في بيت يسوده الغروب دائما، أجلس أسفل السلّم، أنزوي هناك وأراقب بصمت حركة المرأة، هي أول من يستيقظ وآخر من ينام، وهي أكثر افراد العائلة حركة، حتى أبي، وهو رجل البيت كما تقول امي، لا أراه يتحرك كثيرا، يأتي من الدوام بعد الظهيرة يأكل وينام حتى أواخر العصر، ثم يخرج مع الأصحاب، المرأة وحدها تبقى حبيسة البيت، وصديقة العمل بأنواعه، تصوم معنا مثلما نصوم، لكنها تتحمل أعباء البيت من دون أن نساعدها في شيء، لم تكن بيننا بنت تساعدها، كلنا أولاد، وقد تعلَّم الأولاد أن يساعدوا الأمهات في عمل البيت وما أسوأه من تعليم، حيث تصبح الأم هي الخادم الوحيد لعائلة لا بنت فيها.
في الصباح، تستيقظ أمي، تحمل الزنبيل المصنوع من سعف النخيل، وتمضي الى السوق البعيد، قبل منتصف النهار وبعده أحيانا، تعود أمي وفوق كتفها حمل ثقيل، ومن يدها تتدلى أحمال أخرى، تصل الى البيت، أستقبلها بسنواتي القليلة وجسدي النحيف، احاول ان اساعدها، لكنها تقول ها قد وصلت البيت فلا داعي أن تتعب نفسك، في جبينها يتفصّد العرَق، والتعب يتكاثف في عينيها، أنفاسها تعلو وتنخفض، كأنها تبكي بصمت، وهي تكابد هذا العمل اليومي الذي لا ينتهي، ولا سبيل لوقفه او الاستغناء عنه.
لا تشرب الماء لأنها صائمة، مع أن طريق السوق الطويل أستنزف جسدها، فبانت كأنها كومة عظام، ولكنها تبدأ رحلتها اليومية مع تنظيف البيت، وغسيل ملابس اولادها، ثم تؤدي الصلاة، ونبدأ رحلة الطبخ، في مطبخ ساخن كأنه فرن صغير، يأتي أبي بعد الظهيرة من دوامه اليومي، هو صائم ايضا، يغيّر ملابس الدوام وينام، هي وحدها التي لا تكف عن الحركة، هكذا أراها اثناء مراقبتي لها، تبدأ بغسل الصحون، تنظف الأرضية، ترتب (المواعين)، تفترش المطبخ وتبدأ باعداد الطعام، أصابعها لا تكف عن الحركة وهي جالسة على الارض، وعندما تنهض فإن جسدها نفسه لا يتوقف عن الحركة.
اخرج من زاويتي وأقترب من امي، أقف أمامها حزينا لأنني عاجز عن الوقوف الى جنبها بسبب صغر سني ونحافة جسدي، أطلب منها أن تكلفني بعمل ما، (اريد أن أساعدك يا أمي)، تأخذني بين ذراعيها، تضمني واحس بنبضات قلبها المتسارعة، تصمت، او تبكي احيانا بصمت، لكنها تقول لي: لقد تعوّدت على ما أقوم به، وصار جزء لا يتجزأ من حياتي.. وتواصل قولها بصوت أم: لا أريد من هذه الدنيا سوى راحتكم، أبيكم وأنتم، هذه هي أقصى أحلامي، وأجمل مهماتي، وعندما أنجح في ذلك، فأكون أسعد انسانة في الدنيا كلها. هكذا تفكر أمي، بل كل الأمهات في أي مكان وزمان.
لئن شكرتم لأزيدنكم
اخرج من المطبخ حزينا، يصدمني شخير أبي، انه متعب من عمله ايضا، قبل اذان المغرب تبدأ المرأة الصائمة الوقور، بإعداد الطعام، خيرات شهر رمضان وفيرة، نعمة الله التي أنعم بها على الفقراء قبل غيرهم، يداها تعملان وأصابعها، عيناها تنظران الاشياء بدقة، جسدها يتنقل بخفة، لا تنسى شيئا، خصوصا التفاصيل الدقيقة التي اعتادها زوجها، ابي كان يحب التمر ويطلب الحساء الذي يفضله معظم الصائمين (شوربة العدس)، المرأة الصائمة الزوجة الكريمة، تحرص على أن تقدم كل ما يريح زوجها، وكل ما يجعل اولادها سعداء، إلا نفسها، فهي لا تتذكر ماذا تريد أو ماذا ترغب، وهي صائمة كالآخرين، غالبا أراها تفطر آخر الناس، فهي تنسى العطش والجوع لأن الأهم لديها أن تقضي حاجيات زوجها وأولادها.
