{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
والنَّاس على نوعين؛
الاوّل؛ هم الذين يبادرون للتّوبة من تلقاء انفسهم، يعترفون بالخطأ اذا وقعوا فيه، ويرتّبون اثراً على الفشل اذا مرّوا به.
الثّاني؛ هم الذين لا يبادرون من تلقاء أنفسهم للاعتراف بالخطأ والفشل، الا اذا أُجبِروا على ذلك، بطريقة من الطرق، ولو كان الامر بيدهم لظلّوا يبرّرون ويتفلسفون ويرمون بفشلهم على عاتق غيرهم حتى اللّحظة الاخيرة، اي ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً.
النوع الاول هو الذي يتعامل بمسؤولية مع الحقوق والواجبات، وهو الذي يحترم عقول الناس وثقتهم، وهو الذي لا يرى العيب في الخطأ وانما يراه في الاصرار على تكرار الفشل، وهو الذي يحرص على الجهد والثمن والزمن ويهتم لتراكم الخبرة والتجربة فيكره البدء في كل مرّة من نقطة الصفر.
انّهُ لا يتعامل مع الموقع كمختبر تجارب لإثبات الذات، ابداً.
ولكل ذلك، تراه يتعامل بروح رياضية وبكل أريحيّة وشفافية ومسؤولية مع الفشل، فيعترف به اولاً ويوضّح اسبابه ثانياً ويسعى لإصلاحه ثالثاً، تارة بنفسه واُخرى بالانسحاب ليفسح المجال للآخرين لإصلاحه.
اما النوع الثاني، فعكسهُ بالكامل، وشعاره [النار ولا العار] فهو على أتمّ الاستعداد للخلود في النار يوم القيامة على ان يعيّره احدٌ، او حتى أحد احفاده، بانّهُ اعترف يوماً بخطأ او فشل او جريمة او ذنب مهما كان تافهاً او بسيطاً، لانه يعتقد ان الاعتراف يمرّغ انفهُ بالوحل ولم يبق له قيمة في المجتمع! فهو عارٌ ما بعده عار!.
الغريب في الامر، ان النوع الاول تجده كثيراً في بلاد الغرب والتي يسمونها بالدول الكافرة! فالاعتراف بالخطأ والفشل هو ابسط الأشياء التي يبادر لها المسؤول والذي يرتب عليه اثرا بالحال وبكل شجاعة، بالاستقالة مثلاً او الوقوف امام القضاء، اما النوع الثاني فلا تجده الا في عالمنا (المتديّن) الذي يصدح فيه صوت الاذان والقرآن والخطيب والواعظ ليل نهار!.
ولا اقصد في ذلك على الصعيد السياسي فحسب، ابداً، وانما على كل الاصعدة وفي كل المستويات، في الاسرة وفي مكان العمل وفي المدرسة وفي الشارع وفي السوق وفي كلّ مكان، فالاعتراف بالخطأ والاعتذار منه وتبيينه وإصلاحه ثقافة عامة في المجتمع الناجح، والعكس هو الصحيح، فالتشبّث بالخطأ او التستّر عليه وتبرير الفشل، هو الاخر ثقافة المجتمع الفاشل.
ان القران الكريم يحثّ على المبادرة للاعتراف بالخطأ والتقصير والفشل، خاصة اذا كان الامر يتعلّق بحقوق الناس وبالشأن العام، فقال تعالى؛
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
{وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}.
ومع ذلك تبقى طبيعة الانسان انّه يرمي بفشله وخطئه على الاخرين في محاولات متكرّرة منه للهرب من المسؤولية، وهذا ما نراه اليوم في العراق، مثلاً، فعلى الرغم من كل الإخفاقات والفشل الذي اصاب البلاد منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣ ولحدِّ الان، الا اننا لم نسمع من اي سياسي او مسؤول اعترافاً بتقصير او فشل او اخفاق ابداً، كلّ يرمي بالمسؤولية على الاخرين، وفي نهاية المطاف سنكتشف انني، انا العبد الفقير الى الله، المسؤول الحقيقي عن كلّ شيء، فانا المسؤول عن تضييع ثلث العراق وتسليمه للإرهابيين، وانا المسؤول عن هدر المال العام، وانا المسؤول عن كلّ هذا الفساد المالي والاداري المرعب الذي ينخر بكلّ مفاصل الدولة، وانا المسؤول عن الفشل في حل مشكلة الكهرباء والسكن والتعليم والصحة وكل شيء!!!.
