{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.
لقد شرعَ الله تعالى الشّورى كأداة واسلوبٍ لإدارة العلاقة بين النّاس، وهي النّقيض للاستبداد بالرأي.
فالشّورى عاملٌ أساس من عوامل بناء الثّقة في المجتمع.
فالمُلاحظ انّ المجتمع الذي تشيعُ فيه قيمة الشّورى والتّشاور والاستشارة سواء على مستوى السّلطة من خلال مجالس النوّاب والّلجان المُختصّة والاتّحادات ومنظّمات المجتمع المدني والاعلام وغير ذلك، أَو على المستوى الاجتماعي، في الأُسرة مثلاً او في المحلّة او في محالّ العمل او ما أشبه، ان مثل هذا المجتمع تزداد لُحمتُهُ تماسكاً فنسبة الثقة فيه عالية، لا تنتشر فيه الشّائعات والدّعايات والأخبار الكاذبة والصور والافلام المفبركة، كما لا تتكرّر فيه القرارات الخاطِئة والظّالمة، سواء على مستوى الفرد او على مستوى الجماعة، امّا المجتمع الذي تنحسر فيه الشّورى فترى كلّ مواطن مستبدّ برأيهِ ولا يُحبُّ ان يسمعَ رأياً من أحدٍ او استشارة من ايّ نوع، بدءً من الحاكم نزولاً عند الأبناء في الاسرة الواحدة، فهو عادةً مجتمعٌ معقّد ومشتّت لا يصغي أحدٌ الى أحدٍ، كما يصفهم القرآن الكريم بقوله {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} تتكرّر فِيهِ القرارات الظّالمة والخاطِئة لانّها قرارات فرديّة، والفردُ الواحد مهما أوتي من علمٍ ومعرفةٍ وخبرةٍ الا انّهُ يظلّ عاجزاً عن الإلمام بكلّ تفاصيل الامور، فهو يبقى يحتاجُ لمن يكمّل عِنْدَهُ الصّورة من مختلف جوانبها بالشّورى والاستشارة والرَّأي.
ان مجتمع الشّورى هو مجتمع التعدديّة امّا نقيضهُ فهو مجتمع الاستبداد والتسلّط، وكما قلت ليس على مستوى السّلطة فقط وانّما على مختلف المستويات، في الأُسرة والجامعة والعمل والمحلّة وفي كلّ المستويات الأُخرى.
انّ من طبيعة الانسان ميلهُ للجماعة التي تسمع رأيهُ في القرارات التي تخصّهُ، فهو ينشدُّ وتزداد ثقتهُ اكثر فاكثر بأيِّ قرارٍ او خطّة عمل او مشروع أخذت الجماعة برأيهِ ورأي الاخرين قبل اتّخاذهِ، ولهذا السّبب تُعتبر الشّورى عامل مهم من عوامل تكريس الثّقة في المجتمع، ولذلك اهتمت المجتمعات المتقدّمة والمتطوّرة في هذا العالم بنظام الاستبيانات، طوَّرتهُ وحسَّنتهُ بشكلٍ مُلفت للنّظر، اتّخذت مِنْهُ أسلوباً علميّاً وعمليّاً سريعاً ومباشراً لمعرفة الرّاي العام في ايّة قضية من القضايا المطروحة للنقاش، وكذلك في ايّ مشروعٍ او قرارٍ معروضٍ للتّصويت عليه.
حتى في المحلّة الواحدة عادةً ما تجد لجان الرّاي التي تهتمّ بجمع وفرز رأي بيوتات المحلّة في ايّة قضية تخصّهم، كتبليط الشّارع مثلاً او تنظيم الحدائق او حتى الاتّفاق على حفلات شرب الشّاي مثلاً او ما الى ذلك.
ذات الأمر تجدهُ في المدرسة فلجان الرّأي تحرص على معرفة رأي الآباء والتّلاميذ الى جانب رأي المعلّمين في كلّ القضايا.
