العاقِلُ هو الذي يُحاجِجُ ويُناقِشُ ويُجادِلُ بما يفهَم فيهِ فلا يدخُل حِواراً أَو يكتُبَ مقالاً أَو يخطُبَ خِطاباً في أُمورٍ لا يفهم فيها. وأَكثرُ من هذا، فهوَ لا يغُوصُ في الجدالِ إِلَّا بمقدارِ فهمهِ ولا يقطعُ في أَمرٍ إِذا لم يتيقَّن منهُ (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا...
{هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
العاقِلُ هو الذي يُحاجِجُ ويُناقِشُ ويُجادِلُ بما يفهَم فيهِ فلا يدخُل حِواراً أَو يكتُبَ مقالاً أَو يخطُبَ خِطاباً في أُمورٍ لا يفهم فيها.
وأَكثرُ من هذا، فهوَ لا يغُوصُ في الجدالِ إِلَّا بمقدارِ فهمهِ ولا يقطعُ في أَمرٍ إِذا لم يتيقَّن منهُ {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}.
أَمَّا المجنُون فعلى العكسِ تماماً، يدسُّ أَنفهُ في كُلِّ موضوعٍ يجري النِّقاش فيهِ بحضُورهِ، أَفهِمَ فيهِ أَم جهِلهُ، تيقَّنَ من معلوماتهِ أَم في شكٍّ منها! فإِذا جرى الحديثُ في جلسةٍ رمضانيَّةٍ مثلاً عنِ الأَفلاكِ فهوَ عالِم الفلَك الذي لا يُشقُّ لهُ غُبارُ، وإِذا جرى الكلامُ عن الدِّين فهوَ الفقيهُ المُتبحِّر والمُحقِّق الإِستثنائي الذي لم تلِد مثلهُ حُرَّة، وإِذا كانَ الكلامُ عن المالِ والإِقتصاد فهو الخبيرُ المالي العالَمي الذي يفهَم في حركةِ العُمُلاتِ في العالَم بكُلِّ تفاصيلِها.
فلماذا يُورِّط البعض نفسهُ بالكلامِ في كُلِّ شيءٍ من دونِ معرفةٍ أَو إِختصاصٍ مثلاً؟!.
طبعا هناكَ عدَّة أَسباب أَغلبها نفسيَّة، فكثيرٌ من النَّاسِ يعتقد بأَنَّ سكوتهِ في مجلسٍ حامي الوَطيس بالنِّقاشِ والحِوارِ يُعدُّ منقصةً أَو مثلبةً يُلامُ عليها، ولذلكَ فهو يزجُّ نفسهُ وسط أَيَّ حوارٍ ليقولَ للحاضِرينَ بأَنَّهُ كذلكَ موجودٌ وبإِمكانهِ أَن يُدلي بدَلوهِ فلا ينبغي تجاهُلَهُ!.
هذا النُّموذج من النَّاس يرى نفسَهُ في لسانهِ حتَّى إِذا لم يُحسن شيئاً، ولذلكَ تراهُ يُناقض نفسَه ويُكذِّب حديثهُ بعضَهُ بعضاً، فهو في النَّهار يعترِفُ بفشلهِ وفي اللَّيلِ يفخر بنجاحهِ! وهو في أَوَّل الأُسبوع يقُولُ رأياً وفي نهايتهِ يقُولُ نقيضهُ! لأَنَّهُ لم يُدل برأيهِ عن علمٍ ومعرفةٍ وإِنَّما هو مجرَّد كلام يقولُ فيهِ بأَنَّهُ موجُودٌ فقط ولذلكَ ينسى في اللَّيلِ ما قالهُ بالنَّهارِ، فهو كثيرُ التَّناقض والكذِب والتلعثم.
