يتعطّر الأب ويرتدي ملابس نظيفة، بعد أن ينتهي من صلاة المغرب والعشاء ويتناول وجبة طعام تبل العروق وتعيد النشاط الى الجسد، ثم ينادي الأب على ولده الصغير، يخرجان معا الى أحد المجالس الثقافية، يشعر الطفل النظيف بالزهو والفرح، يدخلان الى المجلس، يرحب بهما الجميع، يتذكر الطفل بذاكرة قوية لا تخطئ، طعم اللبن البارد، والحلوى اللذيذة، وتلك المحاضرة التي كان يفهم بعضها، فيشعر انه اكتسب شيئا جديدا في حياته.
المحاضرات الثقافية بعضها كان تدور عن حياة الناس البسطاء، كانت توجههم، وتساعدهم على كيفية تنظيم اوقاتهم وأفكارهم، وكيف يساعدون بعضهم لمواجهة شظف العيش وصعوبة الحياة، كما يتذكر الطفل عندما كان المحاضر او الخطيب يطلب من الأطفال أن يكونوا متميزين، ويتذكر جملة لا تزال تطرق سمعه بقوة (لا خير في الانسان الذي لا يتميز في تفكيره وعمله).
وها هو الطفل الصغير قد كبر وتزوج وصار أبا، اجتهد ونجح في حياته الدراسية والعملية ولكن يظن بأنه لم يقدم لأولاده ما قدمه له ابوه حينما كان يصطحبه الى المجالس الثقافية في شهر رمضان الكريم، إنه يعترف بهذا التقصير غير المتعمَّد وغير المقصود بطبيعة الحال، وعندما يسأله احدهم لماذا هذا التقصير، سرعان ما يجد التبرير الجاهز، وهو صعوبة ظروف حياتنا الراهنة بالقياس الى بساطة الحياة أيام زمان!.
ولكن هل تعني هذه الصعوبة أن نهمل هذا الشهر وأجواءه المتميزة؟، ألا ينبغي علينا أن نستفيد الى اقصى حد ثقافيا من هذا الشهر، لاسيما أن شهر رمضان يعد من الشهور المشجعة على الثقافة بامتياز، حيث تكثر فيه الامسيات الثقافية والفكرية والفنية والدينية، وأمسيات الفلكلور الشعبي، حتى الألعاب التي يلجأ اليها الصغار والكبار، لها نكهتها وخصوصيتها الرمضانية التي تختلف عن الشهور الاخرى، فيحمل هذا الشهر خصوصية لا نجدها في شهور السنة الاخرى.
لقد شعرت بالفرح عندما سمعت ببعض الاستعدادات الثقافية لشهر رمضان، حيث يستعد أصحاب بعض المنظمات الثقافية لتقديم ندوات وأمسيات رمضانية متميزة، ولا يزال الاستعداد والتمهيد لمثل هذه الامسيات المتميزة جاريا، وهو امر مهم جدا، يذكرنا كيف كان آباؤنا وأجدادنا يستعدون لاستثمار شهر رمضان ثقافيا.
حملات تثقيفية متواصلة
كما ينبغي على المؤسسات والمنظمات الثقافية الرسمية التابعة والمتفرعة عن وزارة الثقافة والاهلية المهنية مثل اتحادات الكتاب والادباء، والصالونات الشخصية وغيرها، أن تمهد وتخطط لاقامة امسيات رمضانية متناسقة مع اجواء هذا الشهر الكريم، خاصة أننا بحاجة الى مثل هذه الحملات التثقيفية لنشر الوعي والمعرفة خاصة بين شريحة الشباب، لذا لابد أن تتحرك المنظمات الثقافية في هذا الاتجاه بقوة وتمهيد جيد ومستمر، اذا كانت جادة في سعيها لتفعيل المشهد الثقافي وتحريك الجمود الذي يعاني منه الشباب والفراغ الكبير بسبب البطالة.
لذلك لا يصح أن نترك شبابنا تحت رحمة الجهل المركب، وضغط البطالة، وبؤس الفراغ، لقد كا آباؤنا مخلصون معنا في هذا الجانب على الرغم من بساطة وعيهم وحياتهم، انهم كانوا مجتهدين في الاستعداد لشهر رمضان المبارك وتغيير نمط الحيلة فيه، خاصة في مجال الأنشطة الثقافية في المجالس في بيوتات ثقافية معروفة حيث كان الناس بعد الافطار يبحثون عن الفائدة والمفاكهة، للتخفيف من وطأة الصوم الجوع والظمأ، كذلك هناك تحرك لتعويض سبات النهار، حيث تسود بعد الافطار، حالة من الانشراح والانفتاح النفسي لدى الجميع، فيهبّ الناس للبحث عن منافذ يستمدون منها الفائدة والمتعة والترويح النفسي من خلال اجواء الفكاهة الممزوجة بالمواضيع المفيدة والممتعة في الوقت نفسه.
