تأريخنا المدوَّن قبل مئات السنوات يجد فيه الباحث مساحات مشرقة، تضيئها تلك التجارب القيادية الفريدة من نوعها، والتي تصلح أن تكون نموذجا متقدما للقائد السياسي وكيفية إدارته لشؤون الأمة والدولة، ولعل من يبحث بقليل من العناء والدقة والتروّي، سوف يصل الى ضالته، ويمكنه استلال ما يحتاجه من خبرة وحنكة في إدارة الدولة والمجتمع.
من أولويات المسؤول الأعلى متابعة معاونيه، بما يشبه الرقابة الدقيقة المتواصلة، للحد من الفساد، وطمره وهو في مهده أو بداياته، هذه السياسية يجدها الباحث في التعامل العملي لقائد دولة المسلمين، الإمام علي عليه السلام مع معاونيه وموظفيه.
ورد في قول مهم لسماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام): بأن (رقابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للموظفين كانت في رأس سياسته الإدارية لهم).
وكان الإمام (ع) ينطلق في رؤيته هذه، بالنظر الى المعاون والمسؤول حتى لو كان منصبه ذا حساسية عالية، بأنه موظف بدرجة كبيرة، لا تخرج مهمته عن رعاية الشعب وإدارة شؤونه السياسية، والاقتصادية، والعلمية وغيرها وبحسب التخصص الوظيفي للمسؤول، بما يحقق رضا الناس، وفق منهج المساواة والعدالة بين الجميع، وطالما أن هذه الوظيفة واسعة ومتعددة المهام، كون الحاكم يدير شؤون المجتمع كافة، فإنه لابد أن يكون بحاجة الى مساعدين متخصصين، وقادرين على مساعدته، في تحقيق الإدارة الناجحة للشعب، وهؤلاء الموظفون هم قادة وحكام أيضا، ولكن بدرجة أقل، ولهم صلاحيات معينة تمكنهم من أداء وظيفتهم في تنظيم شؤون الناس، إلا أن هناك من هؤلاء الموظفين من يشط في عمله، ويسحق على ضميره ويستخدم صلاحياته خارج المهمة الموكولة له، وتكون النتيجة غالبا، إيقاع الظلم بمن لا يستحق الظلم، ومكافأة من لا يستحق المكافأة بسبب الفساد والتملق والمحاباة.
الفساد قد يصبح حالة عامة
مثل هذا السلوك لا يليق بالمسؤول، لاسيما إذا كانت وظيفته مؤثرة على أعداد كبيرة من الناس، بسبب الصلاحيات الواسعة الممنوحة له، ثقة به، لكن بعضهم لا يستحق هذه الثقة، لذلك تحدث بعض التجاوزات الحكومية، التي غالبا ما تعاني منها الشعوب القابعة في أسفل قائمة الدول المتطورة، ومنها كما تشير الوقائع بعض الدول العربية والإسلامية، حيث تستشري حالات الفساد المالي، والاداري، ويسود الظلم وتغيب المساواة والعدالة، بسبب الموظفين المساعدين للحاكم، مما يؤدي الى استشراء الفساد بين الموظفين الادنى، فيصبح الفساد حالة عامة، هنا لابد للحاكم الاعلى من أن يمارس دوره، في مراقبة مساعديه وأن يصحح لهم أخطاءهم، وأن يعرفوا أن لا حصانة لهم حين يتجاوزون على حقوق الشعب المالية او غيرها، ولنا في حكومة الامام علي بن ابي طالب (ع)، مثالا حيّا عن هذا الجانب.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (الحصانة الدبلوماسية، والحصانة الإدارية، وحصانة الوظيفة، ونحو هذه المصطلحات لا مفهوم لها عند علي بن أبي طالب عليه السلام إذا خرج الدبلوماسي عن الحق، وجار الإداري، وعمد الموظّف إلى ما لا يليق به من إجحاف، أو ظلم، أو عدم اهتمام بالأمة).