ولذلك فعندما تتّخذ الجماعة قراراً لم يشعر أَحدٌ في المحلّة او المدرسة انّهُ أُخذَ به على حين غرّة او ان القرار امرٌ دُبِّر بليلٍ او ان الآخرين لم يحترموا رأيه فناقشوا القرار واتّخذوه حتى من دون ان يكلّفوا انفسهم عناء سؤالهِ عن رأيهِ في الموضوع.
بل العكس يشعر المرء انّهُ جزءٌ لا يتجزّء من هذا القرار او المشروع وان لهُ مساهمةً فيه وهو ترك بصمتهُ عليه من خلال إِبداء الرّأي، فتراه يندفع لتنفيذه والدّفاع عنه وكأنَّهُ قراره، وهو كذلك، وبذلك تقصي الجماعة على الشّائعات التي قد تُثار بوجهِ القرار او المشروع، وتوصد الأبواب بوجهِ ايّ تفسيرٍ مُغرض للقرار قد يسعى متصيّدون بالماء العكر لإثارتهِ لأيِّ سببٍ كان.
انّ نزوع المواطن عندنا، مسؤولاً كان أَم مواطناً عاديّاً، الى الاستبداد بالرأي ساهم بدرجةٍ كبيرةٍ في إلغاء ثقافة الشّورى وبالتّالي ألغى الثّقة المتبادلة وضخّم ظاهرة الإيمان الكبير بنظريّة المؤامرة، فالأب يتآمر على الأُمُّ والأبناء يتآمرون على الأبوَين والمعلّم يتآمر على الطلّاب والوزير يتآمر على الموظّفين والجيش يتآمر على العمليّة السّياسية وهكذا.
كلُّ شَيْءٍ عندنا هو امرٌ دُبّر بليلٍ، فالمؤامرات شغّالة ليل نهار، لا شيء يناقشهُ المعنيّون فوق الطّاولة وبشفّافيّة وصدق ووضوح، لان كلّ واحدٍ منهم يتمنّى ان لا يناقشهُ احدٌ في الموضوع، ويتمنّى ان لو يقرّر لوحدهِ فيأمرُ فيطيعهُ الآخرون.
حتّى التّعيينات والإقالات يطّلع عليها المعني بها شخصيّاً من خلال وسائل التّواصل الاجتماعي مثلاً او عبر وسائل الاعلام، فلقد أُقيل مرّةً أَمين عام حزب سياسي، صديقٌ لي، وعندما اتّصلتُ به لاستفسر مِنْهُ عن سبب الإقالة تبيّن لي انّهُ لم يعرف بالموضوع! فطلبَ منّي ان أمهلهُ بعضَ الوقت ليُجري بعض الاتّصالات مع (قيادة الحزب) ليسألها عن الموضوع فقد يسمع منها تفسيراً عن سبب الإقالة!.
وما قصّة الوزير الذي سَمِع قرارَ استيزارهِ في الحكومة الجديدة من المذياعِ ببعيدةٍ عنّا!.
كلّ ذلك أنتج لنا مواطن استبدادي بطبعهِ، متآمر بطبعهِ، ظُلامي بطبعهِ، باطني بطبعهِ، إِنعزالي بطبعهِ، حذِرٌ بطبعهِ، يخشى أقرب النّاس اليهِ بطبعهِ ولا يثقُ بأحدٍ بطبعهِ! {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}.
واذا أردنا تغيير الحال فينبغي علينا جميعاً ومن دون استثناء ان نُثير ثقافة الشّورى لتتحوّل الى جزءٍ لا يتجزّأ من الشّخصية، لا يستوحشُ احدٌ منها ولا يهابها او يهرب منها، فبِها نُعيد الثّقة لمجتمعِنا ونُقلّص شيئاً فشيئاً من ظاهرة الشكّ والتربّص والانغماس في نظريّة المؤامرة.
