجتمع.
وفي قرائتنا للشخصيتين الكبيرتين في مسيرة النضال ضد الاستعمار البريطاني؛ وهما الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي، والميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي – قدس الله سرهما"، نجد القيمية والمبدئية هي المعيار في التعامل مع الاحداث.. فالامام المجدد الشيرازي، وهو المرجع الاعلى للشيعة في العالم، ويسكن مدينة سامراء المعروف بوجود المكون السني فيها ضمن تركيبتها السكانية. كان بإمكانه الاستفادة من الدعم السياسي من اطراف اقليمية ودولية مستغلاً تقاطع المصالح السياسية فيما بينها، إلا انه لم يعِر لهذه الامور أي اهتمام، وهذا ما حصل خلال زيارة قام بها جنرال بريطاني الى سامراء عندما سمع بأن احد سكان المدينة تجاوز على سماحته بأن سطى على داره بهدف التهديد والترويع، في قصة مفصلة لسنا بصددها.. فعرض الجنرال البريطاني مساعدة بلاده للحوزة العلمية في مقابل التهديدات التي يتعرض لها من قبل بعض الجهّال في المدينة، وهو بذلك يحاول إثارة غبار الخلاف الطائفي، لاسيما وأن العراق كان حينها تحت الهيمنة العثمانية التي طالما تسببت بضغوط ومعاناة لشيعة العراق طيلة قرون من الزمن. بيد أن ذكاء الامام الشيرازي كان أكبر من هذا بكثير. حيث واجه الجنرال بالقول: القضية بين مسلمين ونحن قادرون على حلها، ولا دخل للاجانب فيما بينهم..."!
هذا الموقف وغيره يمثل طريقاً مضى عليه الامام المجدد لصياغة مجتمع متماسك يحمل كل مواصفات القوة والمنعة سياسياً واقتصادياً وحتى ثقافياً. وقد تخلل هذا الطريق فتواه الصادحة بتحريم التبغ الايراني الذي اشترت شركة بريطانية امتياز زراعته وانتاجه في ايران. وحسب المؤرخين فان هذه الفتوى لم تصدر بين ليلة وضحاها، إنما بعد مضي حوالي اسبوعين أجرى الامام المجدد مباحثات ومشاورات من كبار العلماء والمجتهدين في سامراء والنجف الاشرف، للتحقق من عدم تعرض الناس للأذى من وراء هذه الفتوى، لاسيما وان القضية تتعلق بفرص عمل والحصول على لقمة العيش التي كانت عام 1890، في ظل نظام حكم جائر ومستبد، بمنزلة البحث عن الذهب وسط الصخور، وقد تسبب الملك الايراني "ناصرالدين شاه" بتوقيعه على اتفاقية المقايضة، بأن يكون عدد كبير من المزارعين الايرانيين تحت رحمة البريطانيين، فهي فرصة عمل، وفي نفس الوقت نقطة بداية لانحراف كبير وخطير في الامة.
كذلك الحال بالنسبة لقائد ثورة العشرين الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي – قدس سره- فان اصدار فتوى الجهاد ضد البريطانيين لم يكن بالأمر الهيّن، ففي عام 1918 احتل البريطانيون العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وانهيار الدولة العثمانية، وخلال عامين ظهرت حقيقة المحتل بممارسات عدوانية ولا انسانية مسّت كرامتهم وهويتهم. وكانت زيارة الامام الحسين، عليه السلام، في ليلة النصف من شعبان سنة 1338 هـ فرصة لعدد من رؤساء القبائل وشيوخ العشائر العراقية لأن تعرض الحالة في مجلس الامام الميرزا الشيرازي، الذي كان حينها قد تسنّم مسؤولية المرجعية العليا بعد وفاة استاذه الامام المجدد الشيرازي في سامراء، وعندما استفتوه بالانتفاضة المسلحة، أجابهم بغير قليل من الحيطة والحذر، وقال ما نصّه: "إن الحمل لثقيل وأخشى أن لا تكون للعشائر قابلية المحاربة مع الجيوش المحتلة.." فطمأنه زعماء العشائر بأن فيهم الكفاءة الكاملة ثم عاد إليهم قائلاً: "أخشى إن يختل النظام ويفقد الأمن وان الأمن أهم من الثورة وأوجب منها"، فأجابوه بأن لهم القابلية على حفظ الأمن وان الثورة لابد منها فشكرهم وقال: "إذا كانت هذه نواياكم وهذه تعهداتكم فلله عونكم".
على هذا الطريق مضى الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي، ومن قبله والده المُكرم والمرجع الكبير، السيد ميرزا مهدي الشيرازي – قدس الله سرهما- فالوقفة الشجاعة والصلبة أمام المد الماركسي في العراق، كان في غاياته القصوى، حماية المجتمع والانسان من كل يسبب في دمار حياته وضياع مستقبله، بسبب الافكار الهدامة والتصورات الوهمية التي كان اصحابها يجملونها ويروجون لها بين الناس، واكبر دليل على ذلك، المشاريع الكبيرة والواسعة التي وضع بذرتها الاولى المرجع الشيرازي الأب، من خلال تأسيس تجمعات منظمة، بعضها تحت خيمة القرآن الكريم، والبعض الآخر تحت خيمة الشعائر الحسينية وهكذا. كما جنّد الخطباء والشعراء والأدباء وكل القوى الموجودة في الساحة الاسلامية لمواجهة الخطر الداهم، فكان تتويج هذه الجهود في المهرجان الخطابي والشعري العظيم في ذكرى مولد أمير المؤمنين، عليه السلام، في كربلاء المقدسة، عام 1960، وبعد عام واحد كان المرجع الراحل على موعد مع الأجل حيث وافته المنية في الثامن والعشرين من شهر شعبان المعظم عام 1380.
ثم واصل الطريق، ابنه المرجع الراحل، بل أقدم على تشييد المزيد من المؤسسات الثقافية والعلمية، من مدارس ومكتبات وغيرها كثير، والاهم من كل ذلك، متابعته المكثفة لمجريات الامور السياسية منذ الانقلاب العسكري عام 1958 الذي ادخل العراق في العهد الجمهوري، وما تبع ذلك من فتح العراق أمام مختلف التيارات الفكرية والثقافية، وفي وقت لم يكن المستوى الثقافي والمعرفي للناس بالقدر الذي يمكنهم من المناقشة لاكتشاف الحقيقة او الدفاع هويتهم وثقافتهم. لذا كان الامام الراحل على موعد مع معركة من نوع جديد في العراق، يقف في الجانب الآخر مدعون للوطنية والثورية والجماهيرية.. من اجل ذلك كان سماحته يذكر ويؤكد دائماً على الخلفية الاستعمارية للحكومات والانظمة السياسية التي لا تتحمل التغيير والإصلاح واحترام عقائد الناس وهويتهم. وهذا ما جعله يدفع ثمناً باهضاً في تحمله شتى صنوف الضغوط النفسية والمعاناة حتى أواخر حياته.
واليوم نشهد استمرار المسيرة الجهادية بوسائل وطرق حديثة بقيادة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- مستفيداً من التطورات في وسائل الاتصال والاعلام، وإدراكاً منه بخطورة الوضع الثقافي والفكري للأمة في ظل ما يُعرف بـ "حرب الافكار" ومساعي "العولمة" التي تقودها الدول الكبرى ذات المصالح والاطماع في البلاد الإسلامية.
اضف تعليق