q

وَقَدْ رَأيْتُ المُلُوكَ قاطِبَةً *** وَسِرْتُ حتى رَأيْتُ مَوْلاهَا

وَمَنْ مَنَـــايَــاهُمْ بِرَاحَتِهِ *** يأمُـــرُهَا فيــهِمِ وَيَنْهَـــــاهَا

أبَا شُجـــــاعٍ بِفارِسٍ عَضُدَ الدّوْلَةِ فَنّـــــــــاخُسْرُواً شَهَنْشَاهَا

أسَـــامِياً لم تَزِدْهُ مَعْرِفَةً *** وَإنّمَـــا لَــذّةً ذَكَرْنَـــــــــاهَا

تَقُودُ مُسْتَحْسَنَ الكَلامِ لَنَا *** كما تَقُودُ السّحابَ عُظْمَاهَا

هذه النبرة التي طغت على شعر تلك الفترة في المدح جاء بها المتنبي هنا استثنائية في مدح عضد الدولة (علي بن بويه)، وهي تحتاج إلى التمييز الجذري والجوهري عن غيرها من الأشعار، وإخراجها من مظلة التزويق اللفظي إلى مصاف التحقيق الشعري، بعد ملاحظة ضخامة الفروقات بين النسب الملكي الصريح للبويهيين في هذه الأبيات وما حققته دولتهم وسياستهم الملكية العريقة على أرض الواقع من تقدم وازدهار وما أتحفته للتاريخ من إنجازات عظيمة، وبين الكلمات الفارغة من المحتوى التي ألصقها شعراء ومؤرخو البلاطين الأموي والعباسي بهاتين الدولتين من مدائح كاذبة ومن تمجيد لخلفائهما الغير مؤهلين للخلافة، وما رسموه لهما بها من أمجاد مزيَّفة صنعتها أخيلة التزلف، فتلاشت وتلاشت معها أكاذيب المتزلفين.

إن التعميم في الألفاظ الذي يكاد يطغى على وصف الخلفاء والملوك عند الشعراء والمؤرخين في تلك الفترة، يستدعينا الوقوف على تأريخ هؤلاء الخلفاء والملوك، والبحث عن جذورهم، وتأريخ دولهم، وأحداثها، واستقراء إنجازاتها، ومن ثم يحق لنا أن نتساءل: هل علينا أن نكرر نفس عبارات المؤرخين السابقين عندما نريد أن ننفض الغبار عن تاريخ الدول التي قامت في تلك الفترة وغيرها ؟؟

أظن أننا لا يمكن أن نردِّد ما قاله المؤرخون والشعراء من أقوال بحق تلك الدول، إلا بعد استقراء عميق ودراسة مستفيضة وتسليط الضوء على ما حققته تلك الدول، وما الذي يميِّز بعضها على بعض في شتى المجالات، ومن ثم نستطيع أن نثبت هذه الأقوال أو ننفيها سلباً أم إيجاباً، قبل أن نجحف حق بعضها ونغبن حكامَها ورجالاتِها أو نعطي البعض الآخر منها وحكامها ورجالاتها أكثر مما يستحقون.

ونحب أن ننوّه إلى أن هذا الموضوع ليس عقد مقارنة بين دولة البويهيين وبين غيرها من الدول، بقدر ما هو عملية إنصاف لها وقراءة موضوعية عنها ووضع اليد على المعلومات الصحيحة عن جذور البويهيين ونسبهم الصريح وعن سياسة دولتهم وأحداثها وإنجازاتها، أو بالأحرى استخدام المعيار البحثي المنطقي السليم والرؤية المحددة التي تنفذ إلى الماضي بعمق وتفحّص لرسم صورة حقيقية لها إلى الأجيال.

سياسة البويهيين الملكية

نجد في سياسة البويهيين ما يؤكد على دمهم الملكي النبيل حيث عُرفوا بسياسة العدل والتسامح حتى مع العدو المقاتل لهم، يقول آدم متز في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري): (كان سبب ارتفاع علي بن بويه سماحته وشجاعته وسعة صدره وحسن سياسته، وكان ذا فضل يتسامع به الناس فيميلون إليه، وكان بنو بويه إلى جانب هذا يحسنون معاملة الأسرى، يعفون عنهم ويؤمنونهم من جميع ما يكرهونه على حين كان أعداؤهم يعدّون للأسرى قيوداً وبرانس ليشهروهم بها، ولقد ظفر علي بن بويه بأعداء له معهم هذه الآلات فعدل عن العقاب إلى العفو عن الطغيان).

