q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

محاربة الدكتاتورية ونشر التعددية

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

منذ الآن أو بالأحرى قبل شهور من ذلك، بدأت تستعد الأحزاب والكتل السياسية للانتخابات النيابية القادمة في العراق، ولكن على الرغم من إيجابية هذا الهدف من حيث ترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة وانتهاء عصر الانقلابات، لكننا في واقع الحال نحتاج في العراق الى نشاط سياسي مختلف عمّا جرى في السنوات الماضية، نشاط سياسي يضع رؤية واضحة لانتشال البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية.

لذلك فإن الأصوات التي تحث على إجراء الانتخابات النيابية في وقتها المحدد، ينبغي أن لا تكتفي بالتركيز على هذا الهدف، وإنما تضيف إليه رؤية سياسية حاسمة تعالج بطريقة جذرية جميع حالات الإخفاق السياسي التي حدث في الأعوام المنصرمة، وإلا ليست هناك فائدة إذا تم استعادة نفس النسخة السابقة للعمل السياسي وعدم وضوح الرؤية وغياب الاهتمام بالمفاصل المهمة مع الانشغال بالمصالح الذاتية ونسيان الشعب ومعاناته وعدم تعويضه عما لاقاه من ويلات في المراحل القمعية المندثرة.

لذا ينبّهنا سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتاب (من عبق المرجعية) على أهمية وخصوصية الوضع الحالي في العراق فيقول سماحته:

(ينبغي على الجميع الانتباه والالتفات لما يجري في العراق).

إن ما يجري في العراق بالفعل يستحق الكثير من الانتباه، مع حتمية التصحيح والعمل الفوري على تقديم البرامج الفعلية المساهمة في معالجة الأخطاء التي رافقت النشاط السياسي الماضي، فالمطلوب اليوم من الطبقة السياسية أن تعوض العراقيين عن معاناتهم وشقائهم وتضحياتهم وما تعرضوا له من ظلم كبير، أما الكيفية التي تتم بها منهجية التعويض، فهذه القضية تتعلق بطبيعة الأنشطة السياسية وتغييرها من طابعها الضيق الأفق والرؤية الى طابع إستراتيجي بعيد المدى وواسع الرؤية يقدم بناء البلد وحاضر ومستقبل الشعب على كل الأهداف الأخرى.

إذاً المهم الآن هو أن يقدم العاملون في السياسة كل ما في وسعهم، لمحو حالات الظلم التي ألحقت بالعراقيين، ومسح المآسي التي عانى منها الشعب الصابر، ومحو آثار الحروب وما خلفته من أضرار نفسية ومادية عليهم ومساعدتهم بكل الوسائل والقدرات المتاحة.

حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على هذا الهدف الأهم فيقول: (يقاسي الشعب العراقي المظلوم في داخل العراق أشد المآسي، وخاصة في ظروف الحرب، فيتعين على كل واحد منا، وبقدر طاقته أن يعين هؤلاء بما يتمكن).

الانتخابات والحقوق المشروعة

من أهم الأهداف التي ينبغي أن تضعها الطبقة السياسية في حساباتها، أنها تغلق الأبواب بصورة كلية على عودة الأنظمة الدكتاتورية لحكم البلاد، وفي نفس الوقت العمل السديد على نشر منهج التعددية في توزيع السلطات وإدارة الأموال والأعمال المتنوعة في المجالات المختلفة، قد تظهر أخطاء هنا وأخرى هناك، وقد تنبثق سلوكيات فردية أو جماعية خاطئة هنا وهناك، لكن يجب أن يبقى الهدف الأول أن تنتهي الانتخابات وعموم الأنشطة السياسة الى نتائج مضمونة للشعب وبناء النظام السياسي الديمقراطي وتنمية قوة الدستور لمنع قيام نظام دكتاتوري.

كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي في الكتاب نفسه: (من المردودات الايجابية للانتخابات، وصول الشعب العراقي الى حقوقه المشروعة، ومنع قيام أنظمة دكتاتورية تضطهد الشعب). فقد جرب العراقيون حظهم مع أنظمة الانقلابات العسكرية الفردية، ولا تزال الذاكرة طرية الى الآن، وهي تحاصر العراقيين بالأخطاء الكبرى التي دمرت حياتهم، وضاعفت من معاناتهم، بل جعلت منها معاناة مزمنة غير قابلة للعلاج.

لهذا فإن ما يحتاج له العراق والعراقيين ليس النظام الدكتاتوري الفردي المتسلط الذي يقصي الجميع، وينشر فكره الأحادي الذي يصادر جميع الآراء والأفكار الأخرى، بل يحتاج العراقيون الى النظام المنفتح الديمقراطي الذي لا يصادر الرأي، ولا يفرض الفكر الواحد، ولا يعاقب الناس على ما يتفوهون به من رأي معارض للحكومة او النظام السياسي.

