تعلم الصوم في مقوّمته او نزعته التقشفية او الخلاصية هو ولا شك الثمرة الحلوة / المرة للتجربة. عانى انسان المجتمعات الأولى رغما عنه من اختبار الجوع في النطاق الذي كان يجهل فيه استخدام الحفاظ على حده كي يتمكن من تامين ما يحفظ بقاءه بين فصلي صيد او محصول.
الحرمان هو أولا خيبة امل فيزيولوجية شديدة لن يتأخر عن استخلاص التعاليم منها. ان مجرد مشاهدة الثدييات التي ترافقه والتي يقتات منها تنجز الامثولة التي تضع الصوم وسط خطة من التجديد العلاجي. ومن النقص الذي حكمت فيه الظروف عليه، عمل عملا جيدا، بنى قوة، لا بل قام باختيار لم يعد من نوع اصلاح الجسد وحسب، بل دخل أيضا في منظور الاسترداد، عند تقنين الصوم، ليس كوسيلة، بل كغاية، ساهمت الثقافات كل منها بنصيب حاسم، ولم يبق أي شعب غير مبال بقوة الصائم اراديا.
مخبر فيزيولوجي
تعلم خبرات الجوع الصياد والمحارب والرياضي على إمكانية الانعتاق من اللذات او تجاوزها، تلك الذات التي تؤسس طلائع الانضباط والفن. الاختبار الأساسي المتطوع يستوجب تهيئة قادرة على افهام طالب الصوم رهاناته الحقيقية. الصوم هو صدمة كهربائية فيزيولوجية عليها ان تتيح اقل تسوية بين الجسم المحرض على الصوم والاختبار الذي يتهيأ من اجله. في المجال الذي يرفع الصوم المرشح لهذا الاختبار الى المستوى الذي ستبدأ فيه التجربة، يفتحه الصوم الى العلاقة التي تحافظ الجماعة على تماسها مع القوى التي تحكم أعماق عالم يجاوز بالضرورة ما نستطيع فهمه عن ذلك.
الكيميائات الخطيرة المحرضة بالنقص الذي خضع له الجسم لوقت طويل تقريبا، بإمكانها ان تقود الى شفاء سريع وعجائبي، في حالة الانتان، التسمم والتوعك. ان رفض أي غذاء لدى بعض الحيوانات المريضة قد "الهم" ولا شك الحدس لدى رواد الصوم العلاجي، المهتمين بتعظيم مزايا الانحلال الذاتي. عندما نتوقف عن تغذية الجسم، يبتكر الجسم استراتيجيات جديدة للبقاء بالتفاته الى احتياطياته، أي الى انسجته التالفة والمتضررة او الفائضة، ليأخذ منها المواد القابلة للمعالجة ثانية. الانحلال الذاتي اذا هو عملية تماد "تحول من مادة الى أخرى" الأجساد المتكاسلة الى اجسام متجددة الشباب، افضل تجهيزا للاختبارات التي نريد تكريسه لها، في بعده السحري، الانحلال الذاتي في ذهن انسان الحفريات، هو شيء اخر غير الإصلاح الجسدي، انه التعبير عن تصحيح وسلامة.