من هم البويهيون ؟؟

رغم أن الاختلاف يسود جوّ المؤرخين عند تعرّضهم إلى جذور البويهيين ونسبهم، والتي لا يمكن للقارئ أن يستشف وسط هذا الجو المضبب اليقين في نسبتهم، ولكننا نستطيع أن نتلمّس من خلال سيرة حياة البويهيين ومراحلها وسياستهم الخيوط التي تقودنا إلى انتمائهم الحقيقي، بعد استعراض أهم الأقوال في ذلك وعرضها على محك الدليل وحده وليس على الاستنتاجات الشخصية الخاضعة للأهواء والنزعات المذهبية والعرقية التي أولع بها أغلب المؤرخين، وسوف نستعرض بعض هذه الأقوال ثم نرى آراء الكتاب حول هذه الأقوال وأيّها أقرب إلى الصحة.

ينسب أغلب المؤرخين بني بويه إلى الديلم، لكنهم أيضاً اختلفوا في كونهم من أصل ديلمي كما قال به البعض ؟ أم كانوا من الفرس قطنوا الديلم؟ (وكانوا بين أظهرهم مدة)، و(طال مقامهم ببلادهم)، فنسبوا إليهم كما قال البعض الآخر.

مع المؤرخين ..

يقول ابن الأثير في تأريخه: (إن البويهيين من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس)، وإن نسبتهم إلى قوم الديلم (بسبب طول مقامهم ببلادهم).

وقال أبو اسحاق الصابي في كتابه (التاجي): (إنهم ــ أي بني بويه ــ يرجعون في نسبهم إلى بهرام جور بن يزدجر الملك الساساني).

ونرى شرارة الزعامة لبني بويه تنطلق من أبي الفرج الأصفهاني حيث يقول بعد أن ينسب البويهيين إلى الملك الساساني بهرام غور: (إن علي بن بويه كان زعيماً لإحدى قبائل الديلم تسمى شيرذيل أوندن، تقيم في قرية كياكاليش في ديلمان).

ويذهب بعض المؤرخين إلى أبعد من ذلك في ثبيت هذا القول، حيث يدرج سلسلة نسبهم الطويلة ويصلها بملوك الفرس القدامى، وتنتهي هذه السلسلة إلى الملك سابور ذي الأكتاف الساساني فقال بأن بويه هو ابن:

(فناخسرو بن تمام بن كوهي بن شيرين الأصغر بن شيركوه بن شيرين الأكبر بن ميرشاه بن شيرسر بن شاهنشاه بن سش بن فروين بن شيرد بن غيلاد بن بهرام جور الحكيم بن يزدجرد بن بهرام بن لوما ساه بن سابور ذي الأكتاف الساساني).

واتفق على هذا الرأي الصابي، وابن الجوزي، وابن الأثير، وابن الطقطقي، وابن خلكان، وابن كثير، والمقريزي، وليس لدى المطلع ما يؤيد هذه الأقوال أو ما يعارضها سوى الانسياق وراءها في الاعتقاد بهذا النسب.

أقوال المؤرخين على محك الحقيقة

يقول الشيخ المحقق الكبير العلامة محمد حسن آل ياسين في معرض حديثه عن نسب البويهيين: (كانت بلاد الديلم مسقط رأس بني بويه ومربع صباهم، ومنها بدأ زحفهم للسيطرة على طبرستان وبلاد فارس وبسواعد الديالمة قام سلطانهم واستقام أمرهم.

فهل كان البويهيون من أصل ديلمي كما يرجح مؤرخون معاصرون ؟ أم كانوا فرساً قطنوا الديلم فنسبوا إليها كما جاء في عدد من أصول التأريخ ؟)

ولا يرى الشيخ آل ياسين في ثبيت نسبهم سوى الانسياق وراء ظاهر الروايات التي أرجعتهم إلى ملوك الفرس فيقول: (وانسياقاً مع ظاهر روايات المؤرخين القدامى نرى أن أصل هذه الأسرة يعود إلى فارس لا إلى الديلم وقيل لهم الديالمة ــ لأنهم سكنوا بلاد الديلم ــ وأنهم ــ كانوا بين أظهرهم ــ وقد ــ طال مقامهم ببلادهم ــ) كما قال بذلك الكثير من المؤرخين.

