للصوم نوافل تزيد في قوته وآثاره، فبينما يكون نصيب الصائم، الذي يلتزم بكف نفسه عن المفطرات العشر، مجرد إسقاط الواجب، إنقاذ رقبته من النّار، يكون نصيب الصائم الآخر، الذي يلتزم بجميع نوافل الصوم، إنّه يدخل شهر رمضان شديد الفقر، فيخرج منه غنياً بالمكارم والملكات النبيلة.
ومن هذه النوافل:
1: صوم الجوارح
بأنْ يشترك ـ مع البطن والفرج ـ في الصيام، كل من اللسان، والعين، واليد، والرجل، والأُذن وغيرها من الأعضاء، فلا يقترف إثماً ولا يرتكب خطيئة.
فعن محمد بن مسلم، عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام):
(إذا صمت، فليصم سمعك، وبصرك، من الحرام والقبيح، ودع المراء، وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصائم، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك).
وعن جابر بن يزيد الجعفي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال:
(يا جابر، هذا شهر رمضان، من صام نهاره، قام ورداً من ليله، وعف بطنه وفرجه، وكفَّ لسانه، خرج من الذنوب، كخروجه من الشهر).
عن جراح المدايني، عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام):
(إنَّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، قالت مريم: ((إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً)) أي: صمنا، فإذا صمتم احفظوا ألسنتكم، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال:
(الصوم جُنّةٌ من آفات الدنيا، وحجاب من عذاب الآخرة، فإذا صمت فانو بصومك كفَّ النفس عن الشهوات، وقطع الهمة عن خطوات الشياطين، وأنزل نفسك منزلة الرضى، ولا تشقه طعاماً ولا شراباً، وتوقع في كل لحظة، شفاؤك من مرض الذنوب، وطهّر باطنك من كل كدر، وغفلة، وظلمة، يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله).
2: كتمان الصوم
ويستحب للصائم، كتمان صومه، بأن لا يتجاهر به ـ وخاصة في غير أيام شهر رمضان، حيث لا يكون من المتوقع أن يكون صائماً ـ زيادة في الإخلاص. والزهد في التظاهر أمام النّاس).
روى السكوني: عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال:
(من كتم صومه، قال الله تعالى: (عبدي، استجار من عذابي، فأجيروه)، ووكلّ الله تعالى، ملائكته بالدعاء للصائمين، ولم يأمرهم بالدعاء لأحد، إلاّ استجاب لهم فيه).
لا يعني هذا أنْ يُنكر الصائم صومه، بل يعني أنْ لا يعلنه وكأنه يريد به التبجح والاستعلاء، واستدرار عطف النّاس أو ثوابهم، وأما إذا كان يريد المغالاة في الإخلاص، فينكر صومه في شهر رمضان أو غيره، فهو حرام، فهذا كذب، وربما هتك حرمة رمضان، وتجرأ النّاس على المعصية، كما ورد إنَّ زرارة قال للإمام الصادق (عليه السلام): الرجل يكون صائماً، فيقال له: أصائم أنت، فيقول: لا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (هذا كذب).
3: مزيداً من الراحة
إنّ كثيراً من الأمراض، وعديداً من الوفيات، وموت الفجئة، ناتج من التعب، لأنّ الأعصاب لا تتحمل إلا مقدراً من الدؤوب المتواصل على الأعمال، فإذا أسرف المرء في إرهاق نفسه، فقد استهلك من صيده أكثر مما انتج، وكما يحتاج الإنسان إلى راحة يومية، يستعيد بها نشاطه اليومي، وكذلك يحتاج إلى راحة سنوية يستعيد فيها نشاطه السنوي.
وانطلاقاً من هذا الواقع، فُضِّل للصائم الارتياح والهدوء، حتى أنّ الله قرر منح الصائم الثواب، بمقدار نومه وأنفاسه، كيما لا يرهق نفسه بالعبادة حرصاً على الثواب، فقد روى المفيد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّه قال (نوم الصائم عبادة ونفسه تسبيح).
