إن امتداد آثار شهر رمضان المبارك، وسحب ظلاله الى سائر ايام السنة يعني استعداد المجتمع لتغيير حقيقي في الحالة الايمانية والعبادية، وإنما في الحالة الاجتماعية، بل وحتى السياسية، فالمجتمع القادر على تغيير نفسه وتحسين أخلاقه وسلوكه، لقادرٌ على تغيير أعتى وأقوى الحكومات والانظمة السياسية، والعكس بالعكس...
عبارات نقرأها من خطبة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في استقبال شهر رمضان، هي واضحة وجميلة في معانيها، وعميقة في دلالاتها: "شهرٌ دُعيتم فيه الى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله".
فأن تكون مُكرماً عند شخصية كبيرة ترجوه في توفير فرصة عمل، او الحصول على منحة او قرض لبناء دار، او تغطية تكاليف تعليم أحد ابنائك، او لعلاج مريض، او لأمر الزواج، فهذه تعد فرصة ذهبية لتحقيق الامنيات، وباب لحل مشاكل عويصة، فما بالنا والقضية تتجاوز المشكلة الفردية والآنية، الى مشكلة تخصّ حياة الانسان طوال حياته، والى ما بعد مماته، وتتعلق ايضاً بالعلاقات بين افراد المجتمع والامة.
انقضاء أيام شهر رمضان المبارك يدفعنا للتساؤل عما حصلنا عليه من الضيافة السماوية التي لا تحل مشكلة واحدة، بل منظومة المشاكل في حياة الفرد والمجتمع، وليس هذا وحسب، ولذا نجد الرسول الأكرم يضمّن خطبته وصايا تتعلق بالأخلاق والتربية الى جانب وصاياه العبادية، فهو يؤشر بقوة الى الوضع الاقتصادي في الامة، كما يؤشر الى الوضع الاجتماعي وما يجب ان يكون.
وعندما يتحدث، صلى الله عليه وآله، عن التصدّق على الفقراء والمساكين، وصلة الارحام، وحفظ اللسان، والتحنن على الايتام، وحُسن الخُلق، فهل يقصد العمل بكل هذا خلال ثلاثين يوماً فقط؟ وماذا عن سائر أيام السنة؟
بصمات في القلب والنفس
يقول العلماء إن أفضل طريقة لمعرفة قبول التوبة الى الله –تعالى- التحقق من عدم حنين النفس الى ذلك الذنب الذي تُبت منه، فاذا انقطع الحنين والعلاقة، فهذا دليل الفلاح، و إلا فان التوبة والاستغفار لن تكون سوى لقلقة لسان.
وبعد انقضاء شهر رمضان يجدر بنا التحقق من تأثير الصيام على اخلاقنا وسلوكنا وطريقة تفكيرنا من خلال اجراءات عديدة منها:
1. الحفاظ على نقاوة القلب والنفس بالبقاء في الاجواء النقية والطاهرة، فاذا كانت الاجواء الرمضانية مفعمة بالمحافل القرآنية، والدعاء، ومجالس الوعظ والتوعية والتثقيف، فلنبحث عن هذه الاجواء في قادم الأيام، فهي التي تضمن لنا مكاسبنا من هذا الشهر الفضيل، وتجعلنا نطبق وصايا النبي الأكرم في الارحام والصغار والفقراء والمساكين.
2. عدم وضع القرآن الكريم جانباً بعد الانتهاء من تلاوة اجزائه الثلاثين مع كل يوم من ايام شهر رمضان، صحيح؛ أن "شهر رمضان ربيع القرآن"، كما جاء في الحديث الشريف، بيد أن الصحيح ايضاً أن تلاوة القرآن في هذا الشهر يفتح آفاقاً واسعة نحو بصائر ورؤى لحياة أفضل في قادم الايام.
إن قراءة آيات من الذكر الحكيم صباح كل يوم من شأنه ان يرفع صاحبه مما فيه من ازمات، ويكشف له افكاراً لم يتوقعها تدخل في صميم عمله، وفي علاقاته الاجتماعية، وفي جميع شؤون حياته، فهو نور وتبيان لكل شيء، يكفي التلاوة المتأنية مع التدبّر في الآيات ودلالاتها ومعانيها، وبالامكان الاستعانة بالتفاسير والمصادر الموجودة على محركات البحث على الانترنت.
3. المدوامة على أعمال الخير والبرّ التي أوصانا بها رسول الله، وأن لا يقتصر الأمر على أيام شهر رمضان المبارك، مثل مساعدة الفقراء، والتحنن على الايتام، وصلة الارحام وغيرها من الفضائل التي تبعث نسمات باردة على حياة من ينحني على فقير او يمد يد العون الى المؤسسات الخيرية، او يبادر الى صلة الرحم مهما تعقدت العلاقات.
لا للطقسنة
من الملاحظ في بعض البلاد الاسلامية، ومن اجل إضفاء نوع من البهجة والسرور، وايضاً التميّز بين سائر الشهور، يتخذون من ليالي وأيام هذا الشهر الفضيل مناسبة لنشر مظاهر خاصة مثل الفوانيس، والنشرات الضوئية الملونة، او الضرب على الطبل (المسحراتي)، وغيرها من العادات والتقاليد الاجتماعية، وكذا الحال في الاجواء الدينية، حيث تبادر الهيئات والحسينيات بإقامة محافل القرآن الكريم، والمحاضرات الثقافية على مدى ليالي الشهر الفضيل، الى جانب مشاريع العطاء والبذل تحت عنوان "السلّة الرمضانية"، كل ذلك حسنٌ ومما يبعث على الايجابية، ويرفع المعنويات في نفوس افراد المجتمع صغاراً وكباراً.
إنما المهم ايضاً أن لا تنحصر هذه الاعمال في إطار "طقسي" في هذا الشهر الفضيل، وإنما نبحث له تطبيقات عملية في شهر شوال المكرم، و شهر ذي القعدة، وما بعده من الشهور، فالحياة لا تتوقف، و اليتيم والفقير والشيخ الكبير والوالدين الطاعنين في السن، كل أولئك ينتظرون التفاتة حنان ومسؤولية طيلة أيام السنة، لاسيما في أيام المحن والشدائد، مثل أيام الحر القائض، او الشتاء القارص، الى جانب ما تخبئة الاقدار من رزايا ومحن.
إن امتداد آثار شهر رمضان المبارك، وسحب ظلاله الى سائر ايام السنة يعني استعداد المجتمع لتغيير حقيقي في الحالة الايمانية والعبادية، وإنما في الحالة الاجتماعية، بل وحتى السياسية، فالمجتمع القادر على تغيير نفسه وتحسين أخلاقه وسلوكه، لقادرٌ على تغيير أعتى وأقوى الحكومات والانظمة السياسية، والعكس بالعكس، بل انها لن تكون قادرة على تخويف أضعف الحكومات والانظمة التي تتأثر بقرارات ومواقف الدول الاخرى.
اضف تعليق