تصادف هذه الأيام مناسبة جليلة على المسلمين جميعا، ألا وهي مناسبة استشهاد الإمام جعفر بن محمد (الصادق) عليه السلام، ولا يخفى على أحد أن هذه الشخصية الإسلامية المتفردة تركت أثرها العظيم في التاريخ الإسلامي وفي حاضر المسلمين ومستقبلهم والى أن يشاء الله تعالى، لما لهذا الأثر العلمي العملي الفقهي الحياتي والتأثير العميق الذي يتركه في الفكر الإسلامي وسبل التعاطي مع الواقع الإسلامي وكيفية التعامل مع الواقع العالمي في ظل حالة الاحتقان والتطرف الفكري التي تحاصر بنيرانها المسلمين وعموم العالم.
وفي هذه المناسبة الجليلة، حين يستذكر المسلمون الإمام الصادق عليه السلام، فإنهم سوف يكونوا بين حياض الثقافة الصادقية التي قدمتها جهود الإمام الجبارة التي امتدت على مدى عمر كامل وعقود متتابعة بذلها إمامنا المعصوم في ظروف أقل ما يُقال عنها أنها ملتهبة معقدة بسبب أنظمة الطغيان والاستبداد التي حاربت الثقافة الصادقية لأنها وجدت فيها مصدر الخطر والمواجهة الحاسمة التي تضع حدا للاستبداد من خلال الفكر الإسلامي الإنساني الذي وقف ندّا قويا لكل جبروت الطغاة واعتمادهم اللئيم على الفكر المتطرف.
إننا نقف اليوم بإزاء مكانة علمية عظمى ذات حضور فكري أرعب الطغاة، وواجه الفكر المتطرف بالبينة والوضوح والتوازن والعلمية القائمة على قواعد إسلامية إنسانية هدفها سعادة الإنسان وخلق حياة منسجمة تقوم على التعاون والحوار وتكافؤ الجدل وتعدد الآراء بعيدا عن الأحادية الفكرية التي تلغي الجميع، أو تختصر كل الأفكار والإبداعات في رأي قاصر واحد، لذا تصدى الإمام الصادق عليه السلام منذ بواكير رحلة المواجهة للفكر المتطرف ونشر علومه بألف وسيلة ووسيلة وانتشر طلابه في الأصقاع لكي ينشروا الثقافة الصادقية، وهذا ما حدث بالفعل، وهو يؤكد عظمة وارتقاء مكانة وشخصية وأثر الإمام الصادق.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كلمة قيمة بهذه المناسبة الجليلة: (الإمام جعفر بن محمد (الصادق) عليه السلام ربيب النبوّة، ووريث كل رسالات السماء والأنبياء من أوّلهم أبي البشر (آدم) عليه السلام وإلى خاتمهم سيّد المرسلين (محمّد) المصطفي صلّى الله عليه وآله، والإمام الصادق هو إمام مفترض الطاعة للمسلمين كافّة).
واليوم علينا كمسلمين أن نتمسك بالثقافية الصادقية كونها السبيل الى خلاصنا من الفكر المتطرف، فهي ثقافة الإسلام الحق، ثقافة الأمن والأمان والتفرغ التام لتطوير الحياة والانشغال بما يرضي الله تعالى بعيدا عن الأحقاد والأمراض النفسية والعقد الفكرية البائسة التي لا طائل من ورائها سوى الخراب، فالمطلوب اليوم هو التمسك بالثقافة الصادقة.
وكما يقول سماحة المرجع الشيرازي: علينا أن نعلنها: (ثقافة صادقية) لأنها ـ بحقّ ـ ثقافة الإسلام الصحيح وثقافة النبي الأكرم صلّي الله عليه وآله، وثقافة أهل البيت جميعاً. والتي هي ثقافة الأمن والطمأنينة والخير للجميع).
مما أُثر عن الإمام الصادق
كتب الإمام الصادق عليه السلام في كل المجالات الإسلامية والعلمية، ودرس على يديه مئات الطلاب وتخرج منه أجيال من العلماء والخطباء والكتاب والمفكرين، ومنهم علماء لهم باع في العلوم المختلفة، ولعل العلامة الفارقة في المسيرة الفكرة للإمام الصادق تكمن في ظروف الاستبداد القاسية التي عاش تحت وطأتها ومع ذلك استمر الوهج العلمي المتدفق نورا وفكرا خلاقا ليهدد عروش الجبابرة والحكام الظالمين، ولم تنفع كل أساليب القهر والعزل والعقوبة والإقصاء والأساليب الماكرة للطغاة في مجال الترهيب والترغيب، ولا يفوتنا هنا أن الإمام الصادق لم يتوقف عن إعطاء الدروس وتخريج العلماء وإرسالهم الى عموم البقاء الإسلامية لمواجهة الطغيان والحد من انتشار الفكر المتطرف.
