مما يميّز شهر رمضان المبارك عن سائر الشهور، طابعه الاجتماعي والعمل الجماعي لفريضة عبادية، فمجرد تصور حضور الصائمين في وقت واحد في شرق الارض ومغربها، على مائدة السحور فجراً، والافطار مساءً، ترسم صورة رائعة لاجواء معنوية مفعمة بمشاعر انسانية ترنو الى التكافل الاجتماعي، لان هذا التوقيت الواحد من شأنه ان يزيل كل اشكال الفوارق الطبقية التي نراها تنعكس قهراً على موائد الافطار، فنلاحظ هنالك المائدة العامرة بالاطعمة والاشربة والمشويات والمقليات والحلويات و...، في المقابل، توجد عوائل تتسور على قرص الخبز وبعض السوائل وطعام بسيط.
ولذا تنطلق مشاريع الإعانة والمساعدات العينية والمادية لمساعدة الفقراء والعوائل المتعففة لرفع بعض المصاعب عنهم في طريق توفير المواد الاساسية للمائدة الرمضانية، فهل هذا كل شيء في شهر رمضان المبارك؟، وهل هذا كل ما يحتاجه الناس من رسالة الشهر الكريم؟.
هل المشاكل كلها بسبب المال؟
صحيح أن المعيار المادي هو السائد لايجاد حلول لمشكلة الفقر لدى شريحة واسعة من المجتمع، بيد أن الصحيح ايضاً امكانية الاستفادة من فرصة شهر رمضان المبارك، لمعالجة عوامل نشوء الفقر والتخلف والتبعية، فلماذا يجب ان يبقى الفقير بعيداً عن العلم والمعرفة ليُحرم من فرص العمل؟ أو ان يعيش حياة النكد والمشاحنات في البيت لافتقاده الثقافة الأسرية؟ او ان يعتمد في بناء شخصيته وتحديد مسارات سلوكه وتصرفاته على ما يصدره الآخرون من خلال مختلف وسائل الاتصال والاعلام؟
لنفترض أننا حققنا القدر الجيد من المستوى المعيشي للناس، واصبح من السهل عليهم شراء ما يريدون، فهل يتمكنوا من شراء الوعي والثقافة والمعرفة بالمال، مع أننا نتفق دائماً على أن جذور الازمات في مجتمعاتنا معنوية اكثر مما هي مادية؟.
في الوقت الحاضر، فان تزود ابناء المجتمع بثقافتهم، بحاجة الى بذل الوقت والمال وبعض الجهد لحضور محافل قرآنية او مجالس ومنتديات ثقافية ودينية وغيرها، بينما بامكانهم الحصول على انواع من الثقافات الشرقية والغربية بالمجان من خلال جهاز صغير يدسّه في جيبه، فضلاً عما لدى العائلة من الشاشة الصغيرة التي تنقل لهم ثقافات وعادات الشعوب الاخرى، ولعل هذا يفسر ظاهرة اهتمام الشريحة الفقيرة بما يوصلهم الى العوالم الخارجية، حتى وإن كانوا يفتقدون لسقف مبني بشكل أصولي فوق رؤوسهم، لان المهم لديهم أن يكون على هذا السطح المكون من الالواح والصفيح، أجهزة التقاط للقنوات الفضائية او لإشارات النت.
هذا المآل يذكرنا بالحديث النبوي الشريف "الكلمة الطيبة صدقة"، بمعنى انها تمثل رأسمال حقيقي من شأنه ان يتحول الى مشروع لنهضة ثقافية وفكرية، على اساسها ينطلق مشروع تنموي ينهض باقتصاد البلد ويسهم في تغيير الوضع المعيشي للمواطن في ذلك البلد. وهذا ما ينبغي أن تتوجه اليه مؤسساتنا الثقافية والدينية في هذا الشهر الفضيل، فالتركيز – في معظم الاحيان- على العطاء المادي، وهو حسنٌ جداً ومطلوب، بمساعدة الناس من لظى الاسعار في الاسواق، او باقامة موائد الافطار الجماعي او غير ذلك.
حملة مواساة ثقافية
المواساة؛ صفة نبيلة ومحببة لدى كل انسان، وقد حفلت النصوص الدينية لدينا بتكريس هذه الصفة في الواقع الاجتماعي، الى جانب الحالة العامة، فان الشريحة الواعية والمثقفة في المجتمع مدعوة اكثر من غيرها للتحلّي بهذه الصفة لاسيما في هذا الشهر الكريم، فاذا كان بامكان الميسورين مدّ يد العون لتغطية نفقات المائدة الرمضانية للشريحة الفقيرة في المجتمع، فان بامكان أهل الثقافة والفكر مدّ يد العون "معنوياً"، ليس هذه الشريحة وإنما لجميع شرائح المجتمع، لتكريس القيم والمبادئ المهددة بالتصدّع بسبب تكالب الازمات الاقتصادية والسياسية والامنية.
جاء في الحديث الشريف: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم". وقد ورد التأكيد على الآثار الوضعية للمواساة في حياة الانسان، من قبيل مواساة المريض ومن فقد عزيز له، وحتى من هو محتاج للإضاءة الفكرية والثقافية، كلها وغيرها، تمثل مفردات للمواساة والتحسس بآلام ومشاكل الآخرين.
هذا النوع من المواساة التي تعني بالمشاعر الانسانية، تطمئن النفوس على سلامة الدين والاخلاق والقيم الانسانية وأنها لن تتصدّع بسبب المشاكل الظاهرية التي هي من سنن الحياة، وأن المشكلة فنية – إن صحّ التبعير- وليست منهجية، فاذا استقرت نفس الانسان وشعر بالاطمئنان على نفسه وحاضره ومستقبله، فانه سيتذوق الطعم الحقيقي للصوم في هذا الشهر الفضيل، لانه سيجد الحل لمشكلته مع زوجته او مع الشباب من ابنائه، او مع اصدقائه وجيرانه أو في أي مكان آخر، كما تهون عليه مصائب الحياة، من أسقام البدن او الديون الثقيلة وغيرها من الازمات التي تستفرد حالياً بكل فرد من افراد المجتمع.
اضف تعليق