الوسطيَّة مطلوبة في التَّربيةِ والسِّياسةِ والإِقتصاد والعلاقاتِ العامَّة وفي كلِّ شأنٍ من شؤُونِ الحياة، لأَنَّ التطرُّف يقودُ الفرد والمُجتمع على حدِّ سواء إِلى التَّهلُكة، على المُستوى الإِجتماعي فالتطرُّف يقودُ إِلى التشنُّج في العلاقاتِ وكذلك ينتهي بالفردِ والمُجتمع إِلى صِناعةِ الطَّاغوت وعبادةِ الأَصنام، حتَّى في الحُبِّ...
(٢٨)
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}
إِنَّ الوسطيَّة مطلوبة في التَّربيةِ والسِّياسةِ والإِقتصاد والعلاقاتِ العامَّة وفي كلِّ شأنٍ من شؤُونِ الحياة، لأَنَّ التطرُّف يقودُ الفرد والمُجتمع على حدِّ سواء إِلى التَّهلُكة، ففي الشأن الإِقتصادي مثلاً كما في الآية {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} و{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} و {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}.
أَمَّا على المُستوى الإِجتماعي فالتطرُّف يقودُ إِلى التشنُّج في العلاقاتِ وكذلك ينتهي بالفردِ والمُجتمع إِلى صِناعةِ الطَّاغوت وعبادةِ الأَصنام، ولذلكَ دعا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) إِلى الوسطيَّة والعقلانيَّة على هذا الصَّعيدِ فقالَ {أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا}.
بمعنى آخر؛ حتَّى في الحُبِّ والبُغضِ فإِنَّ التطرُّف مذمومٌ وغَير مرغُوب، فالتطرُّف بالحبِّ يُعمي المرءَ عن رُؤية الخطأ والتَّقصير ما يدفعهُ للتَّبرير بأَيَّة صورةٍ من الصُّور وبالتَّالي ينتهي بهِ الأَمر إِلى عبادةِ الشخصيَّة، أَمَّا التطرُّف في البُغض فيُعمي كذلكَ ما يحولُ بين المرءِ وبين أَيِّ شيءٍ إِيجابي أَو حسَن وصحيح عند الطَّرف الآخر، وبالتَّالي يخسر المرءُ الكثير من الحقائقِ.
وإِنَّما حذَّر أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) من التطرُّف في الحبِّ والبًغضِ حتَّى لا تتشكَّل عندكَ عُقدةً من أَحدٍ أَو من شيءٍ فتتعاملَ معهُ بأَحكامٍ مُسبقةٍ أَو بخلفيَّاتٍ خطأ يتمُّ تشكيلها من خلالِ مواقفَ أَو معلوماتٍ غَير دقيقة.
إِذا أَحببتَ بتطرُّفٍ عُميتَ فتُسلِّم بكلِّ شيءٍ، فعلهُ وقولهُ وتقريرهُ، وإِذا بغِضتَ بتطرُّفٍ عُميتَ فسترفض منهُ كلَّ شيءٍ، فعلهُ وقولهُ وتقريرهُ حتَّى إِذا كانَ سليماً وصحيحاً.
التطرُّف في الحُبِّ والبُغضِ يُولِّد الكراهية بمعنى من المعاني بالإِضافةِ إِلى الجهل، ولذلكَ يعلِّمنا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) الوسطيَّةَ في ذلكَ لنحمي التوازن في الشخصيَّة، فيقولُ (ع) {هَلَكَ فِيَّ رَجُلاَنِ؛ مُحِبٌّ غَال وَمُبْغِضٌ قَال}.
وإِلى ذلكَ تُشيرُ الآية الكريمة {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} في معنى الصَّبر إِبتداءً.
إِنَّ في الحياةِ أَشياء كثيرة بحاجةٍ إِلى أَن ننظرَ لها بعَينِ الوسطيَّة بعيداً عن التطرُّف، فليسَ كلُّ شيءٍ بحاجةٍ إِلى حزمٍ فهناكَ أَشياءَ كثيرة تُدارُ بالمُداراةِ أَو ما يُسمَّى بالسِّياسةِ، فلقد كتبَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) إِلى بعضِ عُمَّالهِ يقولُ لهُم {أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ أهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً، وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ، وَلاَ أَنْ يُقْصَواْ وَيُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ، وَدَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالاِْدْنَاءِ، وَالاِْبْعَادِ وَالاِْقْصَاءِ، إِنْ شَاءَاللهُ}.
هذا التَّوازُن والوسطيَّة بين اللِّين والشدَّة نحتاجهُ فيما نحتاجهُ في التَّربية، لأَنَّ التطرُّف في تربيةِ الأَولاد خُلقٌ مذمُومٌ يزرعُ في نفوسهِم التمرُّد، ولذلكَ يلزم أَن يتعلَّم الأَبوَين كيفَ؟ ومتى؟ يشدُّوا في تربيةِ أَولادهِم ومتى؟ وكيف؟ يلينُوا فيها، فالشدَّة دائماً تزرع التمرُّد واللِّين دائماً يزرع الميُوعة والتحلُّل التي تقود في أَحيان كثيرةٍ إِلى الإِنحراف أَو على الأَقل تزرع روح اللَّامسؤُوليَّة واللَّاأُباليَّة في نفوسهِم، ولذلك أَوصى أميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ {لاتكُن ليِّناً فتُعصَر ولا تكُن قاسِياً [أَو صلِباً] فتُكسَر}.