هكذا ينبغي أن يكون تعامل الحاكم الأعلى والمسؤول الأول مع من يعمل تحت أمرته الوظيفية، فما نطّلع عليه من طرائق التعامل الذي أبداه الإمام (ع) مع معاونيه، يؤكد أولوية مراقبة الموظفين المساعدين، من لدن القادة والحكام، لأن غياب المراقبة والمحاسبة يقود الى انتشار الفساد بين صفوف الموظفين، وهو ما يؤدي الى إلحاق الاذى، والاجحاف، والظلم بعموم الناس، لاسيما شريحة الفقراء التي تتلقى أشد الضربات، نتيجة لفساد بعض الموظفين وخاصة الكبار منهم في حالات الاختلاس، وسرقة المال العام، وعقد الصفقات المشبوهة، وما شابه من هذه الاعمال الفاسدة، التي تدمر الشعب، وتحيل حياته الى بؤس، وجهل، ومرض، وحرمان وعوز مستدام، لذا يستجوب الأمر متابعة القائد والمسؤول الأعلى بما في ذلك مدراء الدوائر والمدارس للعاملين معه، حتى لا تتوسع دائرة الغبن والفساد أكثر.
ولابد أن يراعي الحاكم والمسؤول الأعلى تلك المعادلة المهمة التي ينبغي توافرها في شخصية ومؤهلات الموظف المختار للمنصب الحساس، هذه المعادلة يمثل طرفيها العدالة والعلم، فلا خير في مسؤول غير عليم وغير عادل.. من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه على أن الحاكم: (حين يختار الموظف لسياسة البلدان وإدارتها لابدّ وأن يتوفّر فيه شرطان: العلم، والعدالة).
المواظبة على شرط المراقبة
ولعلنا لا نخطئ عندما نقول أن توافر العلم والعدل في شخصية المسؤول فكرا وسلوكا يحميه من أي مشكلة غبن وظلم للآخرين قد يقع فيها، من دون أن يقصد ذلك، فالعلم والعدالة يحميان الموظف من الزلل في اتخاذ القرار حول هذا الجانب او ذاك، لأن العلم يجعله بعيدا عن الجهل، فلا يجهل حقوق الشعب، ولا يخطئ في هذا المجال أو سواه، والعدل يجعله قادرا على التعامل مع الجميع، بمعيار واحد، هو معيار الحق، فلا فرق بين إنسان وآخر، سواءً كان غنيا او فقيرا، قويا أو ضعيفا، سوى معيار الحق.
لهذا يعد ركن المراقبة من أهم ما ينبغي على القائد الأعلى أن يواظب عليه، كي يضمن أفضل الأداء لموظفيه ومعاونيه من جهة، وكي يحمي حقوق الأمة من جهة ثانية، وهكذا ينبغي على الحاكم الأعلى، أن يشدد الرقابة على مساعديه وعموم الموظفين، لكي لا تهتز نفوسهم ويتجاوزون على المال العام، أو يخطئون في إدارة شؤون الشعب، ولا تعني عدالة الحاكم وحزمه وتعامله القطعي مع الفاسدين أمرا مسيئا لخصاله، وحنكته، بل العكس هو الصحيح، فهذا ما كان يقوم به أفضل حكام المسلمين، كما فعل الإمام علي (ع).
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (على الرغم من أنّ سيرة أمير المؤمنين عليه السلام في حياة رسول الله صلی الله عليه وآله وبعد وفاته صلی الله عليه وآله في حياة من تقدّمه كانت خير معرف لـه عليه السلام في مستقبل حياته، وكان الولاة والموظّفون الذي يبثهم هنا وهناك يعرفون أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام جيداً.. لكن مع ذلك كله لم يكن ليفوّت علياً عليه السلام مراقبة أحوال ولاته وعمّاله ومحاسبتهم، لكي لا يظلم بعضهم الناس).
فالأمر المهم لدى قائد الأمة، أن يضمن عدم إلحاق الظلم بالناس من قبل الولاة والموظفين المعاونين، وقبل ذلك كان اختيارهم يتم وفق معايير مهمة ضامنة للأداء الأفضل، كما لا حظنا ذلك في أهمية توافر شرطيّ العلم والعدالة التي سبقت الإشارة لهما، بالإضافة الى ذلك هنالك الهدف الأهم وهو ضمان حقوق الناس من تجاوزات المعاونين والموظفين والمسؤولين الكبار.
فالقائد الأعلى هو المسؤول أمام الله والشعب عن ما يقوم به هؤلاء المعاونون والمسؤولون من أعمال وأفعال تنطوي على تجاوزات أو فيه شبهات فساد، كذلك هناك مسؤولية فردية بطبيعة الحال، ولكن القائدة هو الذي تتم مساءلته عما يقترفه موظفوه من تجاوزات وحالات فساد، ويبقى الهدف هو ضمان العدالة وحماية الحق، وبناء الدولة الحقوقية، والمجتمع المتعايش سلميا مع بعضه البعض.
اضف تعليق