من البديهيات التي لا تقبل الجدل، أن العظماء هم الذين يصنعون الأمم العظيمة، وفق ملَكات وصفات تتوافر في شخوصهم من حيث الفكر والتطبيق، فتُسهم بتهيئة الظروف والأسباب الموضوعية والعملية لتحوّل المجتمع من حالة الحياد والسكون، الى حالة الحيوية والحركة والإنتاج المتنوع، الذي يجعل من هذا المجتمع قادرا على مواكبة ما يستجد من تطورات ومبتكرات في مجالات الحياة كافة.
هذا الاستنتاج يقودنا الى تساؤل أكثر تعقيدا، يخص العظماء أنفسهم، فإذا كان هؤلاء هم من يصنعون الأمم الكبيرة بتاريخها وحضورها ومكانتها بين سكان العالم، كما تم ذكره، تُرى من الذي يصنع هؤلاء العظماء؟، في الحقيقة السؤال يستند الى أهمية خاصة، ذلك أن معرفة الإجابة سوف تفتح لنا مغاليق تأخذ بنا صوب البقاء في مقدمة الأمم المتميزة في عالم اليوم.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يجيب عن هذا السؤال في معرض كلمة توجيهية قيمة لسماحته قدمها لعموم المسلمين، يقول فيها: )لا يولد العظماء وهم عظماء، بل يولدون كسائر الناس، رجالاً ونساء. ولكن هم الذين يصنعون العظمة لأنفسهم(.
إذاً نحن نقف بإزاء توجيه واضح لا يقبل اللبس في الإجابة، فالعظيم لا يصنعه عظيم آخر أو جهة أخرى، إنه بكلام مباشَر، هو الذي يصنع نفسه ويجعل من شخصه عظيما، ولكن حتما ستكون هنالك أسس ومكملات مادية فكري لصناعة عظمة هذا الإنسان أو ذاك، وأولى تلك المكملات هي حاجة العظيم الى كلمة تحمل في معناها ما يساعد الإنسان لكي يكون مغايراً لسواه من الأشخاص حتى يكون مؤهلا لاكتساب العظمة.
من هنا وكإجابة عن سؤال مصدر نشوء العظيمة، يجيب سماحة المرجع الشيرازي بدقة وتركيز عن هذا السؤال فيقول: )صنع العظمة بحاجة إلى كلمة، سواء للرجل والمرأة، ورجل الدين ورجل الأعمال، وصاحب المؤسسة السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية وغيرها).
العظَمة المنحوتة بالكلمة
إذاً هي كلمة محددة وفق رؤية سماحة المرجع الشيرازي، بمقدورها أن تنحت إرادة الإنسان نحتا، لتجعل منها في حالة من المغايرة والإنتاجية التي لا تكف عن العمل في شتى الاتجاهات، تُرى كيف يكون لكلمة كل هذا الرصيد من الدعم، وكيف تأتي بكل هذا الامتياز عن غيرها، حتما سيكون تأثيرها نافرا متميزا عن غيره.
وقد تكون معرفة هذه الكلمة وفحواها مما يحفز البصائر والأبصار والقلوب والإرادات على التفاعلية مع الظروف المحيطة، فتتشكل هيكلية العظمة في شخصية الإنسان وفقا لآليات تنبني على التفرد وضرب السائد القار بالمحدث المتفجّر حركة وتمايز، إنها كلمة لكنها كنز حيوي مشعّ يدفع بإرادة الطامح الى التفرد كي تكون الأقوى والأنصع والأسرع بلوغا الى قمة العظمة.
في حالة كهذه سوف نكون في شوق وحاجة نفسية وعملية الى معرفة ماهيّة هذه الكلمة وكيف يمكن أن نوظفها في حياتنا العملية كأناس لدينا الطموح المستدام لبلوغ مرتبة العظماء، ثم علينا أن نعرف بشيء من الدقة ما هو المعنى الجوهري الذي تضمه في حروفها وكلماتها.
إن هذه الكلمة كما يصفها سماحة المرجع الشيرازي هي: (لا للبحث عن الراحة). وعلينا أن نصل الى ماهية هذه الكلمة بدقة، حتى يكون المردود كما هو متوقَّع، ذلك أن الإنسان الذي يؤاخي الراحة ويصادقها، سوف يخسر أقوى فرص التميز على الآخرين، فالراحة سوف تحرم الفرد من الابتكار والإنتاجية المغايرة، وهذا بدوره سوف يحكم عليه بالجماد والثبوت والمراوحة في المكان نفسه، لذا من المستحيل على محب الراحة والباحث الأبدي عنها أن يصطف الى جانب العظماء، وعليه أن يضع هذا الامتياز في خانة المستحيلات.
