فرصة شهر رمضان لتهذيب النفس وتقويم السلوك في ساعات الإمساك، ولعل أبرزها الورع عن محارم الله، يمثل خطوة أولى لاستثمار الوقت الرمضاني لخطوة ثانية مكملة لها يكون الانسان في درجة معينة من السمو الروحي والنقاء النفسي تجعله قادراً على التفاعل مع الافكار والطروحات الثقافية بما يعمق عنده الوعي...
شهر رمضان المبارك يمثل في برامجه العملية دورة زمنية محددة من شأنها التأثير على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، كما تؤثر على واقع الفرد الصائم نفسه، هذا فيما اذا أحسن استثمار الساعات والليالي التي وصفها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بأنه: "أفضل الساعات، ولياليه أفضل الليالي"، وقبل ذلك؛ بين لنا القرآن الكريم بأنها ( أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ)، لنكون على بيّنة بعامل الوقت في الاستفادة القصوى من خلال أداء القدر الممكن من الاعمال العبادية، والفعاليات الاجتماعية والمبادرات الانسانية.
وهنالك ما يمكن تسميته بالساعة العبادية على غرار الساعة البايولوجية، كما توجد الساعات الاخرى التي بإمكان الصائم تأطيرها بما هو مناسب.
في الحالة الاولى: لدينا ساعة الافطار وما تنطوي عليه من مراسيم وأجواء روحانية بالغة الرفعة، يمكن ان ندرك شيئاً منها من خلال الحديث النبوي الشريف: "للمؤمن فرحتان؛ الاولى عند الافطار، والاخرى عند لقاء ربه"، فأي فرحة هذه التي تُقارن بفرحة لقاء الانسان بربه وهو راضٍ عنه يوم القيامة!
وبعد الافطار تبدأ فترة المساء، وهي "الليلة" حيث يكون الصائم –وفق الساعة العبادية- قد تزود بمصادر الطاقة من خلال ما منّ به الله –تعالى- من طعام وشراب، فيكون على استعداد للقيام بأعمال عبادية مختلفة، من أداء الصلوات المندوية، و وقراءة الأدعية والأذكار، و وزيارة المراقد المقدسة، وايضاً؛ اقامة المحافل القرآنية، ثم تأتي ساعة السحر، بما فيها من لحظات خاصة تتوج بالفترة التي تسبق آذان الفجر، حيث يغتنمها المؤمنون بأداء صلاة الليل المؤكد عليها بشكل لافت في روايات المعصومين، عليهم السلام، وحتى تناول طعام السحور، والحرص على الحضور عند هذه المائدة المباركة، وهو الذي يؤكد عليه المعصومون ايضاً.
أما الساعات الاخرى التي يتحكم بها الصائم، فهي عبارة عن دوائر فراغ زمنية طيلة اليوم ينبغي ملأها بما يفيد الفرد والمجتمع، فينطلق في رحاب الساحة الاجتماعية ليعقد اللقاءات الأسرية، أو يقيم مجالس الذكر والوعظ والارشاد، بل وإقامة الأماسي الثقافية لنشر الوعي في شتى الميادين.
ساعة النوم
وما يتحكم به الصائم في أيام هذا الشهر الفضيل، فترة النوم؛ سواءً في ساعات النهار او في ساعات الليل، وهي الفترة التي يحلو للبعض تمديدها ما أمكنهم، لاسيما خلال فترة الإمساك، وحين يكون الطقس قاسٍ بحرارته في فصل الصيف، علماً أن العراق وعموم البلاد العربية والاسلامية، أمضت سنوات عديدة من شهر رمضان المبارك وهو يواكب أشهر الصيف اللاهبة، بينما هذا العام فهو يقترب من فصل الربيع، مع ذلك، نجد لجوء البعض الى الفراش ملازماً لساعات الإمساك في فترة الظهيرة، مستفيدين من نص الخطبة الرمضانية للنبي الاكرم الذي قال: "نومكم فيه عبادة"، بينما اذا راجعنا كتاب "غُرر الحكم" المتضمن احاديث وحكم أمير المؤمنينن عليها السلام، نجد أنه يقدح في كثرة النوم: " بئس الغريم النوم يفني قصير العمر و يفوت كثير الأجر"، فالنوم الذي يقصده النبي، ليس ذلك النوم الذي يفوّت كثير الأجر، ولا يفني قصير العمر، وانما يعين صاحبه على مزيد من العمل والانتاج، كما نقرأ في هذا السفر العظيم "غُرر الحكم" ايضاً: "إن ماضي عمرك أجل و آتيه أمل و الوقت عمل".