يصِفُ القرآن الكريم هذا النُّموذج من النَّاسِ بالقَولِ {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
وتزدادُ أَعداد هذا النُّموذج من النَّاس في مجمُوعات وسائِل التَّواصل الإِجتماعي، لأَنَّهم يرَونَ أَنَّ سكوتهُم وعدَم مُشاركتهِم في الحِوارات والنِّقاشاتِ التي تجري فيها منقَصةٌ يلزمهُم سدَّها، فتراهُم يُورِّطُونَ أَنفسهُم بمُشاركاتٍ لا علاقة لها بالمَوضوع المطرُوح للنِّقاش، خاصَّةً إِذا كانَ اختصاصيَّاً لا يفهم فيهِ إِلَّا ذوُو الخِبرة والإِختصاصِ، فهو بدلاً من أَن يلزَم الصَّمت أَو يسأَل ليستفيد من الحِوارات العلميَّة المُتخصِّصة تراهُ يُورِّط نفسَه بمُشاركاتٍ لا معنى لها.
بعضهُم لأَنَّهُ لا يتحمَّل الحقائق التي قد يقرأَها في مجمُوعةٍ ما على وسائلِ التَّواصُل الإِجتماعي، لذلكَ تراهُ يُشوِّش على الفِكرة مُحاولاً إِلهاء المُتلقِّين بقضايا لا علاقةَ لها بالفِكرةِ، فمثلاً، بدلاً من أَن يُناقش الفِكرة يبدأ يُشكِّك بنوايا صاحبِها ويطعَن بشخصيَّتهِ ويُثيرُ أَسئلةً سخيفةً تافهةً لا علاقةَ لها بالموضُوعِ المطرُوحِ للنِّقاشِ.
إِنَّهم التَّافهُون الفارغُون الذين لا هُم قادرُونَ على النِّزالِ الفكري والثَّقافي ولا هُم قادرُونَ على استيعابِ الفكرةِ أَو المعلُومةِ والحقيقةِ، وشعارهُم كما يذكُر ذلكَ القرآن الكريم {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَو قولهُ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}.
هذا النُّموذج مريض نفسيّاً يعيشُ عُقدةَ النَّقصِ، أَنصحهُ بمُراجعةِ أَقربَ طبيبٍ نفسيٍّ لتلقِّي العِلاجَ قبلَ أَن تستفحِلَ حالتهُ!
أَمَّا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فيُوصي ولدهُ الحسَن المُجتبى السِّبط (ع) بقولهِ {وَدَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لَا تَعْرِفُ وَالْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلَالِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْأَهْوَالِ}.
إِذن؛ أَمران يتجنَّبهُما العاقل، الأَوَّل؛ هو الخَوض فيما لا يعرِف عنهُ شيئاً، فأَحسن لهُ أَن يتعلَّم مِن أَن يخوضَ أَهوالَ ما ليسَ لهُ فيهِ معرفةً {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}.
الثَّاني؛ عدَم التورُّط بالإِدلاءِ برأيٍ لم يُكلَّف فيهِ، لسَبَبَينِ؛ أ/ فرُبما أَنَّ الأَمرَ من خصوصيَّات الآخر فلِماذا يحشُر نفسهُ فيهِ؟! ب/ رُبما يدخُل ضِمنَ دائِرة [من تدخَّلَ فيما لا يعنيهِ سمَعَ ما لا يُرضيهِ] فالأَفضل أَن لا يزُجُّ المرءُ نفسَهُ بخطابٍ لم يُكلَّف فيهِ.
وهما أَمران بحاجةٍ إِلى أَن يستوعبَ المرءُ فِكرة أَنَّ قيمة المَرء ليست بالثَّرثرة وكثرةِ الكلامِ وبالإِدلاءِ بالرَّأي على عِلَّاتهِ، بمعنى آخر فإِنَّ قيمة المرء ليست في كميَّةِ ما يقُولُ وحجمِ كلامهِ وسِعةِ مُشاركاتهِ، وإِنَّما في نوعيَّة ما يُدلي بهِ مِن آراء ومُشاركات وفي مقدارِ حُسنهِ وبلائهِ، وفي ذلكَ يصفُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) أَخٌ لهُ بالقَولِ {وَكَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَنَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ}.
في مُقابل هذهِ الصُّورة نُصادِف يوميّاً نماذِجَ ثِرثارة من دُونِ فائدةٍ أَو نفعٍ للمُتلقِّي، فهذا النُّموذج همُّهُ أَن يملأَ فراغاً عندَ الحديثِ!.
اضف تعليق