{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}.
فالاستكبارُ والاستعلاءُ سببه المفاضلة والمفاخرة بمعايير غير سليمة، كما انّ التمييز على أساس مثل هذه المعايير ينتهي كذلك الى الاستكبار والاستعلاء، ولذلك نهى الله تعالى عن المفاخرة بمعايير الجاهلية حتى بين المؤمنين انفسهم، فقال تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
وفي قصّة ابليس مع ابينا آدم عليه السلام، فانّه رفض الانصياع لأمر الله عز وجل بالسجود له، لانه وظّف معايير غير صحيحة عندما فاضل نفسه معه عليه السلام، ولذلك استكبر ورفض السجود.
ولو تتبّعنا كلّ اسباب قصص الاستكبار التي تعيشها البشرية على مرّ التاريخ والى يومنا هذا، لاكتشفنا هذه الحقيقة، وهي انّ جذرَ المرض وعلّة الحالة هو انّ المستكبر يُفاضل نفسه مع الاخرين بمعايير خطأ، وهي التي تدخل تحت عنوان (خَلْق) الله تعالى، فكلّ معيارٍ يعتمد (الخَلق) كالعنصر واللون والجنس والهيئة، انّما هو معيار شوفيني ارهابي، لانّ الانسان لا يمتلك تحديد كلّ ذلك لنفسه ابداً، وانما هي إرادة الله تعالى، فكيف يتفاضل الانسان مع أخيه الانسان بمعيارٍ ليس لأيٍّ منهما دخل او إرادة في تحديده؟!.
ولو مررنا على كلّ قصص المفاضلة في القرآن الكريم، لوجدناها كلّها تعتمد على القيم والمعايير المكتسبة، مثل الصّدق والانجاز والخبرة والعلم، وهي المتاحة لكلّ الناس، والا فانّ ايّة مفاضلة على أساس معايير (الخلق) ستكون مفاضلة ظالمة ومخالفة لحكمة الله تعالى.
فمن آيات المفاضلة مثلاً؛
{لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
لذلك، فانا شخصياً ارى انّ كلّ الحركات القومية هي حركات عنصريّة شوفينيّة، لانّ معيارها {خَلَقْتَنِي} فهي اذن افضل من غيرها!.
انّها ترتكب نفس الخطأ والجريمة التي ارتكبها ابليس مع ابينا آدم (ع) فهي تتفاضل مع الاخرين على أساس العنصر وهذا خطأ كبير من المفترض ان نكون قد تجاوزناه بعد كلّ هذه التجارب السيّئة والنتائج البائسة للحركات العنصرية الشوفينيّة في العالم خاصّة في عالمِنا العربي.
نحن في العراق مثلاً، لا ينبغي ان يكون معيار التفاضل (خَلَقْتَنِي) فذلك ليس لاحدٍ منّا دخل او إرادة في تحديد نوعها، وانّما يجب ان يكون التفاضل بين الموطنين على أساس المعايير التي نمتلك ناصيتها ولنا القدرة على التنافس عليها والاكتساب منها، كالعلم والمعرفة والخبرة والتجربة والحكمة والتميز والنجاح والانجاز والصدق والامانة وغير ذلك من المعايير التي هي في متناول كلّ انسانٍ اذا ما قرّر ان يكتسبها، اما اللون والجنس والإثنية والمناطقية والعشائرية، فان كلّ هذه المعايير غير مكتسبة فكيف يمكن ان يتنافس عليها الناس؟ وكيف يمكن ان يَزيدَ منها شيئاً احدٌ؟!.
