يلزم على العبادِ أَن يوظِّفُوا الفُرصة الجديدة التي منحهُم الله تعالى برحمتهِ لتغييرِ حالهِم واستبدالِ كُلِّ ما هو سيِّء إِلى الأَفضل والأَحسن، وتغييرِ كُلِّ ما كانَ سبباً في صِناعةِ العهدِ المُظلم. لكنَّهم وبعدَ مُدَّةٍ من الحَماس للتَّغييرِ ينقلبونَ على حالهِم ويعُودُونَ إِلى ما كانُوا عليهِ من ظُلمِ بعضهِم...
{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
كم مرَّةٍ تتكرَّر هذهِ الصُّورة في حياتِنا كأَفرادٍ وكمُجتمعاتٍ؟!.
فعندما نُبتلى بظرُوفٍ سياسيَّةٍ وأَمنيَّةٍ واقتصاديَّةٍ قاسيَةٍ ترانا نترُكَ كُلَّ شيءٍ ونتفرَّغ للتضرُّع إِلى الله تعالى ليُنجينا مِن البَلاء ونعِدَهُ بأَنَّنا سنُغيِّر كُلَّ شيءٍ ونُبدِّل السيِّء مِن أَخلاقِنا وعلاقاتِنا وطريقةِ تفكيرِنا، وعندما يستجيبُ الله تعالى لنا فيقلِب الأُمور لصالحِنا وكما أَردنا وطلبنا منهُ ودعوناهُ وتوسَّلناهُ، نعودُ القَهقري لنفعلَ كُلَّ ما كُنَّا نفعلهُ وقتَ الشدَّة والبَلاء، ننقلِبُ حتَّى على وعدِنا لهُ تعالى {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}.
ثُمَّ نجلس نندُب حظَّنا ونتساءل؛ لِماذا يبتلينا الله تعالى يوميّاً بنفسِ البَلاء وأَكثر؟!.
يُجيبُنا القرآن الكريم {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} كيفَ ذلكَ يا ربَّ العالمِين؟!.
١/ لقد خلقَ الله تعالى الخَلق وجعلَ لكُلِّ شيءٍ حدُود ومَوازين ومعايير، وهيَ على مُستويَينِ؛ الأَوَّل ما يتعلَّق بالطَّبيعةِ والتي تُسمَّى بالقَوانينِ والنَّواميس والسُّنن الطبيعيَّة، وهي التي تُنظِّم حركة الأَفلاك مثلاً والماء واليابِسة والجِبال والوِديان والجاذبيَّة واللَّيل والنَّهار وغيرِها.
الثَّاني؛ هي التي تتعلَّق بالإِنسان الفَرد والإِنسان المُجتمع، والتي تُسمَّى بالسُّنن والقَوانين الإِجتماعيَّة التي تُنظِّم كُلَّ ما يتعلَّق بحياةِ الإِنسان والمُجتمع.
فعندما يُغيِّر الله تعالى حالَ مُجتمعٍ من المُجتمعاتِ نحو الأَفضل والأَحسن فيرفعَ عنهُ الظُّلم والحَيف والإِستبداد والتجبَّر، فذلكَ برحمةٍ منهُ بعبادهِ الذين تجاوزُوا السُّنن الإِجتماعيَّة فتسبَّبُوا بظُلمِ أَنفسهِم وتمكينِ الظَّالمينَ للتَّسلُّطِ عليهِم {وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
هُنا يلزم على العبادِ أَن يوظِّفُوا الفُرصة الجديدة التي منحهُم الله تعالى برحمتهِ لتغييرِ حالهِم واستبدالِ كُلِّ ما هو سيِّء إِلى الأَفضل والأَحسن، وتغييرِ كُلِّ ما كانَ سبباً في صِناعةِ العهدِ المُظلم.
لكنَّهم وبعدَ مُدَّةٍ من الحَماس للتَّغييرِ ينقلبونَ على حالهِم ويعُودُونَ إِلى ما كانُوا عليهِ من ظُلمِ بعضهِم للبعضِ الآخر! فيبدِّلُونَ النِّعمةَ بجرائمهِم وليسَ عن طريقِ الصِّدفة {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
فمَن يكونُ الظَّالِم هُنا؟! الله تعالى أَم العَبد؟!.
بالتَّأكيد هو العَبدُ الذي لم يتعلَّم الدَّرس وينسى كيفَ كانَ يعيشُ الظُّلم والقَهر وينسى أَنَّهُ وعدَ الله تعالى بأَنَّهُ سيَتغيَّر إِذا ما رفعَ عنهُ الظُّلم، لكنَّهُ عادَ إِلى عاداتهِ السَّابقة.
وإِنَّ أَوَّل ظواهِر الإِنقلاب هذا هيَ إِنتشار ظاهِرة النِّفاق في المُجتمع والَّتي تتجلَّى بحالاتِ الإِنقلابِ المُتسارِعة والمُتناقِضة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} لماذا؟! بسببِ خَلفِ الوعْد والكَذِب، يقولُ تعالى {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
يجب أَن نطمِئن ونتيقَّن بأَنَّ الله تعالى لا يظِلم مُجتمعاً إِذا كانَ مُصلحاً {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
٢/ نحنُ بإِزاءِ نمُوذَجَينِ؛ الأَوَّل الذي يعِدُ ولا يفي ويُقسِمُ ولا يبِر كما في الصُّور القُرآنيَّة التَّاليةِ {فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} و {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} و {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ۚ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} و {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
هذا هو النُّموذج الأَوَّل؛ لا يثبُت على كلامٍ ولا يلتزِم بوعدٍ، وهو المُصابُ بالنِّفاقِ مِن حيثُ يشعُر أَو لا يشعُر.
الثَّاني هوَ الذي عندما ينعَم عليهِ ربَّهُ ويلمِس أَثر النِّعمة يشكُرها وإِنَّ أَوَّل مظاهِر الشُّكر هوَ الإِلتزام بالحُدُودِ، ولعلَّ في قصَّة يوسُف (ع) أَروع نمُوذج لهذا النَّوع من النَّاسِ، يقُولُ تعالى يسردُ قصَّة النُّموذج {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.
هو لم ينسَ ما أَنعمَ عليهِ ربَّهُ من النِّعَم العظيمة، عندما أَنقذهُ من القتلِ وأَخرجهُ من البِئرِ ومكَّنهُ ليعيشَ في بيتِ العزيزِ وغيرها الكثير، فلمَّا أَن مرَّ بامتحانٍ لم ينسَ كُلَّ ذلكَ بل تذكَّرها فضبطَ بها سلوكهُ.
ولأَنَّهُ وفى بعهدهِ وفى اللهُ بعهدهِ لهُ {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
وبذلكَ تشكَّلت المُعادَلَة الإِلهيَّة؛ أَنتَ تتغيَّر أَو على الأَقل تسعى لتتغيَّر فاللهُ يُغيِّرُ وأَكثر {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
وهكذا {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}.
واحذر؛ فعِندما تتغيَّر من حسنٍ إِلى سيِّء فلا تظنُّ أَنَّ الأُمورَ تبقى مُتَّسِقةً لكَ أَبداً {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
واحذر كذلكَ أَن تنسى فالله تعالى لا ينسى ولا يغفَل و {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ} وهو القائِلُ {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} و {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
اضف تعليق