كذلكَ في الإِدارة والقِيادة، فالتطرُّف بالشدَّة أَو باللِّين، لا فرق، يُنتج فشلاً ذريعاً ولا يُساعد على التَّمكينِ للنَّجاح.
لقد كتبَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) إِلى بعضِ عُمَّالهِ بهذا الصَّدد يقول {أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ، وَأَقْمَعُ بِهِ نَحْوَةَ الاَْثِيمِ، وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْـمَخُوفِ، فَاسْتَعِنْ بِاللهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ، وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ، وَارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ، وَاعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لاَ تُغْنِي عَنْكَ إِلاَّ الشِّدَّةُ، وَاخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ، وَابْسِطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، وَالاِْشَارَةِ وَالتَّحِيَّةِ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ، وَالسَّلاَمُ}.
(٢٩)
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
أَمَّا على صعيد العلاقاتِ الإِجتماعيَّة، فالوسطيَّة ضروريَّة لبناءِ مجتمعٍ مُنسجم، وهي بحاجةٍ إِلى مُبادرةٍ من طرفٍ لتتحوَّل، الوسطيَّة، إِلى قاعدةٍ ينتبهَ لها الآخرون، أَمَّا إِذا تخندقَ كلَّ واحدٍ بخندقهِ وتشبَّثَ بموقفهِ فسينهار المُجتمع ويتمزَّق نسيجهُ فلم يبقَ شيءٌ من جسورِ التَّواصل بينَ أَفرادهِ.
لقد كتبَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) في وصيَّتهِ لولدهِ السِّبط الإِمام الحسن المُجتبى (ع) يقولُ {احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَة عَلَيْكَ}.
والكبار فقط همُ الذينَ يفعلونَ ذلكَ.
قالَ تعالى {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وقوله {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
إِلَّا أَنَّ الإِمام (ع) أَردفَ وصيَّتهُ تلك بالعبارةِ الخطيرةِ التَّالية {وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ} لماذا؟! لأَنَّ البعض يتصوَّر أَنَّ الكبار إِذا بادرُوا ففعلُوا ما وردَ في وصيَّتهِ أَعلاه فذلكَ دليلُ ضعفٍ أَو خَوفٍ أَو رُبما تملُّق، فإِذا فكَّرُوا بهذهِ الطَّريقة فسينقلب الحال من كونِ المُبادرة شيءٌ حسنٌ مطلوبٌ لتحقيقِ التَّماسُك في المُجتمع إِلى عُنصرٍ إِضافيٍّ لتمزيقهِ وتفتيتهِ!.
يقُولُ تعالى {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.
والمُتطرِّف مُستعدٌّ لأَن يكذب ويُفبرك المعلومات والأَخبار والتُّهم حتَّى يُبرِّر موقفهُ، فإِذا تطرَّف بالبخلِ مثلاً إِتَّهم الله تعالى بالبُخلِ، والعياذُ بالله، ليُشرعن بُخلهُ، وهكذا.
يحدِّثُنا القرآن الكريم عن أَحدِ هذهِ النَّماذج بقولهِ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
حتَّى في العلاقةِ بينَ الوُلاة والرعيَّة، الحاكِم والمحكُوم، ينبغي أَن يكونَ هناكَ توازنٌ والذي يتمثَّل بتقاسُم السُّلطة والمسؤُوليَّة، فالتطرُّف بالتَّأييد لأَيٍّ من الطَّرفَين ظلمٌ للطَّرفَين.
يشرح أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) هذا التَّوازن بقولهِ {فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ.
فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الاَْعْدَاءِ.
وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الاِْدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الاَْحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الاَْبْرَارُ، وَتَعِزُّ الاَْشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ الْعِبَادِ.
ثمَّ يستطردُ (ع) بالإِضافةِ المُهمَّة التَّالية؛
فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ ـ وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ ـ بِبَالِغِ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلى العِبَادِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ.
وَلَيْسَ امْرُؤٌ ـ وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ ـ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ، وَلاَ امْرُؤٌ ـ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ ـ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلى ذلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ.
وإِنَّ أَهم أَسباب التطرُّف هو النَّظر لظاهرِ الأُمور وعدم التعمُّق فيها، فلَو عَلِمَ المرءُ حقائق الأُمور وبواطنِها لما تطرَّف {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
كما أَنَّ قساوَة القلب أَحد أَخطر أَسباب التطرُّف، يقولُ تعالى {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
ويتطرَّفُ الإِنسان عندما لا تنسجمُ المُقدِّمات أَو النَّتائج مع رغباتهِ أَو ما يتمنَّاهُ كما في قَولهِ تعالى {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}.
أَخيراً؛ فربما يتصوَّر البعض أَنَّ الحالة التَّالية تعبيرٌ عن الوسطيَّة {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا* أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}.
أَبداً، فالوسطيَّةً التي تُضيِّع الحق وتُداري الظَّالم والمظلُوم، الفاسد والمُصلح في آن، ليست بوسطيَّة، وإِنَّما هي نِفاقٌ وإِزدواجٌ في الشخصيَّة ووصوليَّة، الغرضُ منها حماية المصالح الخاصَّة على حسابِ الصَّالحِ العام!.
اضف تعليق