انّ التفاضل على أساس المعايير المكتسبة سواء في مؤسسات الدولة او في العمل الحزبي والانتماء الحركي، سيغيّر الكثير من حال البلاد نحو الأفضل، لانها معايير حقيقية قابلة للتنافس فيما بين المواطنين، اما اذا ظلّت معايير التنافس تخضع للولاءات الشخصية والحزبية والعشائرية، فإننا مقبِلون على ايّامٍ اكثرُ قتامةٍ، لأنّنا سنظل نفشل في تحقيق مبدأ العقلاء الذي يقول (الرجل المناسب في المكان المناسب) لان هذا المبدأ لا يتحقّق بمعايير المفاضلة الخطأ ابداً، وانّما يتحقّق بالمعايير المكتسبة التي يتنافس عليها الناس بالتّساوي والتي يمكن تغييرها مع حاجات الزمان والمكان والموقع، وهي متاحة للجميع اذا ما قرر اي واحدٍ ان يكتسبها ويتنافس عليها مع الاخرين.
حتى معايير التديّن والمذهبيّة، تضرّ في هذه الحالة، فلقد ثبَت بالدّليل القاطع ان (المتديّن) الذي لا يمتلك من معايير النجاح شيئاً كالتخصّص مثلاً والعلم والخبرة والتجربة والنجاحات، لا ينفع في تحقيق شيء ابداً، كما ثبَت بالدّليل القاطع ان (المتديّن) الذي يحرص على الحلال والحرام في بعده الشخصي ولا يُعير اهميّة تُذكر لبعدها الاجتماعي، فيحرص مثلاً على وضوئه ليكون دقيقاً جداً او يحذر قطرة البول تمسّ لباسهُ فتبطُل صلاتُه، ولكنه لا يعير اهتمامًا يُذكر للمال العام ولحقوق الناس وللفساد المالي والاداري الذي يشرعنهُ بآية مشابهة او رواية، انّ هذا النّموذج من (المتديّنين) هو الاخر لا ينفع كثيراً ولا ينجز شيئاً ينفع الناس والمجتمع ابداً.
امّا على صعيد الهويّة، فلقد مّر العراق بتجربةٍ طويلةٍ مع مختلف التيّارات السّياسية، لتثبت له هذه التجربة في نهاية المطاف ان كلّ المعايير لا يمكن ان تكون حلاً لمشاكلهِ، الا معيار الهوية الوطنيّة التي ضعُفت بشكلٍ كبيرٍ جرّاء سياسات التمييز الاثنيّة العنصريّة والمذهبيّة الطائفيّة، ولقد حان الوقت ليختار العراقيون الهوية الوطنية كمعيارٍ وعنوانٍ شامل يستوعب كلّ العناوين الاخرى.
ان ما يُؤسف له حقاً ان معيار العراقيين يتقلّص شيئاً فشيئاً ويضيق، فهم يختزلون الهوية الى أضيق عناوينها، حتى باتت تنحصر في المحلّة والعشيرة والاسرة والحزبيّة الضّيّقة التي تعتمد الولاء للزعيم فقط، الامر الذي يُثير المزيد من المشاكل يوماً بعد اخر.
انّ مَن يظنّ انّ العراق، كدولةٍ، مهدّد بالانهيار، يجب عليه ان يقرّ بانّ السبب في ذلك هو السياسات العنصرية القومجية الشوفينية والتمييز الطائفي الذي تكرّس اكثر فاكثر منذ سيطرة التيّار القومجي الطائفي على العراق ولحدِّ الان، هذه السياسات البادية للان بالثقافة والاعلام والخطاب الديني والمذهبي والسياسي، وللاسف الشديد، ومن الطبيعي، فعندما لا يجدُ المواطن هويّتهُ في ثنايا ومفاهيم كلّ هذا الخطاب، فانّه سيبحث عن هويّتهِ بطريقةٍ اخرى من التفكير ليجده اخيراً في الاصطفافات غير الوطنيّة، ولعلّ من ابرزها اليوم وأوضحها الولاءات الشخصيّة والحزبيّة! فيما يجدها بعضهم بجماعات العنف والارهاب التي نجحت، وبامتياز، في توظيف حالة انعدام الهويّة عند العراقييّن لتجنيدهم في صفوفها!.
اضف تعليق