لقد بات المنتج الثقافي سلعة تحتاج الى ترويج مثلما تحتاج الى صناعة، واذا كانت بعض الاجناس الفنية لم تكتمل بنيتها التحتية كالسينما، فان الأدب العراقي فيه من الاعمال المهمة التي تستحق الترويج لها وترجمتها وتقديمها للعالم .. فهل هناك من يسمع...
قبل اكثر من ثلاثين سنة، قرأت رواية روسية قصيرة بعنوان (المجنون).. على ما اتذكر، اقتنيتها من مكتبة (حسين الفلفلي) في سوق السراي وكانت بورق شبه متهرئ.. تتحدث عن ما حصل في روسيا اثناء الثورة البلشفية وبعدها، وبوجهة نظر مختلفة تماما عن رواية (الأم) الشهيرة لمكسيم غوركي التي قرأتها قبلها، ربما.. بعد ان التقيت اكثر من صديق اديب لم اجد احدا منهم سمع بهذه الرواية او قرأها، للعلم انها مطبوعة في العقود الأولى من القرن الماضي، بينما يعرف جميع الادباء رواية (الأم) لمكسيم غوركي و(الدكتور زيفاجو) لباسترناك، وان لم يقرأوهما جميعهم.
لقد اعطاني هذا فيما بعد درسا مفاده ان الأدب يمكن ان يكون جيدا ويحجب عن القراء او عن اكبر عدد منهم، وممكن ايضا ان يكون متواضعا ويروج له ليكون بمتناول اكبر عدد من القراء، أي ان الأمر يخضع لمسألة التسويق والترويج والهدف منه.
رواية (الأم) وقفت خلفها مؤسسات المنظومة الاشتراكية لأنها تنتصر للثورة البلشفية وتروج لأفكارها، وعملت على ترجمتها لتكون امام اغلب شعوب العالم وقراء الادب فيها، بينما كانت رواية (الدكتور زيفاجو) بالضد من الثورة.
لذا عملت مؤسسات المنظومة الراسمالية على الترويج لها او لخلاصة فكرتها، وهذه من مهمة الاعلام الذي يعمل على ايصال الخلاصة لأكبر عدد من الناس في العالم، وبذلك فهو يروج للرواية نفسها ويروج للفكرة التي يريد ايصالها مستثمرا مقولة الرواية، وهكذا يتكامل الأدب والثقافة بشكل عام مع الاعلام.
هذه اللعبة فهمتها جيدا مؤسسات حديثة ناشطة في منطقتنا، عندما ارادت ان تستثمر الأدب اعلاميا وتروج لطروحات بعض الاعمال لتوصلها للناس بمن فيهم غير قرّاء الأدب.. وبما ان العالم صار يستخدم ما يعرف بالقوة الناعمة في صراعاته، فإن الثقافة بمختلف اجناسها دخلت على خط هذه اللعبة وصارت الدول تعمل على توظيف مواد هذه القوة في صراعها او في تقديم نفسها والترويج لها في الخارج، فكل انجاز سواء كان ثقافيا او رياضيا يمكن توظيفه والاشتغال عليه.
نحن في العراق، وللأسف لم نعمل على هذه المسألة التي تقدم فيها العالم كثيرا علينا واقام مؤسسات كبيرة لذلك، وانما دمرنا حتى منفذ الترويج المحلي الوحيد المتمثل بالدار الوطنية للتوزيع والنشر التي تمت خصخصتها في تسعينيات الحصار ولم تعدها حكومات ما بعد 2003 لإنتفاء الاسباب المادية التي دفعت باتجاه ذلك القرار، ولم نقم مؤسسات ثقافية تروّج للمنتج الابداعي العراقي بأساليب مبتكرة.
فبينما تختلق الدول من حولنا مسميات لجوائز كبيرة في الثقافة تستدعي رموزها وتاريخها، واستقطبت من خلالها الاسماء الكبيرة عربيا ودوليا، مازلنا نحن بلا جائزة سنوية كبيرة تستوعب جميع الاجناس الابداعية، وتجعل الأنظار في الخارج تشخص باتجاه العراق لتعرف نتائج الجائزة، كما تشخص ابصارنا كل عام باتجاه جائزة العويس والشيخ زايد وكتارا والبوكر ونجيب محفوظ والطيب صالح وغيرها.
لقد بات المنتج الثقافي سلعة تحتاج الى ترويج مثلما تحتاج الى صناعة، واذا كانت بعض الاجناس الفنية لم تكتمل بنيتها التحتية كالسينما، فان الأدب العراقي فيه من الاعمال المهمة التي تستحق الترويج لها وترجمتها وتقديمها للعالم .. فهل هناك من يسمع؟!
اضف تعليق