ويشير الشيخ آل ياسين إلى محاولة أخرى من قبل بعض متأخري المؤرخين في أيصال نسبهم إلى رجال الدولة العباسية من الفرس في بداية قيامها، ولكنه لا يعبأ بها مكتفياً بالإشارة إليها حيث يقول:

(ولكونهم من الفرس سُمِّيَ حكمهم بالحكم الفارسي، وحاول بعض متأخري المؤرخين الربط بينه وبين ما سبقه من التغلغل الفارسي في حكومة بغداد منذ قيام الدولة العباسية).

ولا يرجح الشيخ آل ياسين أي من هذه الأقوال على بعضها ما لم يكن هناك دليل قاطع يؤكده، ولكنه في نفس الوقت يميل إلى الرأي المنطقي في ذلك فيقول: (وعلى هذا يكون تعبير بعض الكتاب من أن البويهيين ــ أهم سلالة ديلمية ــ تعبيراً قائماً على شيء من عدم الدقة، كما يكون ما ذهب إليه البعض الآخر من انتساب بني بويه إلى الأمة الفارسية ومن أن أسرة آل بويه ديلمية منطوياً على شيء من الاضطراب وعدم الانسجام).

فالقول في نسبهم وإرجاعه إلى ملوك الفرس القدماء وإثبات السلسلة الملكية في رأي الشيخ آل ياسين يحتاج إلى أدلة وفق منهجه العلمي المستند إلى أدوات البحث الموضوعي حيث يقول: (وإذا صحّ لي أن أقول بجزم: إن لنسب البويهيين ظلاً من واقع، فإنه الظل الذي لا أستطيع تحديده بدقة، ولعل فيما تشفه السنون والدراسات المقبلة ما يوضح الرؤية ويجلو الغموض).

أسباب النزوح

أما سبب نزوح بني بويه إلى الديلم فقد قال الذين نسبوا البويهيين إلى بلاد فارس وملوك الفرس القدامى في ذلك: (إنه لما كانت هذه الأسرة من بيت الحكم والملك وكان الفتح ــ اللا إسلامي ــ الذي اجتاح إيران في العصر الإسلامي الأول مطارداً لبيت السلطة دون هوادة فقد فرّ أفراد هذه الأسرة إلى الديلم ليحتموا بجبالها وكهوفها من الزحف القادم).

ويذهب الكثير من الكتاب المعاصرين إلى هذا الرأي يقول الشيخ آل ياسين: (وهذا هو الذي دلتنا عليه النصوص التاريخية التي صرحت بأنهم ليسوا من الديلم).

ثم يقول معللاً سبب عدم وضوح الرؤية في صراحة نسبهم: (ولعلهم لما فرّوا إلى الديلم دخلوها متنكرين فلم يظهروا حقيقتهم، لأنهم لم يدخلوها بالأبهة المناسبة لمقامهم الدنيوي، ومن هنا جهل الديلم نسبهم، فلم يعرف عنهم سوى كونهم لاجئين يطلبون الحماية والأمان).

ثم يلخص الشيخ آل ياسين بحثه حول هذه الأقوال بترجيح نسبهم وقربه إلى الصحة، ويشير كذلك إلى اختلاف المؤرخين في سلسلة نسبهم إلى كونه ليس شيئاً غريباً فيقول:

(ولمجموع هذه الأسباب المارة الذكر ــ ومنها ما يتلاءم مع طبيعة الموقف والظروف يومذاك ــ نرجح صحة النسب وقربه من التصديق، ولا غرابة في اختلاف المؤرخين ــ بعد ذلك ــ في التفصيلات، فقد اختلفوا وتضاربت أقوالهم في كثير من الأنساب، بل في أنساب أبرز من نسب بني بويه وأظهر وأشهر)

الخلاف الواهي

نجد في موسوعة دائرة المعارف الإسلامية ــ وهي من تأليف مجموعة كبيرة من المستشرقين ــ ما يناقض هذا الرأي، حيث جاء فيها في مادة (بويه) نفياً تامّاً لهذا النسب بكل صوره وتسلسله، ولكن بدون أي دليل على ذلك فجاء ما نصه: (إن النسب ــ أي نسب البويهيين الملكي ــ موضوع ملفّق لا يمت إلى الواقع بصلة)!!!

وبدورنا نستطيع الرد عليه بالقول: (إن هذا الرأي موضوع وملفق أنتجته الأهواء ولا يمت إلى الحقيقة بصلة).