أما ذلك الذي لا يبحث عن الراحة، فهو الذي يشتعل من الداخل، وتلتهب أعماقه بمواهبه، وسراج العلم يضيء أرجاء رأسه، ويفتح أمام بصيرته دروب الحرية والإبداع والابتكار والتميز، والتحول من حالة الجمود والمكوث عند نقطة خاسرة، الى حالة يصفها سماحة المرجع الشيرازي بكثير من الوضوح بأنها (التوفيق).
حين يقول سماحته موضحاً بأن: (من يلتزم بهذه الكلمة –عدم الراحة- سيكون نصيبه التوفيق).
بالطبع ثمة علاقة رابطة بين عدم البحث عن الراحة، وبين البحث عن العمل الممكن، أي نحن بإزاء معادلة تتكون من قطبين، الأول عدم الراحة يقابله الثاني وهو البحث عن عمل يمكنه القيام به، هذه الديناميكية التي يتميز بها العظماء تبدو سهلة، لكنها في حقيقة الأمر لن تكون في متناول الجميع، إنها الميزة التي تقترب من حافة المستحيل، والتي تدفع بالفرد كي يكون عظيما.
لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي، بأن الإنسان (العظيم هو الذي يبحث عما يمكنه أن يعمله، ويقدّمه للآخرين، سواء كان صعباً أو سهلاً، وفي برد وحرّ، وجوع وعطش، وفقر ونقص ومرض، وغيره). هذا هو العظيم بكل البساطة والوضوح، هو ذلك الذي لا يبحث عن الراحة مطلقا، إنه العامل المجد فكر وجهدا، ليلا ونهارا، وبلا توقف، مع جدوائية هذه الحركة التي لا يقف أمامها مستحيل.
لنرفد الشباب بأسباب العظمة
هكذا هو دور العظماء في صناعة أنفسهم أولا، وفي صناعة مجتمعاتهم وأممهم ثانيا، ودائما هنالك قدرة للإنسان العظيم على أن يفتح الأبواب المغلقة للجميع، والتركيز هنا سيكون على فئة الشباب، فهذه الشريحة المتوقدة بالحيوية والحماسة والذكاء والمكتظة بالطاقات الكامنة والمؤهلات البارعة، هي الأقدر على إعادة هيكلة تشكيل المجتمع، وهي الأقدر على جعله مقاربا لروح الواقع وأساسيات العصر.
نعم نحن لا نختلف في أن العظماء هم من يصنعون أنفسهم، من خلال التحوّل الى طاقة فكرية عملية لا تعرف السكون، ومع ذلك يمكن تمرير تجارب العظماء الى الشباب من كلا الجنسين، وخصوصا في المراحل الدراسية المتعددة، وإذا ما نجحنا في منح الشباب الشفرة السرية لفتح ممالك العظمة واقتحامها، عند ذاك ستكون أمتنا في المدى المنظور وليس البعيد، من الأمم التي تُفتَح لها أبواب العظمة على مصراعها.
لذلك يخاطب سماحة المرجع الشيرازي من هم أولى بالقيام بهذا الدور المتفرد، فيقول: إن (أهم شيء فيما يجدر أن تهتموا به في أعمالكم هم الشباب، بنين وبنات، في المدارس والجامعات وبالوظائف والدوائر وغيرها. فعليكم بتربيتهم).
على أننا نؤمن بصعوبة هذه المهمة وليس استحالتها، أي أنها تقع في مرمى الإرادة إذا كنا من العظماء، حيث الإرادة الحرة، والعقل المتوازن، والإرادة الثابتة، والروح الشفافة، والذكاء الثاقب، وعدم البحث عن الراحة، كل هذه سمات وصفات وعوامل تدفع بالشباب الى شواطئ العظمة، على الرغم من أن الأمواج العاتية سوف تقف بالضد منهم، ولكن من يروم العلا ليس أمامه سوى ركوب المخاطر وما أن تسعى بإرادة وتخطيط فعالين، حتى تجد المغاليق مفتوحة والدروب الى العظمة سالكة رغم تعرجاتها الهائلة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي منبّها على هذه الحالات: (بلى إنّ تربية الشباب صعبة وصعبة، جدّاً وجدّاً. أما صنع إنسان وتوجيه إنسان فهو مهمّ جدّاً). وحتما أن المسالك لن تكون معبّدة نحو القمة، فدائما هناك معوقات، بمثابة الحفر الكبيرة والخطيرة، ولكن لا يحلو طريق العظمة من دون المصاعب الجمة التي تميزه عن سواه، لذلك يختم سماحة المرجع الشيرازي كلمته التوجيهية القيمة هذه قائلا: (تحمّلوا السلبيات والمشاكل، حتى تعملون أكثر وأحسن).
اضف تعليق