عندما يشارف شهر رمضان المبارك على الانتهاء، تهفو القلوب نحو عيد الفطر السعيد، بما يحفّه من أجواء بهجة وسرور واسترخاء من بعد شهر الصوم، كما ترنو الانظار ايضاً على "العيدية"، وهي ليست مختصة بالصغار، فحتى الكبار يتوقعونها من أرباب العمل، لإضفاء مزيد من أجواء البهجة في هذا اليوم السعيد، والحديث الشريف يقول: "للمؤمن فرحتان؛ فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء ربه"، الفرحة الاولى؛ معلومة الاسباب، فهي تمثل "عيدية" الصائم، سواءٌ في أيام الشهر الكريم وعند غروب الشمس، أو في أول إفطار صباحي بعد انتهاء شهر الصوم كاملة، أما الفرحة الثانية، فلابد من وجود مقدمات لتحقيق الفرحة عند لقاء العبد بربه – سبحانه وتعالى- وهذه المقدمات والمؤهلات هي العيدية الحقيقية والكبرى لكل من خرج من شهر رمضان وهو يشعر من أعماق وجوده أنه ليس انسان العام الماضي، وانه حصل على شيء جديد.
شهر الصوم ومعرفة الذات
تميز الاسلام في رؤيته الى الانسان عن سائر المدارس الفكرية بأنه صاحب إرادة واختيار وعقل، وإن خلقه من التراب الدنيّ وتحوله الى انسان سويّ وقوي، إنما يمثل مسيرة للتكامل في حياته، وهذه من النعم الإلهية عليه، بأن يكون في جهاد دائم لتحقيق الافضلية على سائر الكائنات في الحياة، لذا فهو ليس "حيوان ناطق" ولا شيئاً منتجاً كما الآلة التي صنعها بيده، ولا موجوداً عبثياً لا بداية له ولا نهاية، -كما ذهبت الى ذلك تصورات البشر- بل العكس تماماً، بإمكان الانسان صنع مصيره ومستقبله بنفسه، يكفي أن يقرر في لحظة واحدة ان يعود الى ذاته ليعرف انسانيته، ثم يتوصل الى سلسلة من الإجابات على الاسئلة التي ما زال العلماء والمفكرون يبحثون عنها، وهي السبب من وجوده في الحياة؟ وما هي السبل لتحقيق السعادة والعيش الكريم؟
ربما يكون الاغتراب عن الذات، من أعقد المشاكل الفكرية التي يواجهها الانسان، ولعل الحيرة في الاجابة عن هذه الاسئلة وغيرها هو الذي يسبب انتشار ظواهر اجتماعية واخرى نفسية في العالم، مثل الانتحار والجريمة والتطرّف الفكري، وتحول الملايين حول العالم الى فئران تجارب في حروب عبثية، ليس آخرها؛ الحرب على الارهاب، يقف خلفها اصحاب رساميل ضخمة او ساسة طامحين للنفوذ.
إن لحظة واحدة من يقظة العقل والضمير كافية لأن تعيد الى الانسان انسانيته ويعرف أنه قادر على فعل الكثير إزاء نفسه والآخرين، وفي ليالي القدر التي مرت علينا أجد مصداقية متجسدة للحديث الشريف في محافل الدعاء؛ "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، فالآهات التي ترتفع من المئات او الآلاف في هذه الليالي وما تبقى منها، تعبّر عن لحظات حاسمة لاكتشاف الذات، ويكون كل انسان قد عرف قيمة نفسه ومن يكون في هذه الحياة؟ فهل هو بيده كل شيء؟ أم في الاتجاه المعاكس؛ لا يملك أي شيء؟.
أمرٌ بين أمرين
ظهرت نظريتين في طريق الانسان لمعرفة ذاته ونفسه؛ الاولى: تقول له بأنك – أيها الانسان- مفوّض بكل شيء في الحياة، لك أن تصنع ما تشاء، ولا دخل للإرادة الإلهية في حياتك، فلا توفيق ولا هداية، أما النظرية الثانية، فهي ترى أن الانسان مُجبر على أفعاله، لأن كل شيء بيد الله –تعالى- وكل ما يحصل إنما هو يعود الى الإرادة الإلهية فقط! ثم جاء الامام الصادق، عليه السلام، وبشر الامة بالرؤية المتوازنة والمعقولة بأن "لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين"، بمعنى أن الانسان قد وهب العقل والارادة من الله –تعالى- ولم يترك سدىً ليختار الأفضل والاحسن، فمن المستحيل ان يدعو عقل الانسان الى الشر والموت والخسران.
وخلال ايام وليالي شهر رمضان المبارك لاحظنا كيف أن البعض من الشباب يختار التزاحم على محافل الدعاء وقراءة القرآن الكريم والاشتراك في البحوث الفكرية والثقافية والاستزادة من العلم والمعرفة، وكيف أن البعض الآخر يشكل حلقات اللهو واللعب ويقتل الوقت بسلاح الجهل، وهذه تمثل أروع مصاديق الارادة التي يمتلكها الانسان والحجة البالغة عليه غداً يوم القيامة، فهو كان يملك الارادة والعقل وحرية الاختيار، فوجّه كل هذه النعم العظيمة نحو الضياع.
أما الذي استثمر هذه الايام والليالي لاكتساب المزيد من هذه النعم وتعزيزها في نفسه، فهو الذي يكون الأقدر على التغيير من واقع الحياة التي طالما نشكو الازمات والمشاكل فيها، ونحلم بتغييرها نحو الاحسن والتخلص من الفساد والديكتاتورية والظلم والحرمان وغيرها من المساوئ، فهل يحدث كل هذا في لحظات اللهو واللعب؟! وهل جاءت الظواهر الاجتماعية والازمات السياسية في بلدنا – العراق – وسائر البلاد الاسلامية، عن طريق الصدفة؟!
وإذن؛ من يستشعر في أعماق نفسه أنه تغيّر في سلوكه و أخلاقه و افكاره، فهو انما اكتسب قدرة جديدة على تغيير واقعه الخارجي، ثم يكون قد تسلّم عيديته من هذا الشهر الكريم.
اضف تعليق