ودليلنا على ذلك إن كاتبه المستشرق لم يُشر إلى أي دليل يؤكد نفيه أو حتى الإشارة إلى مصدر استند إليه في ذلك سوى التعليق بالقول: (إن شجرة نسب الأسرة البويهية الملكية ليست سوى محاولة لتمجيد هذه الأسرة).

ولا أدري كيف أجاز هذا المستشرق لنفسه إطلاق هذا الحكم بدون أي دليل يدعمه أو حتى الاعتماد على قول واحد سبقه في ذلك ؟

ولكن إذا أجاز هذا المستشرق لنفسه أن يرسل الأحكام بلا دليل فلا يمكننا نحن أن نهمل ما رواه الصابي وابن الجوزي وابن الأثير وابن الطقطقي وابن خلكان وابن كثير والمقريزي وابو الفرج الأصفهاني وغيرهم من المؤرخين من أن نسب البويهيين ملكي فارسي، بل باستطاعتنا الاعتماد على ما رووه والتماهي معهم في القول بانتساب هذه الأسرة إلى أصل فارسي عريق.

الانسياق الأعمى

بوسعنا عقد مقارنة بين البحث الموضوعي الذي يعتمد على الأدلة والحقائق الذي امتاز به الفكر الشيعي وبين غيره الذي تسوقه الأهواء والأمزجة، وقد رأينا الشيخ آل ياسين في بحثه كيف لا يؤكد القول ولا يجزم بالرأي دون أن يمحصه ويدعمه بالأدلة والحقائق، ولننظر إلى النموذج الآخر الذي تقوده الأهواء والنزعات بدلاً من استخدامه أدوات البحث العلمي.

إن مما يدعو للأسف حقا أن يتصدّى كتّاب لقراءة التأريخ تقودهم السياسة والعصبية المذهبية، كما نجد ذلك بكل وضوح في الدكتور عبد العزيز الدوري الذي يعدّ ــ وهذه من مهازل تأريخنا ــ ((شيخ المؤرخين، وإمام التاريخيين))!!.

فقد تبنّى الدكتور الدوري رأي دائرة المعارف الإسلامية كنص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واتخذ من فتواها دليلاً قاطعاً لا يحوم حوله الشك ولا يقبل الاحتمالات، رغم عدم وجود أي دليل حتى ولو كان ضعيفاً على قولها حيث قال في كتابه: (دراسات في العصور العباسية المتأخرة) (ص244): (وبعد نجاحهم ــ أي البويهيين ــ وُضع لهم نسب يتّصل بالملك الساساني بهرام جور أو بوزيره مهر نرسي) !!

ويشير على هذا القول في هامش الصفحة إلى مصدرين لا يمكن الاعتماد عليهما في ذلك، وهما: (دائرة المعارف الإسلامية) الذي أشرنا إليه، و(تفضيل الأتراك على سائر الأجناد) لابن حسول، رغم أن المصدرين لا يمكن الاعتماد عليهما في أصول البحث العلمي التأريخي، فالأول وضعه بعض المستشرقين وأغلب الآراء فيه هي نتيجة استنتاج شخصي لا يرتكز على أي دليل أو حتى قرينة، والثاني بعيد عن الموضوعية والحياد في الطرح، ويظهر ذلك جلياً من عنوانه فكل هم صاحبه هو تفضيل الأتراك على غيرهم من الأمم ليس إلا وهذا ما لا يمكن الاعتماد عليه أبدا، إذن فقوله مردود بلا شك.

مع دكتور آخر...

ونرى العجب من إغراق الدكتور محمد غناوي الزهيري بخياله في نسج الآراء التي لم يكن لها سند سوى ما حاكته له تصوراته وأهوائه الشخصية من تخاريف من أجل نفي نسب البويهيين إلى أسرة فارسية حاكمة حيث يقول في كتابه: (الأدب في ظل بني بويه) (ص16): (ولكنهم ــ أي بني بويه ــ على ما يظهر لم يكتفوا بما تهيَّأ لهم من مجد حديث، بل حاولوا أن يصلوه بمجد قديم، فأوحوا إلى بعض الكتاب بأن يخترعوا لهم مآثر قديمة وأن يختلقوا لهم نسباً مشرِّفاً يصلهم بملوك الفرس القدماء، ليجمعوا المجد من أطرافه)!!!

