كيف تُبنى الأمم، وما هي شرائط إرتقائها وتطورها؟، أسئلة لا يكف العقل بشقّيه الفردي والجمعي عن طرحها على مدار الوقت، فمعظم المصلحين والمفكرين والفلاسفة، ينصحون الانسان برسم الهدف الذي يبتغيه مسبقا، ثم عليه أن يسعى الى تحقيقه بإرادة عالية وقوية، مشروطة بانتهاج السبل المشروعة لتحقيق ذلك الهدف، ويؤكد هؤلاء أن ليس هناك أمرا مستحيلا، إلا ما هو خارج طاقة البشر وقدراته، ولكن اذا توافرت الهمّة الكبيرة والارادة القوية، فإن الوصول الى الهدف المبتغى، سوف يتحقق آجلا أم عاجلا لصنع الحياة الافضل.
لقد شبّه أحد العلماء المختصين الأمة بالكائن الحي، لها عقل وإرادة وأهداف وأدوات، وهناك ما يعيق الأمم عن أهدافها والسبب الأول السلطة غير الشرعية وسعيها لضرب طوق من الجهل حول عقول الناس، لذا فلا غرابة في القول بأن عالم اليوم مبتلى بأنماط شتى من الجهل، وعلينا أن نتعامل مع هذا الحال بهمّة الرجال الاقوياء، أصحاب الارادات الكبيرة، ولابد أن يؤازر هذا الطرح نوع من التخطيط الميداني العلمي المتخصص لتمحيص الأحداث والوقائع، ومن ثم وضع ما يلزم من إجراءات نظرية وتطبيقية.
وهناك اسلوب ومنهج ينصح به سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، للتعامل مع هذا الأمر، لكن سماحته يؤكد قبل كل شيء في كلمة توجيهية له على ظاهرة طفحت بقوة في الواقع العالمي برمته، ألا وهي الجهل، فسماحة المرجع الشيرازي يؤشر قضية خطيرة جدا، عندما يقول بأشد الوضوح:
(إن عالم اليوم مبتلى بجاهلية من نوع جديد).
ولا شك أن هذا التأشير ينمّ عن مشكلة محورية، فهذه الجاهلية الجديدة تستدعي ما يقابله من علم وثقافة وفلسفة وحملة عقول تنويرية تأخذ على عاتقها مواجهة صنّاع الجهل، فهل هنالك فعلا من يطور عوامل الجهل ويصنع الجاهلية ويديم وجودها؟، الجواب: نعم، فالحكام المستبدون والحكومات الفاسدة تسعى لصناعة الجهل ةترعى الجاهلية لكي تبقى تتنعم بامتيازات السلطة، وهذا ما حدث في السابق وما يحدث الآن، وهناك نماذج حيّة تثبت هذا الرأي، فمن هم المتصدون لموجات التجهيل المتعاقبة على الأمة وماهي الشرائط التي ينبغي توافرها فيهم؟.
إن أهم ما تحتاجه الأمة لصنع الإرتقاء هو الإرادة الفولاذية، فإذا كان الإنسان قويا وخصوصا إذا كان في موقع الصدارة فإنه يمنح الجميع قوة واقتدارا.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (على الإنسان أن لا يسمح للمشاكل والمصائب بتحطيم معنوياته وإيذائه نفسيّاً، لأنه إن كان ذا شخصية انهزامية، هجره الآخرون، ولن يتمكن من إيجاد أية حالة إيجابية في داخله).
الهمّة العالية تصنع المستحيل
وحتما أن الفرد سيكون له دوره في الارتقاء، ولكن يحتاج البناء الشامل الى جهود مشتركة جمعية تدمج الطاقات الفردية مع الجماعية فحيلها الى قوة هائلة في طريق الإنجاز الأعظم، نعم مما لا نقاش فيه أن الهمّة العالية تحتاج الى دعم تنظيري وعملي، أي أننا نحتاج الى العلم والعمل، ونحن كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي يوجد لدينا منهج حاضر ومتكامل بين ايدينا، ألا وهو المنهج النبوي وعلوم أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم، لأن هذا المنهج يدعم توجهات الانسان، ويقف الى جانب ارادته، كونها ارادة الخير والحق والعدالة في الحياة، فكل من اطلع على سيرة أهل البيت وتجاربهم مع الحكام والطغيان ومواجهة ومعالجة الجهل، سوف يكون قادرا على توظيف تلك التجارب لصالحه مع أهمية الحفاظ على المبادئ في التطبيق.