نريد أن يسود نظام يحمي الجميع، ويقبل الجميع، ويعامل الجميع وفق معيار واحد هو معيار المواطنة كما تم تحديد ذلك في بنود وفقرات الدستور الدائم، خاصة أن العراق والعراقيين تجرعوا ما يكفي من ويلات الدكتاتورية، لذلك من أهم الأهداف التي تقع اليوم على عاتق الطبقية السياسية في العراق، هو إقامة انتخابات نزيهة تحمي أصوات الناخبين وتأتي بالوجوه والخبرات السياسية القادرة على إحداث التصحيح والتغيير الذي يصب في صالح الشعب العراقي، لكي لا تستمر معاناته، وحتى يلمس ثمار الفرق الكبير بين النظام الدكتاتوري والنظام القائم على منهج التعددية والاستشارية وحماية الحقوق المدنية للجميع.

يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الأمر بالمصدر ذاته: إن (العراق بحاجة الى التعددية لا الدكتاتورية، فبقدر ما تجرع العراق آلام الدكتاتورية هو بحاجة اليوم الى التعددية).

توحيد الصفوف وتحقيق الرفاهية

هل ثمة أمل في تحقيق حزمة من الإصلاحات تتمكن من تعويض العراقيين على ما فاتهم، وعلى تلك التضحيات الكبيرة التي قدمها هذا الشعب؟، إن الانتخابات النيابية القادمة وطريقة التعامل معها من لدن السياسيين سوف تثبت إذا كانت هناك خطوات نحو التصحيح أو أن الأمور تسير من سيء الى أسوأ لا سمح الله، فالسياسيون لابد أن يستوعبوا الدرس ويتعاملوا مع الأوضاع الراهنة بجديدة وفق مبادئ وأخلاقيات العمل السياسي المبدئي.

إن هذه الأهداف من السهل الكلام عنها، ولكن تبقى قيد الاختبار عند التطبيق العملي، فليس العبرة بالكلام والإدّعاء، لذلك يتطلب الأمر توحيد الكلمة والصفوف، ووضع آليات العمل الجاد حكمة وحنكة ومثابرة، فالجميع مدعوا الى التعاون والعمل السديد، وصولا الى النتائج الجيدة، خاصة أولئك الأفراد والأحزاب والكتل السياسية والمنظمات والمؤسسات المعنية بهذا الأمر، فالجميع تقع عليهم مسؤولية إنقاذ العراق ومؤازرة العراقيين.

لذلك يوجّه سماحة المرجع الشيرازي دعوة واضحة للجميع حول هذا الموضوع: (أدعو المؤمنين الكرام في العراق العزيز الى جمع الكلمة وتوحيد الصفوف ومواصلة الأعمال بالحكمة والحنكة والمثابرة، ونبذ كل ما يمكن أن يؤدي الى التهاون والتفريط).

ومما يثلج الصدر أن العراق بلد غني فيه جميع الإمكانيات التي تسهل العمل وتنظمه وتمده بالقوة والمال، لتحقيق الهدف الأسمى ونعني به، بناء دولة متقدمة ومجتمع طموح متوازن، ولكن الخطوة الأولى ينبغي أن تتجسد في بناء النظام السياسي الديمقراطي المستقر، الرافض للدكتاتورية والمرحب بالاستشارية والتعددية والمشاركة الأوسع في إدارة السلطة وفق مبادئ الدستور والمبادئ والأعراف المتفق عليها، وما يمكن أن يجعل مثل هذه الأهداف ممكنة، أن العراق يمتلك كل الوسائل التي تساعد على ذلك.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الإطار: (إن في العراق كل مقومات التقدم والتطور، والرفاه والراحة، فهو يملك المال، والنفط، والارض الخصبة).

ويضيف سماحته قائلا في الكتاب المذكور نفسه: (العراق.. أرض السواد.. فلا أتصور ولم اسمع ببقعة أخرى في العالم تسمى بأرض السواد، بما يعني أنها أرض كلها خير وبركة)، الباقي يقع على الآخرين، لاسيما العاملين في الميدان السياسي، شخصيات وأحزاب وكتل سياسية، فهؤلاء هم الذين يتحملون المسؤولية الأكبر عن تصحيح الأوضاع، وتثبيت الديمقراطية وأركان الدستور، وربما ستكون الانتخابات المقبلة بمثابة الفرصة الأخيرة لتقويم وتقييم الساسة العراقيين.

اضف تعليق