لقد ثبت لنا بالقطع واليقين ان المسؤول عندنا غير مستعدّ للاعتراف بأيّ خطأ حتى لو احترقت البلاد ومَن عليها، انه سوف لن يبادر للاعتراف باي خطا وسوف لن يبادر بتحمّل مسؤولية اي فشل مهما كان نوعه، لان المسؤول عندنا تسنّم موقع المسؤولية بالمحاصصة فهو محمي بها ولذلك فهو غير مضطرّ للاعتراف بخطأ او فشل او اي شيء، فضلا عن انه فاقد لأي وازع يمكن ان يحرّض النّفس اللّوامة مثلاً للاعتراف بالخطأ والفشل، كالوازع الوطني او الديني او الاخلاقي او حتى الحزبي فضلاً عن الغيرة وما أشبه، فالمسؤول عندنا لا يمتلك من كلّ هذا مقدار نقير والحمد لله، ولذلك فانّ من ينتظر من المسؤول، اي مسؤول، ان يطلّ علينا يوماً من الشاشة الصغيرة لنسمع منه اعترافا بخطأ او يتحمل مسؤولية ما ثم يرتب عليها اثراً او يعتذر ما الشعب بسبب فشل، فهو واهم فطريقة تفكيره هذه {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}.
فما الحل اذن؟!.
برأيي، فان على المجتمع ان يتعامل مع الساسة بالطريقة الثانية، وهي ان يجبرهم على الاعتراف بالخطأ وتحمّل مسؤولية الفشل.
عليه ان يقاطع كل من تأخذه منهم العزة بالإثم ويرفض الاعتراف بالفشل، فلا يسمع منه ولا يصدّق بما يقول.
وعليه ان يعاقبهُ في اقرب انتخابات نيابية، فإلى متى يظلّ الناخب عندنا يعيش ازدواج الشخصية، تراه يتهجّم على المسؤول طوال العام، فاذا حان موعد الانتخابات جدّد له الثقة ومنحه صوته!.
كذلك، ليس من المعقول ان يظلّ المواطن يحمّل السياسيين كامل المسؤولية عمّا يمرّ به البلد، ولكن عندما يجري الحديث عن التشخيص وتحديد المسؤوليات ترى كلّ واحدٍ من المواطنين يبرّر لمعبوده من الزعماء والقادة، وكأنّ سبب الفشل كائنات نزلت من السماء واستوطنت العراق! او ان سبب كل هذا الفساد المالي والاداري والهدر الكبير والواسع بالمال العام هم الجنّ!.
الى متى يظل المواطن يصفّق للسياسي، على الرغم من قناعته المطلقة بفشله؟!.
لن يجبر المواطن السياسي على الاعتراف بفشله الا اذا تعامل معه بقسوة بالمقاطعة تارة والتعنيف اخرى وفضحه ثالثة، وهنا يبرز تحديداً دور المثقفين والاعلاميين، الذين تقع عليهم مسؤولية تسمية الأشياء بأسمائها، اذ تكفي المجاملة التي لازال لها الدور الاخطر في دحرجة البلاد صوب الانهيار.
انّ الاعلام قادر على اجبار المسؤول للاعتراف بالحقيقة والخضوع للحق اذا كان حراً لا يجامل على حساب المصلحة العليا للبلاد، والا فهو شريك أساس في الفشل، وهذا هو الفرق بين الاعلام الوطني القادر على تغيير المعادلات لصالح البلاد من خلال ممارسة الشدّة ضد المسؤول وضد كل من يتصدى للشأن العام، كما هو الحال في بلاد الغرب، وبين الاعلام الحزبي والمأجور والتجاري الذي يطبّل للمسؤول ويصفق للزعيم الأوحد ويبرّر للفاشل ويكون بوقاً بيد القائد الضرورة الذي يبذل اليوم كل جهده من اجل العودة الى السلطة وكأنّ شيئاً لم يكن، خادعاً السذّج ومدعوماً بشعارات تافهة ما قتلت ذبابة طوال سنيّ حكمه كلها.
فالإعلام الوطني المسؤول لا يسعى لإعادة عقارب الزمن الى الوراء، حتى اذا غيّر القائد الضرورة مركوبهُ وبدّل شعاراته، وقديماً قال الشاعر:
اضف تعليق