ولكن على الصائم أنْ لا يستغل هذا الحديث، لقضاء شهر رمضان كله بالبطالة والخمول، وإنّما يكون عليه أنْ يستفيد من فرص هذا الشهر العظيم، للمزيد من الطاعات والقربات، ولكن بمقدار لا يسلب منه الراحة والهدوء.
4: التسحر والإفطار
فالإسلام عندما يفرض الصوم على الإنسان، لا يريد أنْ يذيقه الجوع والعطش أكثر من طاقته، وإنّما يهدف إلى تنظيم وجبات طعامه، حتى يستفيد من فوائد الصوم دون أنْ يخسر شيئاً من طاقاته الجسدية، فأستحب أن يتسحر الصائم حتى يستطيع تحمل صيام النّهار، وأنْ يفطر، حتى لا يرهقه الجوع.
فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (السحور بركة). و (تسحروا ولو بجرع الماء، ألا صلوات الله على المتسحرين). و (تعاونوا بأكل السحور على صيام النّهار، وبالنوم عند القيلولة على قيام الليل).
والإفطار كذلك مستحب.
5: الإفطار بالحلوى أو الماء الفاتر
واستحباب الإفطار، يتأكد إذا كان بإحدى المواد المدرجة في النصوص التالية:
روى السكوني، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال:
(إنّ الرجل إذا صام، زالت عيناه من مكانهما، فإذا أفطر على الحلو، عادتا إلى مكانهما).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال:
(أفطر على الحلوى، فإنْ لم تجده فأفطر على الماء، فإن الماء طهور).
روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنّه قال:
(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أفطر، بدأ بحلو يفطر عليه، فإن لم يجد فسكرات، أو تمرات، فإنْ هو أعوز ذلك كله، فماء فاتر، وكان يقول: ينقي المعدية والقلب، ويطيب النكهة والفم، ويقوي الحدق، ويحدّ الناظر، ويغسل الذنوب غسلاً، ويسكن العروق الهائجة، والمرة الغالبة، ويقطع البلغم، ويطفئ الحرارة عن المعدة، ويذهب بالصداع).
6: النظافة والتعطر
الإسلام يحب النظافة والتعطر دائماً، ويؤكد عليها في مواسم العبادة، أليس في القرآن الكريم: ((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)) و((أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))؟.
والصوم حيث يكون عبادة من أهم العبادات، أكد الإسلام على النظافة والتعطر فيه.
روى عمير بن ميمون، عن الحسن بن علي (عليهما السلام) أنّه قال:
(تحفة الصائم أنْ يدهن لحيته، ويجمر ثوبه، وتحفة المرأة الصائمة أنْ تمشط رأسها، وتجمر ثوبها).
7: قرائة القرآن
فالصوم عبادة جامعة، لها فوائد كثيرة، ولكن استثمار هذا الفوائد يتوقف على دراسة كثيرة دائبة، والقران، أوسع دراسة يتناول الإنسان من جميع جانبه، ويعرض على نفسه نقاط ضعفه، ثم يوجهه التوجيه لمعالجتها بأسهل الطرق، وأقربها إلى النجاح، فكان على الإنسان الصائم ـ قبل أي شيء ـ إدمان تلاوة القرآن بتدبر وإمعان.
بالإضافة إلى أنَّ القرآن نزل في شهر رمضان، وشهر رمضان احتفاء بهذه بانتصار البشرية في إحراز هذه الوثيقة الإنسانية الخالدة، وهل هناك شيء يُتلى في هذه الذكرى المجيدة، أفضل وأجمع من نفس القرآن؟..
ولذلك كان ثواب تلاوة كل آية من القرآن في شهر رمضان، يعادل ثواب تلاوة القرآن كله في غير شهر رمضان.
روى جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال:
(لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان).
