ثمة أنواع من التوازن يحتاجه الإنسان في علاقاته المجتمعية، وغالبا ما تأخذ هذه العلاقات طبعا نفسياً، وفي حال اختلالها فإن ذلك سوف ينعكس على توازن الإنسان وتدهور أناه تضخّماً أو هزالاً، وربما لا نخطئ إذا قلنا أن من أصعب الأمور التي ينبغي أن ينجح فيها المجتمع في علاقاته المختلفة، هو قدرته على تطويع أنا الإنسان وجعلها أكثر توازنا في علاقاتها مع الآخرين من حيث الضعف أو التضخّم الذاتي.
وهناك مسؤوليتان في هذا الإطار، الأولى مسؤولية المجتمع عن تشجيع التوازن بين أفراده، أما الثانية فهي مسؤولية الفرد عن تطويع وتربية أناه ومحاولة تحقيق الانسجام مع المحيط المجتمعي بأقصى درجة ممكنة، لأن الأنا إذا لم يتم ردعها وتحجيمها، سوف تكون سببا كبيرا في تأجيج الصراعات الفردية وتفجير الخلافات الجمعية، والسبب كما يقول علماء النفس، أن تضخيم أنا الإنسان تحجب الرؤية الصحيحة والمتوازنة عن التفكير وتجعله غير قادر على التوازن النفسي، كما أنه سيكون في حالة ميول دائمة لمصالحه ومنافعه الذاتية، بغض النظر عن مشروعية الأساليب التي يستخدمها مع الآخرين، أي أنه يكون مستعدا للتجاوز على حقوق غيره بسبب حجب التفكير السليم.
وأمر طبيعي عندما يرى الإنسان نفسه أهم من الآخرين، ويعتقد أن الحق معه دائما حتى لو كان مخطئا، هنا سيحدث اختلال خطير في توازن الإنسان، ويصبح التضخم الذاتي لديه عاليا وسيكون ذلك سببا أساسيا في تفجير الصراعات بين الأفراد والجماعات وحتى بين الشعوب، بالمقابل لا يعني التخلي السيطرة عن الأنا نوعا من الإذلال، أو التذلل للآخرين، بل هو نوع من التواضع المحبب، لأن المقابل سوف يشعر بأسلوب التعامل الإنساني ويقدره كثيرا.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتاب (من عبق المرجعية):
(ليس المقصود من التخلي عن (الأنا) التذلل للناس، كما ليس المقصود التكبر عليهم، بل ألا يكون عملك لذاتك وإنما يكون لله وحده).
ولكن ليس جميع الناس لديهم نفس الاستعداد لكبح ذاتهم، فهناك من يسعى لتنمية أناه على حساب الآخرين وحقّهم في التعامل الحسن، إذ يوجد أفراد ليس لديهم الاستعداد لتحجيم ذاته والسيطرة عليها، وهناك من لا يحبذون التغيير، ولا يجعلونه ضمن تفكيرهم او أهدافهم، وهم بذلك يصبحون مصدر إرهاق لعائلاتهم ومجتمعهم، وذلك بإثارة الفتن وتفجير الصراعات، والسبب دائما، تضخم أنا الإنسان مع ضعف او غياب الرغبة لديهم من اجل التغيير، وهم غالبا يتطيرون من الأوضاع والأساليب السليمة التي تتطلب قبولا وانصياعا جمعيا وفرديا، لأن الذي تتضخم أناه رغما عنه سوف لا يتمكن من احتوائها .
ينصح سماحة المرجع الشيرازي، من يعاني من التضخم الذاتي بالقول: (حاول أن تخالف هواك في كل الأمور، فإن كنت لا ترغب في امر رغم اعتقادك بصوابه، حاول ان تخضع له بكل رحابة صدر).
تقوية علاقة الفرد بالمجتمع
يركز سماحة المرجع الشيرازي على نقطة مهمة، وهي حتمية تحسين الفرد لعلاقته بالمجتمع، لأن التخلي عن الأنا العالية المتكبرة سيكون لصالح الآخرين والذات معا، ولكن يتطلب ذلك إجبار النفس على احترام الآخر وتركه يقول رأيه، فضلا عن الإرادة القوية التي يتم من خلالها ردع التكبر، والتنازل عن المصلحة الذاتية لصالح المجتمع، لأن الأخير أولى من ذات الفرد، فضلا عن أن الفائدة إذا كانت تعم الناس جميعا، فإن الفرد نفسه سيكون رابحا أيضا، بل ربحه مع الجماعة سيكون أكثر وأفضل، لأنه سوف يعيش في حاضنة مجتمعية مرفّهة ومتطورة، إذاً لابد أن يتغير تفكير الفرد من الانطواء الى الانفتاح على الجمع وتعميق العلاقة به، خاصة أن الضوابط الأخلاقية والتعاليم الإسلامية تنحو هذا النحو وتدعو الى تغليب روح الجماعة على الفردية وتدعو إلى حماية حقوق الجماعة ومنها حقوق الفرد.
