التضامن هو التفاعل الإيجابي بين جميع الأفراد في المجتمع المسلم، والعمل المشترك لتحقيق السعادة بضمان متطلبات الحياة الحرة الكريمة للجميع بلا أي تمييز ولأي سبب كان وان يسود المجتمع العدالة والأمن، فالدين الإسلامي في تعاليمه السمحاء تجاوز معنى التعاون وتقديم المساعدات وقت الحاجة بل انه يعد المسلم مكلفاً...
أرسى الدين الإسلامي الحنيف قيم ودعائم من شأنها ان تنتشل المجتمع من شتى أنواع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وبالخصوص تأكيد الشريعة السمحاء على قيم التضامن بين المؤمنين بما من شأنه ان يرسخ حالة من الإخاء والتعايش السلمي والحقيقة ان الإسلام تفرد بمنهج حقق تغييراً فريداً بالمجتمع.
وكانت نقطة الشروع في ذلك التأكيد على أواصر الأخوة والصلات الإنسانية القائمة على الرحمة والتسامح والتأكيد على المساواة المطلقة بين الجميع ونتج عما تقدم تحطيم للقيم الجاهلية البالية التي كانت تتغذى على التمييز والعنصرية والفردية القائمة على التفاخر بالأموال والأنساب والأولاد.
وسط هذا الواقع المؤلم انطلقت دعوة للتكافل والتضامن والمساواة فشكلت ثورة أخلاقية حقيقية ودعوة للعودة إلى النواميس الإنسانية ومصداق لما تقدم قول النبي الأكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) فالدعوة للإيثار والابتعاد عن مرض الحسد والتباغض من شأنها ان تنتشل الفرد من الكثير من الأمراض النفسية ويقول صلى الله عليه واله أيضاً ((لا تَحَاسَدُوا، ولَا تَنَاجَشُوا، ولَا تَبَاغَضُوا، ولَا تَدَابَرُوا، ولَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، ولَا يَخْذُلُهُ، ولَا يَحْقِرُهُ))، والحديث النبوي المتقدم يكرس الحالة الطبيعية بين المسلمين فهم أخوة متساويين لا فرق بينهم كأسنان المشط ما يؤسس لعلاقة أخلاقية قائمة الاحترام والتعاون والتعايش.
إذ يعرف التضامن بالتفاعل الإيجابي بين جميع الأفراد في المجتمع المسلم، وهو يعني أيضاً العمل المشترك لتحقيق السعادة بضمان متطلبات الحياة الحرة الكريمة للجميع بلا أي تمييز ولأي سبب كان والبوابة الطبيعية لما تقدم ان يسود المجتمع العدالة والأمن، فالدين الإسلامي في تعاليمه السمحاء تجاوز معنى التعاون وتقديم المساعدات وقت الحاجة بل انه يعد المسلم مكلفاً بخدمة عامة مقتضاها ان يكون أسوة حسنة في نفسه ومجتمعه، فالمسلمون كالجسد الواحد ولا غنى للمجتمع عن أي فرد من أفراده ويتحتم ان يدخل الجميع في ولاية المجتمع وما الحاكم إلا ممثل لهذه الولاية العامة وحارس على تحقيق مقاصدها حيث يقول تعالى ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))، فقيام الغني والقادر وصاحب الجاه وغيرهم بالبذل ليس منة منه بل ان ذلك من أخص الواجبات الاجتماعية إزاء الدين والمجتمع وان تقديم المساعدة يكون بلا مقابل.
فبالعودة إلى الحكمة الظاهرة من تشريع الزكاة أو الصدقات نجد ان الله تبارك وتعالى يبين لنا في القرآن إنها تزكية للنفس أولاً والسبيل الأمثل لتحقيق التضامن الاجتماعي ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))، ويؤكد الشارع المقدس على تلك الغاية على نحو الوجوب وليس فقط التخيير بقوله تعالى ((وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم ٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)).
وتأكيدا لهذا المعنى الإنساني النبيل يقول الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم ((ان الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) ويؤكد في مناسبة أخرى ان المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى))، فالإسلام يهدف إلى ترسيخ التكافل الاجتماعي كأساس لعلاقة الفرد بالفرد ولعلاقة الدولة الإسلامية بالفرد ولما تقدم يمكن مقاومة الآفات الاجتماعية التي تنخر جسد المجتمع كالفقر والبطالة والتفاوت الاجتماعي وما ينتج عنه من حسد أو تباغض أو تباعد.