المرأة الصائمة، قد تتحمل أعباء مضاعفة، فهناك أمهات (موظفات) في دوائر حكومية او أهلية من أجل استحصال الرزق، او معلمات في المدارس، او ممرضات في المستشفيات، الوظيفة والعمل جهد وتعب مضاف الى جهود ما تقوم به المرأة الصائمة في بيتها ولزوجه وأطفالها، هل لاحظنا تعاونا من طراز حكومي خاص من الحكومة مع الموظفة؟؟، مثل هل قلصوا ساعات دوامها تمييزا لما تبذله من جهود إضافية في شهر رمضان؟، هل تعون معها الزوج؟؟ وفي آخر النهار، عائلة المرأة الموظفة تطالبها بالطعام مع أنها صائمة أيضا.
من فكّر بالوقوف الى جانب المرأة في ما تبذله من جهود عظيمة ومباركة في هذا الشهر الكريم، هل يعرف الرجل أن الكلام الطيب والاشادة بما تقدمه المرأة الصائمة، يزيح عنها كل التعب الذي بذلته من اجل الزوج والاولاد والعائلة؟، هل يعلم افراد العائلة أن كلمة شكر تجعل المرأة الصائمة تحلق في سماء السعادة عاليا، وتستعيد نشاطها وتستعد لمشوار جديد ليوم آخر من الحركة المستمرة والعناء المتواصل والمشقّة التي لا تتوقف؟؟.
أهمية الإطراء على المرأة
في الحقيقة، ما كنت اسمع كلمة اطراء واحدة لأمي من أبي أو من اخوتي، أما أنا فقد تعلمت من ابي والعائلة أن التشجيع غير مهم فنسيته ايضا، لم يكن يخطر في بالي أن كلمة انسانية جميلة، قد تزيح اعباء نهار كامل من التعب عن كاهل المرأة الصائمة، ولكنني فيما بعد، عندما كبرت أمي وصارت عجوزا مسنّة، قالت لي، كنت انتظر منكم الكلمة الطيبة لا أكثر، خصوصا من أبيك، كنت افرح عندما تقولون شكرا (إن طعامكِ لذيذ)، ولكن لم اسمعها يوما من ابيك، لم اسمعها منكم، والعتب ليس عليكم، على أبيكم لأنه لم ينتبه لتعبي، ولم يعلمكم الشكر والثناء، وفي الآية الكريمة (لئن شكرتم لأزيدنكم).
ولكن في جميع الأحوال و(الكلام لا يزال لأمي)، أنتم أولادي دمي ولحمي وهو زوجي نسخة من روحي، وما كنت أقدمه لكم، لم أكن انتظر عليه أجر مقابل حتى لو كان كلمة شكر.
أتذكر الآن تلك المرأة النحيفة الصائمة، أمي، وأتذكر ذلك العمل الجبار الذي كانت تقوم به، يوميا وعلى مدى سنوات وعقود، يا لها من طاقة وقدرة عظيمة، يا له من جهد جبار، كانت تقدمه أمي لي ولأخواني ولأبي، يتضاعف هذا الجهد مرارا في شهر رمضان، وتبقى هي آخر من يفكر بالطعام او النوم أو الكف عن الحركة.
اليوم أتساءل، وأسأل الجميع، الرجال الأزواج، والأولاد، كيف يتعاملون مع زوجاتهم الصائمات، المرأة الصائمة لشهر رمضان، هل تقفون الى جانبها، هل تمدون يد العون إليها، هل تساعدونها في بعض اعمال البيت، لقد لاحظت شخصيا بعض الشباب لا يقفون الى جانب أمهاتهم، وهناك من يصل حد السخرية بها اذا طلبت منه معاونتها في بعض اعمال البيت، ولكن ليكن في علم هؤلاء الشباب وغيرهم، ان الانسان الشهم هو الذي يقف جانب المرأة الصائمة.
في احدى المرات عاتبت أمي بشدة، وقلت لها لماذا لم تعلمونا أن نقف مع الأمهات؟، فقالت انها لا تريد أن تحمّلني بعض همومها، لكنني كنت مصرا، ومنذ ذلك اليوم كانت هناك امور كثيرة نتقاسمها أنا وأخواني من أعمال البيت، منها أن جميع ما يحتاجه البيت من المحال القريبة ومحل البقالة، كان من مهمتنا، بالاتفاق مع الوالد، يوم واحد خرجنا مع الوالدة علمتنا على مهمتنا ونجحنا فيها فعلا، وهناك أعمال أخرى صرنا نتقنها مع الزمن، وقوفا مع المرأة.
اضف تعليق