لهذا يدعو سماحة المرجع الشيرازي إلى هذا الهدف الحيوي فيقول سماحته :
(المطلوب من كل واحد منا تقوية العلاقة مع المجتمع، وذلك عن طريق الالتزام بالأخلاق الإسلامية كالتواضع والوقار والبشر والكرم والعفو والرحمة وصلة الرحم).
علما أن حالة التغيير من الأنا الى الجماعة تتطلب جهودا استثنائية فردية في مقارعة الذات، بمعنى مخالفة النفس التي تحث على تحقيق الرغبات حتى غير المشروعة منها، فحتى لو تم تحقيق هذه الرغبات على حساب مصالح وحقوق الآخرين، وحتى لو أدت الى الصراع وتأجيج الفتن، لذلك يتطلب صد النفس سعيا كبيرا وحثيثا، وعملا يقترب من الكفاح والجهاد ضد الأهواء الذاتية التي تسعى إليها النفس، فإذا كان الإنسان مُنقادا لنفسه، هنا سوف يسقط في حبائلها ويكون طوع بنانها، فتذهب به إلى حيث تشاء وليس العكس .
لهذا السبب يرى سماحة المرجع الشيرازي وجوب مخالفة النفس كما نلاحظ ذلك في قوله:
(لا تصبح الأخلاق ملكة عند الشخص إلا بعد أن يحارب نفسه ويخالفها ثم يخالفها ويخالفها حتى تنمو عنده ملكة حب الخير في كل أبعاده).
الإيثار من أجل الآخرين
لو اعتاد الفرد أن يمنح الآخرين جانبا من اهتمامه، فسوف يكون الرد هو اهتمامهم به، وهذا يعني انتشار الاهتمام المتبادَل بين الجماعة والفرد، وهذا أقصى ما يحلم به المجتمع الناجح، لأن حب الخير يفرض على الإنسان أن يحترم من هو اضعف منه، وهذا لا يتحقق إلا عندما يتم تطوير ملكة حب الخير لدى الإنسان، وفي حالة تحقيق هذا الهدف، فإن الفرد سوف يشعر بسعادة كبيرة، لان هذا الأمر يتسق مع طبيعته وفطرته، وعندما تكون أفكار وأعمال الإنسان متوازنة ومتوافقة مع السجايا البشرية، فهذا هو قمة الانسجام بين الإنسان وبين ما يؤمن به من مبادئ وأفكار.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (إذا حصل الإنسان على ملكة حب الخير في كل أبعاده، شعر باللذة، وبدأ يتلمس نتيجة أتعابه).
بالطبع ليس كل الناس يذهبون إلى فعل الخير، فهناك من يسير بالضد من ذلك، علما أن هناك من يصد الخير ويحاول أن يثير الحقد والضغينة بين المتناقضين، وإذا سعى احدهم للخير وبث روح الانسجام سنلاحظ أن هنالك أناساً لا يرغبون بذلك ولا يشجعون عليه، بل كل ما يسعون إليه هو بث الفرقة والتناحر بين البشر بعضهم مع بعض.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(لو أردت الإيثار او غيره من الأخلاق الحميدة لا يدعك من حولك حتى يشتبه عليك الأمر). وينصح سماحته بأهمية التعامل الجيد مع الضعفاء لأي سبب كان.
فيؤكد سماحته قائلا: (ليكن تعاملنا مع أضعف الناس إيمانا، بنحو لا يترك لديه انطباعا عنا بالتكبر).
وهناك ملاحظة بالغة الأهمية على الإنسان التنبّه لها ومراعاتها في أقواله وكل تصرفاته مع الآخرين، وهي تتعلق بصدق التواضع وعدم جواز التصنّع فيه، خصوصا في قضية التحرك في المجتمع، لأن التصنع سوف يدخل في باب الرياء أو الاحتيال على الناس، لهذا يجب أن يكون الإنسان صادقا عفويا في كل تعاملاته مع الناس، لذلك على البشر حين يتحرك بين الناس ويدلي بدلوه لهم، أن يكون صادقا وطبيعيا، ولا يتقمص الشخصية المتواضعة وهو في الحقيقة متكبرا في داخله على الآخرين.
حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي ناصحاً: (هب أنك لست متكبرا ولكن هذا وحده لا يكفي، بل ينبغي ألا تترك انطباعا يوحي بذلك).
اضف تعليق