قال وهب بن حفص: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن رجل، في كم يقرأ القرآن؟ قال: (في ست فصاعداً)، قلت: في شهر رمضان؟ قال: (في ثلاث فصاعداً ـ أي في ستة أيام، وثلاثة أيام).
8: كثرة العبادات
وشهر رمضان، موسم العبادة، لأنَّ الإنسان عندما يصوم، تصفو نفسه، ويزداد تقرباً إلى الله جلَّ وعلى، فيستطيع أداء القربات، بصفاء وإخلاص، لا يجدهما في غير هذا الشهر المبارك، لأنَّه لا يقدر على التجرد من الحياة، والتفرغ للتأملات الداعية، كما يقدر في هذا الشهر العظيم، فالتجاوب الذي يحصل بين الإنسان، والأعمال التي يأتي بها، لا يحصل في غير رمضان، فجوّ رمضان، يرحب بالعبادة، أكثر من أجواء بقية الشهور.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عليكم في شهر رمضان، بكثرة الاستغفار والدعاء، فأما الدعاء، فيدفع البلاء عنكم، وأما الاستغفار فتمحى به ذنوبكم).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل شهر رمضان ـ أطلق كل أسير، وأعطى كل سائل).
وقد أوصى الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال:
(إذا دخل شهر رمضان، فأجهدوا أنفسكم، فإنّ فيه تقسم الأرزاق، تكتب الآجال، وفيه يكتب وفد الله، الذين يفدون إليه، وفيه ليلته، العمل فيها خير من العمل في ألف شهر).
روى أبو بصير، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال:
(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل العشر الأواخر من شهر رمضان، شد المئزر، وأجتنب النساء، وتفرّغ للعبادة).
عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنّه قال: (من لم يغفر له في شهر رمضان، لم يغفر له إلى قابل، إلاّ أنْ يشهد عرفة).
9: كثرة الدعاء
وشهر رمضان، شهر الطاعة والعبادة، ولكنَّ الإنسان لا يعرف: ماذا يفعل؟ وماذا يقول؟ حتى يتقرب إلى الله سبحانه، لأنَّ الإنسان عندما يروم مقابلة أي عظيم، لا بد أنْ يتعلم الكلمات الخاصة، التي يجدر أنْ يواجهه بها، ليكسب رضاه، ولا يثير سخطه، ونحن عندما نتفرغ للقربات في شهر رمضان، ونحاول أنْ نتصل بالله، بأسلوب يستدر عطفه ومغفرته، علينا أنْ نتعلم ما يجب أنْ نقوله لله تعالى، ولم نكن نستطيع معرفة ما يقربنا إلى الله، لأننا لا نعرف الله، وأنى للإنسان أنْ يعرف ما يقربه إلى رب لا يعرف كنهه، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) قد أنقذونا من هذه الأزمة الفكرية، عندما لقنونا الأدعية، التي نناجي بها الله.
والواقع: إنّ الأدعية المأثورة، لسان العباد، الذي يعبّر عن الخشوع الذي يملأ ضمائرهم، والإذعان المطلق بالله وبكل ما أخبر عنه رسله.
بالإضافة إلى أنّ التراث الخضم، الذي تركه لنا المعصومون، مدرسة واسعة تشمل فنون المعاني التي يحب أنْ تحيا بين العبد وربه، ومختلف المفاهيم العبادية، التي يجب أنْ تعيشها الذهنية الإنسانية تجاه خالق الكون والحياة والإنسان.
والأدعية عندما تحاول تركيز معاني العبودية، في واقع العباد، لا تقف منهم موقف الفيلسوف ولا موقف المعلم، فما أعجز الفيلسوف والمعلم، عن إلهام هذه المعانِ السامية، وإنّما يتبنى موقف الطبيب النفسي من مريضه، فيستعين بالتلقين والإيحاء لعرضه تلك الأفكار العظيمة على أذهان العباد، ثم يتوسل بالتكرار لغرسها وتأصيل جذورها في واقع العباد.
