إننا ونحن نعيش أجواء شهر رمضان مجددا، فكل الأسئلة التي تم طرحها فيما سبق مطلوب الإجابة عنها، وملء الفراغ الذي تتركه في المجتمع العراقي، علما أن الأسئلة التي نطرحها الآن تشكل هاجسا لكثير من المعنيين بالثقافة، لذلك لابد من البحث عن الأسباب التي تحد من تواصل الأنشطة الثقافية والفكرية والدينية في هذا الشهر الكريم...
لا يمكن لأي مجتمع كان النهوض، والمضي قُدُما في مسايرة ومواكبة العصر، ما لم تقوده قواعد وأسس ثقافية متينة، تستمد قوتها وحضورها من أصالة الأمة نفسها، وحين نتفحص المجتمع العراقي وأوضاعه في المرحلة الراهنة، فإننا سوف نرصد الكثير من الأخطاء في مضامير السياسة والاقتصاد والاجتماع أيضا، أما حين نبحث في مسببات تأخر المجتمع العراقي، فإننا يمكن أن نعزو ذلك إلى خلل في الثقافة وأسسها وضوابطها، ولأن شهر رمضان يحمل معه تفاصيله وسماته الخاصة التي تميزه عن أشهر السنة الأخرى، وخصوصا على الصعيد التثقيفي، فإننا كعراقيين وخصوصا قادة النخبة الثقافية، عليها أن تسعى بجدية لاستثمار خصوصية هذا الشهر ثقافيا كونه يختلف عن كل الشهور الأخرى، التي لا تمتلك أجواءها الخاصة التي تميزها عن غيرها، ولكن هذا الشهر الكريم، له طقوس وفعاليات متنوعة وأكثرها تدور في المدار الثقافي، ومعظمها يجري بعد الإفطار، أي في أوقات مناسبة لأدائها أو التخطيط لها والمشاركة فيها.
هل يعني كلامنا أن هنالك خلل مجتمعي فكري سلوكي تتحمله ثقافة المجتمع ومثقفيه؟، بالطبع سيأتي الجواب بالإيجاب، نعم ثمة مشكلات واضحة في البنية الثقافية العراقية، وثمة ثغرات عميقة تخرقها، لهذا ينبغي استثمار شهر رمضان وأية فرصة أخرى لدعم الثقافة وبناءها وفق المنظور المحدث، ذلك أن السمة الغالبة لشهر رمضان الكريم، تتمثل برغبة الناس بالتجمع في أماكن العبادة والمراقد المطهّرة، وأيضا بالحضور في الأندية والصالونات والبيوتات الثقافية الرسمية والأهلية على حد سواء، بمعنى هناك توجّه جماعي لاستثمار هذا الشهر في زيادة الوعي الجمعي، ثقافيا ودينيا وسياسيا، وفي جميع المجالات الأخرى، ولعل هذه الرغبة تتأتى أو تنطلق من الفرص الكبيرة التي يتيحها هذا الشهر المتميز في مجال تطوير الأسس الثقافية للمجتمع في حال تم استثمار التجمعات، أو الأدوات المتاحة لتطوير الثقافة المجتمعية.
حاجتنا للمنظمات الثقافية والفكرية
ولو أننا قمنا بإحصائية تقريبية للأماكن التي تتعاطى الفكر والقضايا الثقافية، كالمنظمات أو سواها، فإننا سوف نجد الكثير منها، ففي مدينة الحلة على سبيل المثال هنالك العديد من البيوت والقصور والمنظمات الفكرية والثقافية، وهنالك الكثير من رجالات الثقافة، لديهم صالونات، يقدمون فيها برامج ثقافية متعددة الأهداف والمضامين، وفي الوقت نفسه، تنشط الاتحادات والمنظمات والأندية الثقافية التابعة للحكومة، وتقدم هذه الأروقة المعنية بالثقافة أمسيات ما بعد الإفطار، تُعنى بتثقيف المجتمع ومضاعفة وعيه وفهمه لما يدور حوله من تطورات سريعة، في الجانب الثقافي وسواه، وهذا في حد ذاته يعد عاملا من العوامل التي يمكن أن تدفع بالثقافة المجتمعية إلى أمام.
