كل الحكومات في كل دول العالم وفي كل الحقب والعهود تجتهد لكي توفر حياة رغيدة لشعبها، والحكومة التي تفشل في ذلك، هذا يدل على أنها لا تمتلك قدرة على إدارة موارد الدولة خصوصا تلك التي توجد فيها ثروات كثيرة مثل العراق، فهو بلد غني ليس اليوم، وليس بعد اكتشاف النفط والمعدن في أرضه، بل هو بلد الخيرات منذ مئات السنين حتى أُطلِق عليه (بلد السواد) لكثرة المزارع والبساتين والنخيل.
وهنا يتم طرح التساؤل التالي، لماذا تفشل الحكومة في القضاء على الفقر مع أنها تدير دولة كثيرة الموارد كالعراق؟، السبب الأول والأهم فقدان هذه الدولة للسياسة العادلة، وعجز الحكومة عن تأسيس وتطوير وإدارة اقتصاد سليم، والسبب الآخر وهو الأكثر تأثيرا غياب الفضيلة في الإدارة وهذا ما يسبب انتشار الفساد في مؤسسات الدولة، لذلك إذا أراد الساسة في العراق تحقيق السعادة لشعبهم وأنفسهم عليهم باعتماد السياسة العادلة والاقتصاد السليم والفضيلة في التصرف والفكر والسلوك الإداري الأمين.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتاب (من عبق المرجعية): (سعادة الدنيا والآخرة رهينة مثلث، يشكل طرفاه الاقتصاد السليم، والسياسة العادلة، والطرف الثالث الفضيلة).
فإذا سعت الأحزاب والقادة السياسيون الى رفاهية المجتمع والقضاء على الفقر عليها بالسياسة العادلة، علما أن هنالك شروطا محددة ينبغي أن توفرها الحكومة للمجتمع لكي يصبح أكثر وعيا وأكثر استعدادا للتطور والابداع، ومن اهم السياسات الواجب تنفيذها على الارض سياسة العدل والانصاف والتعامل مع الجميع وفق مقتضيات المصلحة العامة، وفي هذه الحالة تكون النتائج مؤكدة في صالح المجتمع حيث يسود الرخاء وتعم الفضيلة، وتنتشر ثقافة العدل والانصاف بين عموم افراد المجتمع، لكن يبقى المحرك والدافع الاول لصنع مثل هذا المجتمع هو سلوك الحكومة وسبل إدارتها لمؤسسات الدولة وإبعاد شبح الفساد عنها، بعد ذلك سوف يزول الفقر بعد أن تنتفي أسبابه من واقع المجتمع ويتم إجهاض مشاريع الفساد وتسود العدالة السياسية والاجتماعية.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي بصيغة السؤال: (لماذا الفقر، والاقتصاد سليم، والسياسة عادلة، والمجتمع فضيل)؟.
الطغيان الحكومي يولد الانفجار
السياسيون في الغالب يتجاهلون ما يحدث لمن سبقهم من الحكام، فالسلطة كما يبدو تعمي عيونهم وحتى بصائرهم، وإلا لماذا ينسون بهذه السرعة مصير من يطغي على شعبه، إن مجمل الاضطرابات التي تحدث في المجتمعات إنما يكون سببها غياب العدالة في التعامل الحكومي مع مكونات الشعب، وهذا ما أثبتته الوقائع الراهنة في الدول الواقعة ضمن منطقة الشرق الاوسط، حيث الطغيان الحكومي بلغ ذروته في هذه الدول، فهبّت الشعوب على حكوماتها كي تستعيد حقوقها وكرامتها وهو امر لابد أن يحدث مهما كان جبروت الحكومات ودرجة قمعها لشعوبها، ففي هذه البلدان التي تتخذ من الإسلام دينا رسميا لها، تعيش الشعوب فقيرة مضطهدة، والسبب واضح تماما هو غياب النظام السياسي السليم وفقد السياسة العادلة وضعف الاقتصاد وانتفاء الفضيلة في الفكر والسلوك، علما أن هذه السمات لا تمت للفكر الإسلامي بصلة، في حين كانت ولا تزال تدعي تلك الأنظمة تمسكها بتعاليم الإسلام في اللفظ أما في التطبيق فلا توجد أية مؤشرات واقعية عن ذلك.