وبعد استعرض المفاهيم العبادية، تنصرف الأدعية إلى التوجيه الاجتماعي بتبسيط نواقص المجتمع، ونقاط الضعف فيه، وسرد علاجها مباشرة في إطار دعائي أخّاذ، يفرض الاعتراف على كل من يروم قرائه الدعاء، كيما تستيقظ الضمائر الحرة، على تفهّم الاجتماع، وأعراضه وأدوائه، وتنشط فيها عاطفة الإصلاح.
وتبدو هذه الظاهرة جلية، في أدعية (الصحيفة السجادية) حيث كان الإمام زين العابدين (عليه السلام)، يعيش أقسى دكتاتورية منحرفة، تحارب كل بصيص من نور، بعاصفة من الظلام، فلم يجد فرصة التعبير عن آرائه بالخطب والمواعظ، فاستغل فرصة الدعاء، لنشر آرائه، في أسلوب لا يعرفه الظالمون، ولا يقدر على خنقه الجلادون.
وفي شهر رمضان، حيث تكون النفوس المؤمنة، متأهبة للتلّقي والتجاوب، مع بواعث الإلهام، كثرت الأدعية المندوبة استنفاذاً لأقصى ما يكون في وسع هذا الشهر من المنح والعطاء.
فوردت الأدعية الليلية المشتركة، التي يستحب الدعاء بها في كل ليلة، والأدعية النهارية المشتركة، التي يستحب الدعاء بها في كل يوم، والأدعية الخاصة بكل ليلة أو يوم، والأدعية المستحبة عند رؤية هلال رمضان، وفي يوم العيد، والأدعية المستحبة بعد كل صلاة، والأدعية المستحبة في أول الليل ووسطه وآخره، و الأدعية المستحبة صباحاً ومساءً من كل يوم، والأدعية الإضافية لليالي القدر الليلة الأولى، والنصف، والأخيرة...
10: فطر الصائم
وقد يكون أفضل القربات المندوبة، في شهر رمضان، إفطار الصائم، لأنَّه يشجِّع على الصيام ويؤلف القلوب، ويشيع المحبة بين أفراد المجتمع، وقد أكد الإسلام عليه، أكثر مما أكدّ على بقية المستحبات.
روى أبو الورد، عن الإمام الباقر (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال:
(ومن فطر فيه ـ في شهر رمضان مؤمناً صائماً، كان له بذلك عند الله، عتق رقبة، ومغفرة لذنوبه فيما مضى).
روى أبو الصباح الكناني، عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه:
(من أفطر صائماً، فله مثل أجره).
عن الإمام موسى بن جعفر:
(فطرك أخاك، أفضل من صيامك).
روى سعدة، عن الإمام الصادق (عليه السلام):
(دخل سدير الصيرفي على أبي (عليه السلام)، فقال: يا سدير، هل تدري: أي الليالي هذه؟ فقال: نعم، فداك أبي وأمي، هذه ليالي شهر رمضان، فما ذلك؟ فقال له: أتقدر على أنْ تعتق في كل ليلة من هذه الليالي، عشر رقاب من ولد إسماعيل (عليه السلام)؟ فقال له سدير: بأبي وأمي، لا يبلغ ما لي ذلك، فما زال أنْ تفطر في كل ليلة رجلاً مداً؟ فقال له: بلى وعشرة، فقال له أبي: فذلك الذي أردت، يا سدير، إنّ إفطارك أخاك المسلم، يعدل عتق رقبة من ولد إسماعيل).
روى بن حمران، عن أبي عبد الله (عليه السلام):
(كان علي بن الحسين (عليه السلام) ـ إذا كان اليوم الذي يصوم فيه ـ أمر بشاة، فتذبح، وتقطع أعضائها وتطبخ، فإذا كان عند المساء، أكبت على القدر، حتى يجد ريح المرق، وهو صائم، ثم يقول: هاتوا القصاع، اغرفوا لآل فلان، ثم يؤتى بخبر وتمر، فيكون ذلك عشائه).
اضف تعليق