أفضل أعمال ليلة القدر
يُحكى أن الشيخ الانصاري، الذي يُعد من أعظم الفقهاء والعلماء في تاريخ الحوزة العلمية، ويسمى بـ "الشيخ الأعظم"، وقد تحول كتابه المكاسب الى منهج دراسي في الحوزات منذ زمن بعيد، وفيما كان داخلاً الى حرم أمير المؤمنين، عليه السلام في ليلة استشهاده، وهي الليلة التي يرجى ان تكون ليلة القدر، فاستوقفه احد طلبة العلوم الدينية، وسأله عن أفضل أعمال هذه الليلة، ظناً منه أنه سينقل عن الفقيه الكبير رواية عن صلوات أو أدعية مستحبة، فما كان من الشيخ الانصاري أن سأله:
ماذا تدرس أنت الآن؟!
فقال: اللغة العربية.
فقال له الشيخ الانصاري، عُد الى حجرتك وواصل طلبك لهذا العلم، وسائر العلوم الدينية فهي أعظم أعمال هذه الليلة!
في مقابل هذه الرؤية العميقة والتطلع البعيد، نسمع بدعوات تعطيل طلب العلم في ايام شهر رمضان، ومنها ليالي القدر، كما لو أن هذه الايام مخصصة للاسترخاء، بينما ليالي هذا الشهر الفضيل تعد من أعظم فرص طلب العلم، ومن أروع من سمعت عن طلب العلم، أن "طلب العلم ميراث الليل، وليس ميراث النهار"، بمعنى أن ساعات الليل هي التي تبعث على التعمّق في المسائل، لما تمنحه هذه الساعات من هدوء وسكينة لا تتوفر في فترة النهار، وهذا طبعاً؛ في سائر ايام السنة، ولكن في ليالي شهر رمضان المبارك فان التأثير يكون أبلغ وأكبر.
العلاقة بين تهذيب النفس وصناعة الوعي
ما كتبه العلماء مستندين على روايات المعصومين، عليهم السلام، من تأكيدات وافرة عن فرصة شهر رمضان لتهذيب النفس وتقويم السلوك في ساعات الإمساك، ولعل أبرزها "الورع عن محارم الله"، يمثل خطوة أولى لاستثمار الوقت الرمضاني لخطوة ثانية مكملة لها يكون الانسان في درجة معينة من السمو الروحي والنقاء النفسي تجعله قادراً على التفاعل مع الافكار والطروحات الثقافية بما يعمق عنده الوعي في مسائل متعددة في الحياة؛ من وعي صحي، او وعي اجتماعي، او وعي ديني، او وعي سياسي.
وهذا يدعونا لأن نجعل من ايام وليالي هذا الشهر الفضيل، برنامجاً عملياً متكاملاً يوازي الساعة العبادية الثابتة التي تسير بشكل طبيعي، فلا مجال للهو واللعب وقضاء الوقت، لان الخسارة في خطأ من هذا النوع يكون مضاعفاً عن سائر الشهور وايام السنة، كون ايام هذا الشهر الفضيل يبسط امام الصائم "مائدة رحمانية" واسعة لا نظير لها، تدعو الصائم لاغتراف ما يستطيع من الخير والبركة، ليس في نطاق الجانب المادي، وإنما في العلم والمعرفة والثقافة، وبما من شأنه احداث التغيير المطلوب على صعيد الفرد ، وعلى صعيد المجتمع والامة، بان تتجه اكثر نحو التعاون والتكافل والشعور بالمسؤولية.
اضف تعليق