امّا في الْعِراقِ (الجديد) و (العظيم) فلقد أَرانا الدهرُ عجباً عندما اختطفَ من يُطلقون على أَنفسهم زعماء الكتل، اختطفوا العمليّة السّياسية ولخّصوا الدّولة ومؤسّساتها بالحفنة القليلة التي كرَّست نظريّة (الملأ) بأسوءِ صورِها وأشكالِها حتى دقّوا إِسفيناً من الشكّ وعدم الثّقة في المجتمع وتجاوزوا على الدّولة ومؤسّساتها ليكرّسوا دولة الطّوائف التي تتخندق في هويّاتها الضيّقة وتتشرنق في حزبيّاتها وانتماءاتها العنصريّة والطائفيّة والمناطقيّة والعشائريّة، وأضعفوا دور وتأثير منظّمات المجتمع المدني بكلّ اشكالِها بما فيها الاعلام، فتراهم يوقّعون على مواثيق الشّرف والاتفاقات السريّة ليلَ نهار من دون علمِ حتّى كتلهِم التي تُفاجَأ بنصوصِها عندما تطّلع عليها في الاعلام!.
ولنا عن نظريّة (الملأ) حَديثٌ آخر.
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}.
والملأ هم [وُجوه القوْم وسَادَتهم] و[أهل المشورة والرّؤساء] كما في معاجم اللّغة العربيّة، او كما يمكن ان نُسمّيهم اليوم بالفريق الحاكم، او فريق الحاكم، وهؤلاء عادةً ما يضجرون اذا تقاطعت مصالحهم مع ايّة مشورة صالحة يُمكن ان يقدّمها احدٌ للحاكم، ولذلك فهم يحجبونها عنه ولا يدَعون صاحب الرّاي الحصيف ان يصل الى الحاكم، واذا شعروا ان مُصلحاً يحمل مشروعاً جديداً قد يهدم مشروعهم فوق رؤوسهم، فتراهم؛
١/ يحرّضون عليه الحاكم ويوغلون صدرهُ ضدّهُ بالتّهم والافتراءات {وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}.
٢/ يُشيعون عليه كلّ ما يمكن ان يغتالَ شخصيّته في المجتمع، كالسّحر والكذب والجنون لاسقاطهِ والتّقليل من آثاره {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} {قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} {قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}.
٣/ التّآمر عليه لإبعادهِ عن البلاد وطردهِ منها {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} كما يفعل اليوم الطّغاة ضدّ المصلحين الذين يهدّدون عروشهم الخاوية ولو بكلمةِ حقٍّ وبصورةٍ سلميّة، فيعمَدوا الى إسقاط الجنسيّة عَنْهُ وإبعادهِ عن البلاد وكأَنَّ المواطنة قميصٌ يُلبِسونهُ من يُعجبهُم وينزعونهُ عمَّن لا يروقُ لهم! أو كَأَنَّ المواطنة هِبة الحاكم للمواطن او مكرُمةً منه لرعاياه! [نظام القبيلة الفاسد الحاكم في البحرين نموذجاً وهو ينزع مُواطنيَّة آيّة الله المجاهد الشيخ عيسى قاسم ويُجرّدهُ من جنسيَّتهِ، وكأنّها وُرَيقات يُمْكِنُ لاحدٍ ان يُمزّقها او يجوزُ ويحقُّ لأحدٍ، مهما كان موقعهُ، ان يَسلُبَها من مواطن! ابداً؛ انّها انتماءٌ وهويّةٌ وتاريخٌ ودورٌ وموقفٌ، خاصةً بالنّسبة لشخصيّةٍ وطنيّةٍ عملاقةٍ كالشّيخ قاسم الذي لازال يترك بصماتهُ الواضحة في ماضٍ وحاضر ومستقبل بلادهِ البحرين منذ اكثر من نصف قرن، يجاهدُ من أَجْلِ وحدتها وكرامةِ شعبها التي لا تتحقّق الا بالحريّة والعدالة الاجتماعيّة التي تتجلَّى بنبذ التّمييز بكلّ أشكالهِ من قِبَلِ (آل خليفة) خاصَّةً التّمييز الطّائفي].
٤/ واذا لم ينفع معهُ كلّ ذلك يعمدون لقتلهِ {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
والفريقُ الفاسدُ الذي يلتفّ حول الحاكم عادةً ما يكون بوقاً له يضلّل الرّاي العام لتصديق أُلوهيّة الحاكم من جانب، ويصدّق انّ سلطانهُ قميصٌ قمّصهُ الله تعالى لهُ فلا يجوزُ لاحدٍ ان ينازعهُ فيه {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}.