ولم يكن الحكام وحدهم من يتطيّر قهرا وغضبا وخشية من الإمام الصادق، بل هناك ممن يتصورون أنفسهم أندادا للإمام الصادق في العلم والفكر والمكانة، فكانوا جل ما يخشونه هو انتشار (الثقافة الصادقة التي حاصروها بكل ما يتمكنون من أساليب خداع ولؤم ومحاصرة وعزل وتحريض سياسي اجتماعي فكري، ومع ذلك كان الفشل مصير كل هذه المحاولات اللئيمة التي كان يخطط لها وينفذها حثالة من المنتفعين الصغار التابعين للحكام المستبدين.
وما أغاظ أعداء الإمام الصادق أنه نجح في نشر ثقافته وعلمه وضاعف من طلابه والعلماء الذين تخرجوا تحت يديه، على الرغم من كل أساليب القمع والمطاردة والتكميم، لكن ماذا كانت النتيجة؟، إن علم الإمام الصادق تفوق والى اليوم على ثقافة التطرف التي تسعى الى إثبات حضورها، لكنها باتت معروفة ومعزولة إقليميا وعالميا كونها لا تنتمي الى الفكر الإسلامي الصحيح الذي تمثله الثقافة الصادقة.
ولهذا يذكّر سماحة المرجع الشيرازي في كلمته نفسها: أن (ما بقي مما اُثر عنه عليه السلام ـ رغم كل ما أصاب الألوف من أصحابه والرواة عنه من التنكيل والتعذيب والتشريد والقتل وإحراق الكتب من قِبل الحكّام الظالمين والأعداء المعاندين ـ تعدّ بعشرات الألوف، في كل المجالات الإسلامية والعلمية، من عقائد، وأخلاق، وأحكام الدين، في الفروع والأصول وتفسير للقرآن الحكيم، وقصص الأنبياء والأمم وغير ذلك).
لينعم الجميع بكل هذه البركات
المطلوب منا أن نتصدى لمهمة نشر (الثقافة الصادقية)، لسبب ينبغي أن يكون مفهوما ومعروفا للجميع، فالإمام الصادق عليه السلام، قام بمهمة تقويض الفكر المتطرف في زمنه، على الرغم من أن هذه المهمة كانت بمثابة المستحيل، لأن المرحلة كانت معبّأة بالطغيان والظلم، وكانت حرية الرأي في خبر كان، وأذناب السلاطين منتشرين في كل مكان، حتى أن كلمة الحق كانت محاصرة ومرصودة وتقود قائلها الى حتفه، ومع ذلك قام الإمام الصادق بما يلزم وأكثر.
ومن فضائل الرحمن جلَّ وعلا أن هيّأ للإمام طلبة وعلماء وأعوانا مخلصين مؤمنين آزروه واستوعبوا فكره المتوقد وحملوه الى أبعد نقطة ونشروه بين من يحتاجون إليه، فكبرت بذور الخير وازدهرت الثورة على الظلم، ودارت أحداث الصراع الفكري المعنوي الفعلي بين حاملي الفكر الصالح بقيادة الإمام الصادق في مواجهة المدججين بالفكر التكفيري المتطرف، فماذا كانت نتيجة جولة هذا الصراع الذي استمر في حياة الإمام الصادق عشرات السنوات، ليستمر بعد استشهاده الى يومنا هذا، أما الجواب عن النتائج، فإن الهزيمة المنكرة كانت من حصة المستبدين هم وأذنابهم واندحر الفكر المتطرف وأهله.
ربما هناك من يقول أن التطرف موجود وأصحابه موجودين في عالمنا، وهو أمر صحيح، فهذا هو ديدن الحياة، وجود الخير والشر في بوتقة الحياة، لهذا انبثق علم الإمام الصادق وفكره في مرحلة الاستبداد والظلم واستمر الى يومنا هذا لأن الصراع مستمر بالفعل.
لهذا يحثنا سماحة المرجع الشيرازي بأهمية مواصلة التصدي للتطرف، والسعي الحثيث المتواصل لنشر (الثقافة الصادقية) وإيصالها الى أبعد بقعة ممكنة من الأرض، لا لشيء إلا لإلحاق الهزيمة بالتطرف والظلم والاستبداد الذي تعرض ولا يزال يتعرض له المسلمون الى يومنا هذا، فهي مهمة المؤمنين جميعا، وعليهم تقع مسؤولية نشر الثقافة الصادقية حتى ظهور الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف، لننتهي جميعا الى دولة العدل والمساواة والأمن والسلام.
هذا ما يدعو له سماحة المرجع الشيرازي عندما يختتم كلمته القيمة بالقول: (إنني إذ أبتهل إلى الله العليّ العظيم أن يقيّض في المسلمين جمهرة شاملة يتصدّون لتعميم هذه الثقافة الجامعة (تمهيداً) للطريق إلى تعجيل الله عزّ وجلّ لفرج مولانا بقيّة الله (المهديّ) الموعود ـ عجّل الله فرجه الشريف ـ كي ينعم جميع الناس بكل هذه البركات، إنّه سميع مجيب).
اضف تعليق