وصفٌ عظيمٌ، بقولهِ عزَّ وجلَّ هِيَ فِتْنَةٌ فمثلِ هذا الإِنسان مفتُونٌ بالكِبرِ والجهلِ، فمثلهُ الذي ينقلبُ يوميَّاً على ثوابتهِ لا يكونُ مستقِرّاً في طريقةِ تفكيرهِ وعلاقتهِ مع الله تعالى ومعَ النَّاس، يُشرِّق ويُغرِّب عندما يُفسِّر الأُمور والظَّواهر، مُتردِّد في إِيمانهِ وعقائدهِ والتزاماتهِ، مُتكبِّرٌ في فهمهِ حتى على الله...
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هذا النَّوع من النَّاس لا تأخذهُ العزَّة بالإِثم، فبمُجرَّد أَن يعرِف الحَق ويُواجِه الصَّواب يعترِف بخطئهِ ويُذعِن للواقعِ الجديد.
فالرَّجل {مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ} وبعدَ كُلِّ هذا وعندَما {تَبَيَّنَ لَهُ} أَذعنَ للحقِّ ولم يتمرَّد فكانَ موقِفهُ أَن قالَ {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فالنَّاسُ على نوعَينِ؛ الأَوَّل يعلَم بعدَ جهلٍ، والثَّاني يجهلُ بعد علمٍ، الأَوَّل يُؤمِنُ بعدَ كُفرٍ والثَّاني يكفرُ بعدَ إِيمانٍ.
هي مُعادلةٌ غريبةٌ من النَّاحية النظريَّة لكنَّها حقيقةٌ نعيشُها ونلمسُها رُبما يوميّاً من النَّاحية العمليَّة والواقعيَّة.
وعادةً ما يكُونُ البلاء هو الحدِّ الفاصِل بينَ إِنقلابَينِ، فواحِدٌ يُمتحَنُ فينقلبَ بالسَّلبِ وآخرَ يُمتحنُ فينقلبَ بالإِيجابِ، ولذلكَ ندعُو {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
ولكُلِ نَوعٍ مصاديقَ وآثار تظهر في السُّلوكِ سواءً على مُستوى الإِنسان الفَرد أَو على مُستوى الإِنسان المُجتمع.
فمثلاً؛ فإِنَّ الإِنسان الذي يلجأ إِلى الله تعالى في ساعاتِ البلاءِ يدعُوهُ ويتضرَّع إِليهِ، يعرِف جيِّداً بأَنَّهُ تعالى هوَ مصدرُ كُلِّ شيءٍ، الرِّزق والشِّفاء والحَياة والمَوت {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} و {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} و {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فهذا الإِنسانُ مُدرِكٌ معرفةً وإِيماناً وهوَ أَمرٌ حسنٌ، لكنَّهُ عندما يتغيَّر حالهُ باستجابةِ الله تعالى لدُعائهِ وينقلِبُ على المفاهِيم التي اعتقدَ بها فدفَعتهُ للُّجوءِ إِلى اللهِ تعالى، فبدلاً من أَن يشكُرَ ربَّهُ الذي أَنعمَ عليهِ، إِذا بهِ يستعرِض عضلاتهِ وكأَنَّهُ هوَ مَصدر تغيير حالهِ، أَلا يُسمَّى هذا جهلاً بعدَ مَعرفةٍ وكُفراً بعدَ إِيمانٍ؟!.
يقولُ تعالى {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
حقّاً إِنَّهُ وصفٌ عظيمٌ، بقولهِ عزَّ وجلَّ {هِيَ فِتْنَةٌ} فمثلِ هذا الإِنسان مفتُونٌ بالكِبرِ والجهلِ في حقيقةِ الأَمر، فمثلهُ الذي ينقلبُ يوميَّاً على ثوابتهِ لا يكونُ مستقِرّاً في طريقةِ تفكيرهِ وعلاقتهِ مع الله تعالى ومعَ النَّاس، يُشرِّق ويُغرِّب عندما يُفسِّر الأُمور والظَّواهر، مُتردِّد في إِيمانهِ وعقائدهِ والتزاماتهِ، مُتكبِّرٌ في فهمهِ حتى على الله تعالى.
وصدقَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) الذي وصفَ ابنَ آدَم بقَولهِ {مَا لِابْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ وَآخِرُهُ جِيفَةٌ وَلَا يَرْزُقُ نَفْسَهُ وَلَا يَدْفَعُ حَتْفَهُ} وقولهُ {مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ مَكْتُومُ الْأَجَلِ مَكْنُونُ الْعِلَلِ مَحْفُوظُ الْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ وَتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ}.
هذا نموذجٌ على مُستوى الإِنسان الفرد، أَمَّا النُّموذج على مُستوى الإِنسان المُجتمع، فتعالُوا نقرأ قولَ الله تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}.
إِنَّهُ مُجتمعٌ يعيشُ حياة البُؤس، فيُقسِمُ على نفسهِ بأَنَّهُ سيُغيِّر ويتغيَّر إِذا بعثَ الله تعالى لهُ نذيراً يُعلِّمهُ ويهدِيه الطَّريق الصَّحيح، بل إِنَّهُ سيكونُ أَفضل من كثيرٍ من الأُمم والمُجتمعات التي كانَ يعيبُ عليها بأَنَّها لم تأخُذ بالنَّصيحة ولم تتعلَّم من التَّجرِبة ولم تهتدي بالنَّذير إِلى طريقِ الحياةِ الحُرَّةِ الكريمةِ، لأَنَّهُ سيكونُ مُختلفاً عنِ الباقينَ ومُتميِّزاً عن الآخرين، خاصَّةً إِذا كانَ النَّذيرُ هوَ الآخر مُتميِّزاً عن الآخرين، لأَنَّهُ سيُعلِّمهُم عقائِدَ مُتميِّزةً ومبادِئَ مُتميِّزةً ومنهَجاً ومدرسةً مُتميِّزةً!.
فماذا كانت النَّتيجة عندما جاءَهُم النَّذير بكُلِّ ذلكَ وأَكثر؟!.
إِذا بهِ مُجتمعٌ بائِسٌ يعيش النِّفاق والتَّناقُض بينَ ما يحملهُ مِن قِيَم ومبادِئ ونماذِج وتاريخ، وبينَ واقعهِ الفاسِد والفاشِل والمُتهتِّك!.
فهل يُمكِنُ أَن تعتمدَ على مثلِ هذا المُجتمع الذي لم يفِ بعهدهِ لنفسهِ ولم يبِر بقسمهِ من أَجلِ خدمةِ واقعهِ وانتشالهِ من البُؤسِ الذي كانَ يعيشهُ بسببِ أَمراضٍ شتَّى، فما بالُكَ بالإِيفاءِ بعهدهِ لله تعالى؟! الذي يرُد على هذا النُّموذَج بقولهِ عزَّ وجلَّ {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
قد يظُنُّ هذا النُّموذج من النَّاس والمُجتمعات بأَنَّهُ قادرٌ على أَن يخدعَ الله تعالى في كُلِّ مرَّةٍ عندما يتضرَّع فيُستجابُ لهُ ثُمَّ ينقلِبُ ويسرُق الإِنجاز وينسُبهُ لنفسهِ، ثمَّ يذهب بعيداً مرَّةً أُخرى عن جادَّةِ الصَّوابِ، أَبداً فـ {إِنَّ الله تعالى لا يُخدَعُ عَن جَنَّتِهِ} كما وردَ في الحديثِ النَّبويِّ الشَّريف، إِنَّما يخدعُ هؤُلاء أَنفُسهم ويضحكُونَ على ذقونهِم كما يُقالُ، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} وقولهُ {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} ويلزمهُم أَن ينتبهُوا لعمليَّة الإِستدراجِ التي يقعُونَ فيها إِذا كرَّرُوا العمليَّة، أَشعرُوا بالإِستدراجِ أَم لم يشعُرُوا!.
يقُولُ أميرُ المُؤمنينَ (ع) {كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَمَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ وَمَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ وَمَا ابْتَلَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَداً بِمِثْلِ الْإِمْلَاءِ لَهُ}.
اضف تعليق