وعندما تبتلي الدّولة ومؤسّساتها بمثل هذا النّموذج الفاسد من جيش (المستشارين) الذين يملأون مكاتب الزّعماء، تتدهور حال البلاد الى الحضيض وهذا ما نراهُ اليوم في جلّ بلادنا العربية والإسلامية، العراق نموذجاً، وللاسف الشّديد فانّ في البلادِ مَن يرغب بهذا النّوع من المستشارين، كونهُ لا يُحبُّ ان يسمع الا الرّاي الذي تطرب لهُ أذنَيه، وان هذا النّوع من المستشارين (الطبّالين) تراهم فنّانين في تزويق الكلام والرأي قبل تقديمهِ كمشورةٍ للزّعيم! لمداراةِ مشاعرهِ وحفاظاً على اعصابهِ من التوتُّر.
انّهم لا يرَون أَنفسهم الا مع (القائد الضّرورة) و (الزعيم المُلهَم) ولذلك لا يفرّطون بمصالحهم الى جنبهِ ابداً حتى اذا تناقضت مشورتَهم مع الحقيقة والواقع، فليسَ مُهمّاً كلّ ذلك انّما المهم ان يرضى عنهم الزّعيم!.
انّهم (عَبَدَةُ العجْلِ) بامتياز!.
ولقد حذّر أَميرُ المؤمنين (ع) من مغبّة تقريب المسؤول لهذا النّوع من الفريق والمستشارين ففي عهدهِ للاشتر لما ولّاه مصر كتبَ لهُ يقول {وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلاْنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالاْلْحَافِ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الاْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلاَْعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الاُْمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ}.
انّهم يتحدّثون دائماً عن حقوق الحاكم، ويقصدون بها حقوقهم، وواجبات الشّعب، فلا تسمعهم ابداً يتحدّثون ولو مرّةً واحدةً عن واجبات الحاكم وحقوق الشّعب، لانّ الكلام الاول يُرضي الحاكم ويُغضب الشّارع، وهو المطلوب، امّا الثّاني فيُغضب الزّعيم ويُرضي الشّارع وهو غير مطلوب أَبداً.
امّا أَميرُ المؤمنين (ع) ففي اوّل خطابٍ له بعد مبايعتهِ خليفةً للمسلمين قال لهم يذكّرهم بحقوقهِم أولاً {أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً، وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ: فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا.
وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ: فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالاِْجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ، وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ} فقدّم الحديث عن حقوق النّاس على الحديثِ عن حقوق الحاكم، وكذلك قوله (ع) {أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاَْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لاَِحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لاِحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ} وقولهُ عليه السلام {أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلاَّ يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ، وَلاَ طَوْلٌ خُصَّ بِهِ، وَأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ، وَعَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ.
أَلاَ وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلاَّ أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلاَّ فِي حَرْب، وَلاَ أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلاَّ فِي حُكْم، وَلاَ أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ، وَلاَ أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ، وَأَنْ تُكُونُوا عِندِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً، فَإِذَا فَعَلْتُ ذلِكَ وَجَبَتْ لله عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ، وَلِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ، وَأَلاَّ تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَة، وَلاَ تُفَرِّطُوا فِي صَلاَح، وَأَنْ تَخُوضوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنْ اعْوَجَّ مِنْكُمْ، ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ، وَلاَ يَجِدُ عِنْدِي فِيها رُخْصَةً، فَخُذُوا هذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ، وَأَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللهُ بِهِ أَمْرَكُمْ}.
وفي هذا النصّ ربط الامام (ع) طاعة الرّعيّة للحاكم بمقدار نجاحهِ في تحمّل مسؤولياته، فشرعيّة الحاكم تُقاسُ بالنّجاح فقط وليس بأيّ شَيْءٍ آخر، فاذا فشل فللأمة الحق في عزلهِ وطردهِ عن موقع المسؤولية واستبدالهِ بمَن يحقّق مصالحها ويحميها من العبث والفساد والضّياع.
اضف تعليق