ويمكن لنا ان نتتبع بعض مظاهر التضامن الاجتماعي في الإسلام من خلال الآتي:
أولاً: ان بناء الأسرة المسلمة قوامه التضامن الاجتماعي دليل ذلك قوله تعالى ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))، فالمودة والرحمة التي تتغياها السماء هي السبيل إلى بناء حياة أسرية قائمة على التضامن في السراء والضراء، ليس هذا فقط بل ان العلاقة بين الأبوين والأبناء مبنية على أساس التضامن قبل الوشائج الناتجة عن القربى إذ يقول تعالى ((وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)).
وكذا الأمر بالنسبة للأولاد فهم مأمورون ان يجعلوا التضامن الأسري أساساً لبلوغ طاعة ورضا الله عنهم ورداً لجميل أباءهم يقول تعالى ((وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) والحكمة ذاتها بالنسبة لبقية الأقرباء حيث يقول تعالى (( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)).
ثانياً: في إطار العلاقة بالآخرين يربينا الدين الإسلامي على الكثير من الممارسات والمفاهيم الإنسانية المستوحاة من التضامن الاجتماعي ومنها على سبيل المثال الحث احترام العلاقات الإنسانية الناشئة بين أفراد المجتمع وفي مقدمتها العلاقة بالجار حيث نجد القرآن الحكيم يأمر برعايته ويقول تعالى ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) كما أن رسول الله صل الله عليه وآله يكثر من الوصية بالجار حيث يروي بعض الصحابة حديثاً عن رسول الله يقول فيه ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجارِ حتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سيُوَرِّثُهُ)).
ويأمرنا النبي محمد كذلك بعيادة المريض لكي لا يشعر بأنه يقاسي الألم والمرض لوحده بل أن الآخرين يشعرون بما يمر به ويمدون له يد العون وهذا السلوك من شأنه ان يعزز عرى العلاقة الإنسانية بين أبناء الأسرة الواحدة والمجتمع الواحد، حيث روي عن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم قوله لأصحابه ((أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِي))، ولم ينفك النبي محمد وأهل البيت الكرام عن التأكيد على أهمية إغاثة الملهوف ((فعن أبي ذرٍ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ليس مِن نفسِ ابنِ آدَمَ إلَّا عليها صدقةٌ في كلِّ يومٍ طلَعَت فيه الشَّمسُ، قيل: يا رسولَ اللهِ ومِن أينَ لنا صدقةٌ نتصدَّقُ بها؟ فقال: إنَّ أبوابَ الخيرِ لكثيرةٌ: التَّسبيحُ والتَّحميدُ والتَّكبيرُ والتَّهليلُ والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عنِ المنكَرِ وتُميطُ الأذى عن الطَّريقِ وتُسمِعُ الأصَمَّ وتَهدي الأعمى وتدُلُّ المستدِلَّ على حاجتِه وتسعى بشدَّةِ ساقَيْكَ مع اللَّهفانِ المستغيثِ وتحمِلُ بشدَّةِ ذراعَيْكَ مع الضَّعيفِ فهذا كلُّه صدقةٌ منك على نفسِك))، وروي عنه صلى الله عليه واله وسلم في الحث على البذل والعطاء وإغاثة الملهوف أنه قال ((أيما أهل بقعة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله)).
ولقد ورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام قوله ((وأما حق السائل فاعطاؤه إذا تهيأت صدقة، وقدرت على سد حاجته، والدعاء له في ما نزل به، والمعاونة له على طلبته، وإن شككت في صدقه، وسبقت إليه التهمة، ولم تعزم على ذلك لم تأمن من أن يكون من كيد الشيطان أراد أن يصدك عن حظك ويحول بينك وبين التقرب إلى ربك، وتركته بستره، ورددته رداً جميلاً، وإن غلبت نفسك في أمره، وأعطيته على ما عرض في نفسك منه، فإن ذلك من عزم الأمور))، بل امتدت الرحمة في الإسلام إلى غير المسلمين ليشملوا بالتكافل الاجتماعي إذ يقول تعالى ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)).
ونعتقد ان الغاية من تشريع الصوم في شهر رمضان المبارك انه دعوة إلهية للجميع لاستذكار التضامن والشعور بالفقير والمحروم وترويض النفس إذ يقول تعالى ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ)).
اضف تعليق