هذا ليس من أصول البحث العلمي يا دكتور.. أين دليلك على ما تقول ؟ إن الدكتور هنا يحاول التشبّث حتى بالسراب لكي يروّي خياله بتصورات فارغة، فبعد قوله هذا يلجأ إلى تدعيم قوله دون أن يشعر أنه قد وقع في فخ الازدواجية والتناقض الذي نصبه هو بنفسه لنفسه حيث يقول:

(غير أن الثقات من المؤرخين القدامى يؤكدون لنا إن آل بويه أول أمرهم لم يكونوا ذوي مآثر، كما لم يكونوا ذوي نسب في الملك عريق، وإنما كانوا من دهماء الناس، فقد كان أبو شجاع بويه وأبوه وجده كآحاد الرعية الفقراء ببلاد الديلم)!!!

إن كلمات الدكتور هنا تؤكد عجزه عن إثبات النفي ولو بدليل واحد، فلو أن واحداً فقط من المؤرخين القدامى الذين ذكرهم ووصفهم بـ (الثقات) نفى نسبة بني بويه إلى السلالة الحاكمة لما توانى الدكتور عن ذكر اسمه وتبجيله وجعله من أصدق المؤرخين، ولكان كتابه من أوثق التواريخ لديه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

إنه لم يجد مؤرِّخاً واحداً لا من الثقات ولا من غيرهم ليدعم رأيه فاستعان بالكذب واختلق (مؤرخين قُدامى) ليس لهم وجود أصلاً حتى في حكايات ألف ليلة وليلة، وجعلهم شهوداً على قوله وأنكر أقوال المؤرخين الحقيقيين الذين اتفق رأيهم على نسب البويهيين وخالفهم هو، وقد ذكرنا اتفاق أبي اسحاق الصابي وابن الجوزي وابن الأثير وابن الطقطقي وابن خلكان وابن كثير والمقريزي والأصفهاني على نسب البويهيين الملكي.

ثم إنه لو صحّ ما قاله الدكتور غناوي من أن بويه وأباه وجده وأولاده كانوا من أفراد الرعية الفقراء ببلاد الديلم فإن ذلك لا يمثل تعارضاً مع صحة النسب كونهم قد جاؤوا إلى الديلم وهم متخفّين هاربين من بطش الغزو اللا إسلامي وعاشوا مثل بقية الناس في بلاد الديلم كما ذكر المؤرخون.

خروج عن كل شروط البحث العلمي

ويفصح الدكتور غناوي في سياق حديثه عن ابتعاده عن جميع ما يجب أن يستلزمه البحث العلمي الدقيق والمنهج التأريخي المنطقي، بل إنه يكاد يضع من خياله (الواسع جداً) تأريخاً خرافياً له وحده لا يشاركه به أحد ولا يشبهه أي تاريخ، وقد اعتمد فيه على (مؤرخيه القدامى الثقات الأسطوريين) الذين رووا له وحده، أو بالأحرى خُلقوا ليرووا له وحده ولا أحد يعرفهم سواه، يقول في سياق حديثه عن نسب البويهيين: (إن مسألة انتساب البويهيين إلى ملوك الفرس هي من نسج الخيال ومن وحي الغرور الذي يصيب الأسر حين ترتفع من الضعة والخمول إلى ذروة المجد والعظمة)!!

إن كل هم الدكتور انصب لهذا السبب، وهو أن يحط من قدر بني بويه وأن ينسبهم إلى عامة الناس، وليس في ذلك عيب عليهم إن كانوا حقاً من عامة الناس، ولكن حين يطلق عليهم صفة (الضّعة) فهو لم يخرج عن إطار البحث العلمي فقط ، بل انسلخ عن كل ما يجب أن يتصف به الإنسان من أخلاق، ووصلت الغاية القصوى من التهجّم والسبِّ و(الضعة).

وإذا كان الأمر كما تقول أيها الدكتور (الموقّر) فلنا أن نطلق عليك صفة (وضيع) إذا لم تستطع إثبات دمك الملكي ولن تستطيع فأنت من عامة الناس...

خروج عن المسلمات التاريخية

ولا تنتهي مهازل هذا الدكتور (العظيم) عند هذا الحد، بل إنه يريد أن ينفي ويثبت برأيه حتى وإن عارض كل المصادر والتواريخ القديمة والحديثة، بل حتى وإن عارض حتى المسلمات، فلم يقتصر نفيه على نسب البويهيين الملكي فقط، بل تعدّاه إلى نفي نسب الفاطميين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيضاً وهذا من أدهى الدواهي يقول في هذيانه:

(فإذا قدِّر لأسرة وضيعة في مثل هذه المجتمعات أن تنهض وترتقي فتصل إلى المجد والسلطان حاولت أن تنتحل لنفسها سبباً عريقاً لتبرر سيادتها على الناس نظرياً كما بررته عملياً بالقوة أو الدهاء أو المكر أو غيرها، وذلك ما حصل بالضبط بالقياس إلى الأسرة البويهية والأسرة الفاطمية...!!!)