وهكذا فإن ما يقوم به الفرد سوف يدعم الفعل الجمعي بالنتيجة، لذلك يؤكد المصلحون، على أهمية الارادة وتحديد الهدف المبتغى، حتى لا يبقى الانسان تائها لا يعرف ماذا يريد، أو ما هو هدفه في الحياة؟ وهناك وقائع وتجارب تاريخية كثيرة، تؤكد على أن الهمم والارادات فعلت الكثير، بل احيانا غيّرت مجرى التاريخ، وأثرت في الاحداث المستقبلية بصورة واضحة، وبهذا تكوون جهود إرتقاء الأمة مشتركة بين الجهد الفردي والكلّي.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الجانب: (ينبغي معرفة أن كل من قام بإنجاز كبير، فإنه قد قام به ضمن جهد جهيد وسعي حثيث).
وهكذا فإن صنع إرتقاء الأمة يعتمد الجهد الفردي ولكن في الإطار الجمعي، ولكن ينبغي التأكيد أن تحقيق الهدف لا ينحصر بالفعل الجمعي فقط، لأن الفرد يمكنه أن يصنع الكثير حتى لو كان معرَّضا للملاحقة، والنفي والاقصاء وما شابه، والدليل ابو ذر رضوان الله عليه، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي عنه: (لابد أن يكون صاحب الهمّة والايمان، مستعدا لدعم ايمانه بالفعل والجهد، لأن الشرط الثاني الذي يوجبه سماحة المرجع الشيرازي، حول تحقيق النجاح في الاهداف المطلوبة هو: (بذل الجهد الدائم. فالأئمة صلوات الله عليهم ورغم شأنهم الرفيع، ومنزلتهم وقربهم من الله سبحانه وتعالى كانوا لا يكلّون عن العمل والنشاط).
العمل الحثيث وضمان التقدم
ولعلنا نفهم تمام الفهم، أن العمل الحثيث يعد من أهم شرائط ارتقاء الأمة، أية أمة، فلا يمكن أن نلمس تقدما في أي مجال أو مستوى كان بعيدا عن العمل وتقديم الجهود المطلوبة التي ينبغي أن تكون بعيدة عن التقليدية وتعتمد الابتكار والابداع والحداثة في الطرح والتطبيق، وباختصار شديد بعد توافر الإرادة والهمة العالية للفرد والجماعة، ينبغي أن يكون هناك مواصلة للعمل على مدار الساعة، حتى لو تم ذلك باستخدام نظام البديل أو ما يسمى بـ (نظام الشفتات باللهجة العراقية الدارجة)، فالعمل ينبغي أن لا يتوقف قط.
وتأكيدا لهذا الرأي أورد سماحة المرجع الشيرازي ما يلي:
(لقد ورد في مضمون رواية عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، حيث أجاب من سأله بخصوص سعيه وعمله الدائم، ولماذا لا يأخذ لنفسه قسطاً من الراحة، قائلاً: إن نمت النهار ضيّعت رعيتي، وإن نمت الليل ضيعت نفسي).
ويدل هذا بشكل قاطع على الدور المتميز القائم على الجهد الفردي الكبير، حيث يقف بقوة وراء الانجاز المهم في طريق الإرتقاء الكلي للأمة، مع أهمية أن يندمج العمل الفردي بالعام وأن يؤثر من حيث المبدأ في الآخرين، ولدينا في سيرة الأفراد العظماء شواهد تؤكد هذا المنحى.
إذ يؤكد لنا سماحة المرجع الشيرازي على سيرة رجل فذ وعلامة فارقة في التاريخ الإسلامي، ألا وهو أبو ذر الغفاري (الفرد)، الذي قدم جهودا عظمى ودروسا كبرى للمسلمين، فيقول سماحته: (أما أبو ذر رضوان الله تعالى عليه، فلم يكن استثناءً من هذه القاعدة، إذ استطاع بجهود جبارة أن ينال شرف هداية أغلب سكان المنطقة وتشيعهم على يديه وبروز المئات من العلماء والفقهاء الشيعة).
ومع توافر الإرادة التي تسعى نحو الإرتقاء هناك شرط آخر كما ذكرنا سابقا، وهو العمل، وثمة شرط أو ركن ثالث وهو (العمل الصحيح)، فلا فائدة من الإرادة القوية، ولا من العمل، إن لم يكن ذلك (صحيحا)، فالعمل ينبغي ان يكون مقرونا بالصحة، وهذه الشرائط الثلاثة كفيلة بتحقيق إرتقاء الأمة، وحتى نضمن نجاح المسعى بهذا الإتجاه، لابد أن نضمن ثلاث شرائط هي (الإرادة، العمل، العمل الصحيح)، حيث يشرح سماحة المرجع الشيرازي ذلك بقوله:
إن (العمل الصحيح، هو أن يقوم الإنسان بما يقوم به، ببصيرة ووعي وإدراك تام).
اضف تعليق