هل هناك استعداد وتمهيد ثقافي خاصة أننا على أعتاب شهر رمضان؟، ربما هناك من جهّز نفسه لمثل هذه الأنشطة الثقافية المفيدة، حيث لم الأمر جديدا على المجتمع الاسلامي والعربي العيش في مثل هذه الاجواء، في مصر مثلا هناك مناطق تبقى مستيقظة حتى الفجر، تمارس حياتها الثقافية والدينية بانشراح وتواصل، كما يحدث مثلا في منطقة (سيدنا الحسين) حيث تعج المنطقة بالتواشيح والابتهالات والاناشيد التي تريح النفس قبل السمع، وتزيد من تعميق الجانب الروحي للانسان على حساب المادي، وهناك نوع من الدبكات او التجمعات تنشد ما هو ديني او فلكلوري متعارف ومتوارث عن الاجداد، لكنه يفرض حضوره بقوة بين الناس الحاضرين ليزيدهم متعة ومعرفة، وسمو روحي من خلال التمسك ببعض التقاليد الجيدة، والهدف دائما هو نشر الوعي الثقافي بين أكبر عدد ممكن من الناس.
مجالس ثقافية رمضانية في الذاكرة
والشيء الجميل في هذا الخصوص، أن معظم الناس يكونوا اكثر استعدادا للتفاعل الثقافي في هذا الشهر المبارك، ففي كربلاء المقدسة مثلا، كانت توجد محافل وبيوتات ومجالس ثقافية ودينية وفكرية (ولا يزال بعضها موجودا)، تعقد في هذا الشهر بصورة يومية بعد الافطار، فمثلا لدينا ديوان آل كمونة، وهي عائلة معروفة في المدينة وليها ديوان او مركز لاستقبال الناس بعد صلاة العشاء، يتم ذلك في مركز المدينة وتكون هناك أنشطته ثقافية اجتماعية متميزة يستفيد منها الناس، في زيادة الوعي الثقافي والاجتماعي وحتى السياسي في بعض الأحيان.
ولا شك أن المؤسسات الدينية لها حضورها المهم في هذا الشهر الكريم، وغالبا ما تستعد مبكرا لفعاليات هذا الشهر المبارك، إذ توجد الحوزات العلمية والمؤسسات التابعة لها وما تقدمه من انشطة دينية ثقافية طيلة هذا الشهر المبارك، كذلك لدينا صالونات لشخصيات ترعى الثقافة، فتفتح ابوابها بعد صلاة المغرب واحيانا يحدث ذلك قبل الصلاة، فيما تنشط بعض المنظمات الثقافية في تقديم محاضرات قيمة، يتم التخطيط لهل قبل الدخول في شهر رمضان، وهذا دليل على وجود استعداد ثقافي لهذا الشهر المتميز.
ولكن من المفيد التذكير هنا، أن هذه الانشطة تفتقد للتنسيق والادارة شبه الموحدة، بالاضافة الى ذلك غياب الجهد الرسمي او ضعفه، بمعنى اننا في متابعتنا لانشطة المدينة الثقافية في شهر رمضان، نلاحظ انها لا تتناسب وقيمة هذا الشهر كفرصة ذهبية للتثقيف، مثلا ليس هناك نشاط مسرحي او فني ترعاه الحكومات المحلية، وحتى لو كان هناك نشاط فهو محدود ولا يؤدي الهدف المطلوب، ويكون في الغالب ذا طابع شكلي يخلو من الهدف الجوهري، أي ان الحكومة او الجهات الرسمية التي تقوم به تهدف الى الاستعراض اكثر من الهدف التثقيفي الحقيقي، وغالبا ما يكون هذا النشاط اشبه بإسقاط الفرض، في حين أن المطلوب هو سعي جاد نحو نشر وترسيخ تقاليد ثقافية تفيد المجتمع عموما، وتركّز على شريحة الشباب، كونها تمثل الشريحة الأكبر في المجتمع والأكثر تضررا من الظروف الراهنة في البلد.
لا شك أن الأمر يحتاج الى متابعة وسعي وتخطيط لكيفية التنفيذ، بعيدا عن التخصيص والحديث عن هذه المدينة او تلك، فإن المطلوب من الجميع، وأولهم الجهات الرسمية الثقافية، وضع جداول عمل وخطط تسبق هذا الشهر، أي يكون هناك تمهيد ثقافي مسبق، من لدن لجان او جهات لها خبرة في اقامة وادارة الانشطة الثقافية التي تضاعف من المعرفة والوعي لدى الجميع، لاسيما الطبقة الادنى وعيا وهم الناس البسطاء الذين لم تتوفر لهم فرصة التعليم او لم يحالفهم الحظ (لأي سبب كان) في الحصول على فرصة التعليم التي ينبغي أن تكون متاحة للجميع من دون استثناء، وكل هذه الخطوات يمكن تحقيقها، عندما يكون هناك استعداد وتمهيد ثقافي قبل حلول شهر رمضان المبارك ضمن جدول مخطط له مسبقا.
اضف تعليق