هكذا إذن أيها النسابة العظيم...!!!

فأنت لست دكتوراً فقط، بل إنك استطعت أن تثبت بترهاتك ما لم يستطع إثباته حتى أعداء الفاطميين من أسلافك كصلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي ومحمود زنكي والذين لم يتركوا وصمة أو تهمة دون أن يلصقوها بالفاطميين كذباً وزوراً، ولكنهم لم يجرؤا على مثل قولك العظيم هذا..!!

فيا دكتورنا العزيز نحن نصدقك فيما تقول بشرط أن تأتي بدليل واحد أمام آلاف الحقائق التي تثبت عكس ما تقول، وأن تذكر لنا واحداً من مؤرخيك (الثقات) قال بقولك...!!

سوف لا نستعرض الحقائق والمسلمات التاريخية وسلاسل النسب الفاطمية الشريفة فهي من المسلمات التي لم يجرؤ أحد ولو التشكيك بها، ولكننا نكتفي بالرد عليك بما قاله السيد الشريف الأجل الرضي نقيب الطالبيين في وقته والمعاصر للدولة الفاطمية، وهو يثبت نسب الفاطميين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث يقول:

ألبسُ الذلَّ في ديارِ الأعادي *** وبمصرَ الخليفةُ العلويّ

مَنْ أبُوهُ أبي وَمَوْلاهُ مَوْلايَ إذا ضامني البعيد القصيّ

لفّ عرقي بعرقه سيد الناسِ جَمِيعاً مُحَمّدٌ وَعَليّ

وكما أكد السيد الشريف الرضي نسب الفاطميين الشريف الذي يرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد أكد المتنبي المعاصر لبواكير دولة البويهيين نسبهم الملكي في الأبيات التي ذكرناها في بداية الموضوع والتي تدل على أن نسبهم هذا كان مشهوراً ليس في إيران فحسب، بل في كل البلاد التي يحكمونها وغيرها وهذا ما يدل عليه قول المتنبي:

ألفَارِسُ المُتّقَى السّلاحُ بِهِ الـ *** ـمُثْني عَلَيْهِ الوَغَى وَخَيْلاهَا

لَوْ أنْكَرَتْ منْ حَيَائِهَا يَدُهُ *** في الحَرْبِ آثَارَهَا عَرَفْنَاهَا

وَكَيفَ تَخْفَى التي زِيادَتُهَا *** وَنَاقِعُ المَوْتِ بَعضُ سِيمَاها

ألوَاسعُ العُذْرِ أنْ يَتِيهَ على الـ *** ـدّنْيَا وَأبْنَائِهَا وَمَا تَاهَا

لَوْ كَفَرَ العالَمُونَ نِعْمَتَهُ *** لمَا عَدَتْ نَفْسُهُ سَجَايَاهَا

كالشَمسِ لا تَبتَغي بما صَنَعَتْ *** مَعْرِفَةً عِنْدَهُمْ وَلا جَاهَا

وَلِّ السّلاطِينَ مَنْ تَوَلاّهَا *** وَالجَأْ إلَيْهِ تَكُنْ حُدَيّاهَا

وَلا تَغُرّنّكَ الإمَارَةُ في *** غَيرِ أمِيرٍ وَإنْ بهَا بَاهَى

فإنّمَا المَلْكُ رَبّ مَمْلَكَةٍ *** قَدْ أفْعَمَ الخافِقَينِ رَيّاهَا

مُبْتَسِمٌ وَالوُجُوهُ عَابِسَةٌ *** سِلْمُ العِدى عِندَهُ كَهَيْجاهَا

ألنّاسُ كالعَابِدِينَ آلِهَةً *** وَعَبْدُهُ كالمُوَحِّدِ اللّهَ

وأظننا قد أعطينا (الدكتور) أكثر من حقه في الرد عليه، ولكن كانت الغاية والقصد اطلاع القارئ على مدى حقد هؤلاء على الشيعة الذين وضعوا دعائم الإسلام ومحاولة الحط من قدرهم بشتى السبل.

اضف تعليق