يقيس الصائم إثر تزهده في ان واحد على نفسه وعلى الجماعة التي يخرجه منها مؤقتا رفضه التغذية. منحت المؤلفات القانونية الهندية في العصر الوسيط، كالمؤلفات في ايرلندا، منحت الصائم وضع وسيلة ضغط، يمكن اللجوء اليها في بعض الظروف، لينصف نفسه بنفسه. ولإرغام المدين على وفاء ما عليه، يأتي الدائن ويستقر امام بيته ويهدد بان يترك نفسه يموت جوعا حتى يسدد الدين. من المهم ان نلاحظ انه في الهند وايرلندا بالضبط يشغل الاضراب عن الطعام لب خطة العصيان المدني التي التزم بها مناصرو مبدأ اللاعنف الى جانب غاندي في الصراع غير العنيف من اجل استقلال الهند، (مثل السجناء السياسيين الايرلنديين الذين احتجزوا في كورك بجانب تيرانس ماك سويني الذي مات سنة 1920 بعد اليوم الخامس والسبعين من الصوم) وسعوا الى النجاح تقريبا في ثني المعارض والظالم. هذا التصلب الذي نجده في ممارسة "الانحكاك الكامل"، هذا التطرف الذي سعى بوساطته المتطوعون اليانيون (نسبة الى الديانة اليانية في الهند التي ترتكز على تطهير النفس باللاعنف)، يجمع التقشف الخارجي (الصوم) والتقشف الداخلي (المجاهرة، الاستغفار، السلوك المصحح، الخدمة، الدراسات، التأمل) لاجتثاث القشور القدرية المتجمعة خلال الحياة الراهنة والحيوات السابقة ، من خلال الصوم، حتى الموت.
الصوم هو وسيلة ابتزاز مبالغ فيها في النطاق الذي لا يخفي فيه الصائم عزمه على متابعة اضرابه حتى الحدود التي تخصها الفيزيولوجيا بهذه الممارسة، كما ان الصوم هو وسيلة تعبير لدى القهميين (فاقدي الشهوة للطعام). يتحدى القهمي بصومه ليس محيطه القريب وحسب بل طاقم المستشفى أيضا، لان يطلب حل نزاع يفسخه وفي ردح من الزمن يعطي نحوله وعدم تغذيته السريعة لهذا الزمن خواص جلد رقيق.
الروح المطهرة
ادرك الصائمون خلال أعمالهم الباهرة العلاقة الحميمة التي كان من الممكن وجودها بين التقنينيات الغذائية وإجراءات مفاجئة للتمكن من شن نوع من الحرب المقدسة الداخلية ضد ما اسماه غاندي "شهوة النفس". التقشف الذي يفرضه الصائم على نفسه يعيد، في اليهودية، تفعيل الانفصال الاولي الذي جعل من المخلوق كائن خالقه اليتيم دوما، يقترح التقشف على الصائم التضحية بالنجاسة التي تعيق العهد. وبهذا المعنى، تكون القداسة طريق تقليد الله. لقد تصور رجال الله التقنينيات الغذائية، وحسب عبارة بيير كامبوريزي، تصوروا "مطبخا مضادا" كان يوضح ان "العلاقة مع السامي جدا يجب ان تمر بسلسلة من التضحيات والتطهيرات والتنظيفات بغية تنقية الروح من تلوث الأغذية".. القيام بالتضحية يعني عودة المخلوق نحو خالقه، اجتثاث كل ما يربط المخلوق بالمنفى الدنيوي، تكريسه لله، لفت نظر الله اليه والسماح بان يعيد ضمه الى الوحدة المقدسة. وهكذا تصور معلمو الرهبنة الغربية "ندم القلب المتواصل" هذا، الذي يلزم التأنق للقداسة على ان يعرف ان صوم الجسد لاقيمة له ان لم يترافق "بصوم الروح": "كل شهوة وكل شرود للقلب لا يتوقف هو نوع من الغذاء للروح الذي يغذيها بأطعمة ضارة، ويمنعها مستقبلا من الاشتراك بالخبز السماوي وبالغذاء القوي".
أعطيت نفس التوصيات للمتزهدين الهنود في "مؤلفات عن التقيد بالمعايير الطبيعية والاجتماعية والميتافيزيقية" باستعمال الغذاء، بكل ابعاده المؤذية، "لضبط وانكار ذات منتظم حتى يتكلم الجسد والنفس والروح متفقين في سبيل هدف روحي مرغوب". ووفق مبدأ يجد هنا كل ملاءمته، فان المتزهد هو ماذا يأكل، ويأكل ما هو عليه، أي كما يوضحه فيرونيك بوييه "عدم التمتع" بالطعام يوصل ابعادا دنيوية الى ابعاد تتخطى العالم الدنيوي للتظاهرة.
اضف تعليق