علما أن جميع مستلزمات الغنى، والقضاء على الفقر موجودة في بلادنا، بسبب كثرة الموارد الطبيعية والبشرية، وازدياد الثروات والموارد المالية تكفي الشعب بشكل مضاعف لكن غياب السياسة العادلة وضعف الاقتصاد وسياسة الأحزاب التي تفتقد الرؤية والخبرة، كل هذه تجعل من الفقر موجودا في بلدنا الغني.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي باستغراب:
(في البلد الاسلامي في وقت حكم الاسلام الصحيح، يلزم أن لا يوجد حتى فقير واحد، فالضمان الاجتماعي في الاسلام يحتم على الحاكم الاسلامي أن يزيل الفقر نهائيا).
وهكذا يتضح أن المشكلة تتعلق في غياب السياسة العادلة، وسوء توزيع الثروات وإدارة الأموال، وشيوع الفساد الإداري، وضعف القيم والمبادئ، فالخلل ليس في المجتمع إنما في طريقة ادارته، وفي طبيعة الحكم ومدى احتكامه الى تعاليم الاسلام التي تؤكد على العدل والمساواة والانصاف وحق الرأي والتكافل وما الى ذلك من أساليب عملية تساعد المجتمعات على الاستقرار والتطور والمعاصرة، لذا لابد أن تعي الحكومات الحالية أن القضاء على الفقر يقع في مقدمة الأولويات الواجب تنفيذها فورا باعتماد السياسة العادلة وصناعة الاقتصاد السليم وفق الأساليب التربوية والأخلاقية العالية.
الأهمية الكبرى لبناء الإنسان
يُضاف الى شرط السياسة العادلة والاقتصاد السليم صناعة الإنسان المبدئي المؤمن بالفكر الرصين والسلوك القويم، ومثل هذا الهدف الكبير لن يتحقق ما لم تسعى الحكومات بجدية لبناء الانسان نفسه، والقضاء على الفقر اولا، فليس هناك تطور ولا ابداع في ظل اجواء الفقر المدقع، وطالما بقي الانسان يعاني من الشحة والعوز ويفتقد الى الحاجات المادية الاساسية فإنه يبقى ممسوخا ذا شخصية ضعيفة، ولا يعرف ماذا يريد، ولا كيف يوظف طاقاته بصورة صحيحة، أي أنه يجهل قدراته ومواهبه، ولا يعرف كيف يستخدم ذكاءه أو حتى خبراته، لأنه يجهل ذلك تماما
هنا يسأل سماحة المرجع الشيرازي عن هذا الجانب قائلا:
(لو صنعت من الكارتون شكلا على هيئة انسان فهل يصبح انسانا مع انه لا روح فيه ولا يتكلم ولا يرى ولا يفكر؟).
لهذا يحتاج المجتمع لكي يبني نفسه الى إنسان واعٍ مفكر وفاعل في نفس الوقت، وهذا لا يتحقق من دون مساعدة الجهد الحكومي وهو من أهم واجبات الحكومات تجاه شعوبها، من اجل بناء المجتمع المتوازن والمنتج في آن واحد، وعندما تسعى الحكومة بشكل جاد الى بناء الإنسان وفق سياسة العدل والفرص المتكافئة، واعتماد الخبرات والمواهب والكفاءات في إدارة البلاد، كل حسب خبرته ومؤهلاته وكفاءته، سوف يؤدي ذلك بالنتيجة الى نوع من الانتعاش الاجتماعي المدعوم بنجاح حكومي يعتمد السياسة العادلة.
وهذا هو بالضبط ما ينقص الحكومات العراقية التي تعاقبت على إدارة البلاد بعد نيسان 2003، فهي لم تعتمد السياسة العادلة، ولم توظف قدرات الخبراء والكفاءات لبناية أسس الاقتصاد السليم، وفق هذا وذاك شاع الفساد في مؤسسات الدولة، أي أن فقد مثلث (السياسة العادلة، الاقتصاد السليم، الفضيلة)، أدى الى تدهور واضح في حياة العراقيين، على عكس ما كان يتوقع هذا الشعب، ولو أن الحكومات المعنية اعتمدت السياسة العادلة والاقتصاد السليم والفضيلة، لاستقر الناس وشعروا باهتمام القادة السياسيين والأحزاب بهم، حيث ينتفي الظلم والجور ويتم طرد الإرهاب ومشاكل الفقر وتسود روابط المحبة والسلام والتعاون بين الجميع، وهذا هو المطلوب بالضبط.
حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا حول هذا الجانب: (يستقر الناس في جوّ لا ظلم فيه ولا جور، ولا عنف ولا إرهاب، ولا قيود ولا أغلال، ولا سجن ولا تعذيب، ولا مشاكل ولا فقر، ولذا كان العمران والرقي، والمحبة والثقة، إبان تطبيق الإسلام أمرا عاديا لم يجده العالم في هذا اليوم).
اضف تعليق