ومما ينبغي القيام به من قبل الجهات الرسمية والأهلية في المضمار الثقافي، هو انتهاز فرصة هذا الشهر الكريم، واستغلال تعطّش الناس للفكر والثقافة، ومن ثم الشروع في رسم الصورة الثقافية النموذجية، بعيدا عن الحضور الشكلي لأننا بحاجة إلى فعاليات ثقافية ليست مظهرية، فالثقافة الأصيلة هي التي يجب أن نعيشها في شهر رمضان المبارك، ولكن في حقيقة الأمر هذه الصورة لم تكتمل كما ينبغي لها أن تكون، بمعنى ثمة نوع من الضمور والتلكّؤ في قيام الصالونات والمنظمات الثقافية بدورها التثقيفي، بل هناك جهد شبه معدوم، للأنشطة الثقافية الأهلية، وتغييب المبادرات التي كانت تتبناها في مثل هذا الشهر، شخصيات تُعنى بالثقافة، لأسباب ربما يعزوها البعض إلى حالات أمنية تلقي بظلالها على حركة الناس ونشاطهم المتنوع في هذا المجال أو ذاك، ولكن مثل هذه الأعذار لا تبني مجتمعا ذكيا نازعا إلى التطور والتفاعل مع مستجدات العالم في مجالات الفكر والثقافة والتطور النوعي في المجالات كافة.
ومع أن المعنيين ربما يبحثون عن مبررات وأسباب تقيهم المساءلة، وتعفيهم من تحمل مسؤولياتهم، إلا أن استثمار تجمعات الناس بأعداد كبيرة لم يتم أخذه على مأخذ الجد، ولم تتعامل معه المؤسسات والمنظمات الثقافية، لا الحكومية ولا الأهلية، بما يبني أسس الثقافة المتينة، فهناك حضور في أماكن العبادة والاستماع الى المحاضرات الدينية والثقافية، وهو أمر متعارف عليه ومتواصل، لكن ما نعنيه هنا دور الاتحادات والصالونات والمجالس الأدبية التي كانت تعقد بشكل يومي بعد الإفطار، والسؤال هنا لماذا غابت هذه المجالس؟ ولماذا لم نشهد تنشيطا فعليا لتلك المجالس الفكرية الأدبية الثقافية بما يضمن زيادة الوعي الجمعي والتعامل مع الحياة والعصر بما يتطلب من وعي فكري وثقافي على مستوى النخب وعامة الناس أيضا.
تطوير الركائز الثقافية
وثمة تساؤلات أخرى عن الأسباب التي تقف وجه استثمار هذا الشهر المبارك كما ينبغي، منها وقد يكون من أهمها، لماذا تغيب المبادرات الثقافية الفردية على غير المتعارف والمعتاد، علما بأننا نعرف تمام المعرفة بأنه حتى في الأحياء والمناطق الشعبية، كانت تعقد ندوات ثقافية للتوعية بمبادرات أفراد يحرصون على التثقيف الجمعي، وينبغي أن تستمر بقوة في شهر رمضان الذي سيحل علينا غدا بإذن الله.
إننا ونحن نعيش أجواء شهر رمضان مجددا، فكل الأسئلة التي تم طرحها فيما سبق مطلوب الإجابة عنها، وملء الفراغ الذي تتركه في المجتمع العراقي، علما أن الأسئلة التي نطرحها الآن تشكل هاجسا لكثير من المعنيين بالثقافة، لذلك لابد من البحث عن الأسباب التي تحد من تواصل الأنشطة الثقافية والفكرية والدينية في هذا الشهر الكريم، وهو الشهر الذي تتفتح فيه عقول الناس وأذهانهم، وتتحرك قرائحهم نحو الثقافة والوعي بصورة جماعية، وتتولد لديهم رغبات كبيرة لتطوير وعيهم وأفكارهم وتفكيرهم أيضا، وهذا يساعد بصورة كبيرة في بناء منظومة سلوكية تستند إلى ثقافة رصينة.
ولكن يبقى السؤال الأهم والمحفز الأول لتطوير الثقافة وبناء الأسس الراقية لها هو: لماذا تضعف او تغيب مثل هذه الفعاليات في هذا الشهر الكريم، الذي يشجع الجميع، الرسميين والأهليين، على إدامة الثقافة وتطوير الوعي الجمعي عبر التخطيط المسبق والمنظّم لإقامة الفعاليات الثقافية المضمونية وليست الشكلية؟. وبطبيعة الحال، لا توجد مغالاة في طرح هذه التساؤلات، لأن واقع الحال يشير الى هذا التلكؤ، وعلينا جميعا، وأعني بذلك من يهمهم أمر الثقافة والوعي الجمعي، علينا البحث عن الأسباب والمشكلات التي تعيق إقامة الأنشطة الثقافية المختلفة في الصالونات والبيوتات والأندية المعنية بتحريك الثقافة وتطويرها، لذلك علينا إعادة النظر في هذا الأمر، والتحلي بالإرادة والإصرار على القيام بدورنا الثقافي، والاستفادة من شهر رمضان المبارك وأجوائه لتحقيق هذا الهدف، لأننا كعراقيين نحتاج أولا وأخيرا إلى بناء أسس ثقافية تنقذ المجتمع من مشكلات كثيرة تعترض تقدمه، ومن أهمها أن يقوم المعنيون رسميون أو أهليون باستثمار هذا الشهر المتميز في بناء أسس راسخة متطورة للثقافة المعاصرة.
اضف تعليق