في كل زمان ومكان يحتاج الناس، أفرادا وجماعات، إلى التفكير فيما يرغبون القيام به لبناء مستقبلهم وتحديد مصيرهم، وكيف يمكن أن يقوموا به على أحسن وجه، بأقصر وقت، وأقل جهد، وبتكلفة ممكنة.
بالطبع، الناس كلهم، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونساءهم، عندما يفعلون شيء ما، يفعلون عن طريق التفكير والتخطيط، ربما كثير من الناس يعيشون حياتهم دون أن يشعروا بأنهم يفعلون الأشياء عن فكر وتخطيط، ولكن الواقع أن ما من فعل أو عمل يصدر من الإنسان إلا ويصدر منه عن طريق إعمال الفكر والعقل. إنما الاختلاف بين فرد وآخر، بين مجتمع ومجتمع، هو ممارسة التخطيط الواعي والهادف، أو ما يُعرف اليوم بـ "التخطيط الاستراتيجي"، وهو ما يمتلك صاحبه رؤية واضحة لمستقبله، وأدوات محددة، وخيارات متعددة.
فعلى سبيل المثال، كثير من الطلاب يذهبون إلى المدرسة بهدف التعلم، وإذا سألتهم لماذا تذهبون إلى المدرسة؟ سيقولون-بعفوية وبلا تردد-إنهم يذهبون إلى المدرسة لكي يتعلموا. ولكن إذا سألتهم، وماذا بعد المدرسة؟ ماذا تريدون أن تصبحوا؟ فلا يجيبك إلا القليل منهم-وبعد تروي وتفكير-سيقولون إنهم يذهبون إلى المدرسة لكي يتعلموا، ثم ليصبحوا قادة للمجتمع، مدرسين ومحاميين، أطباء ومهنيين وغيرهم.
والسؤال هنا ما هو التخطيط للمستقبل على مستوى الفرد والمجتمع؟ وما الفريق بين من يخطط ومن لا يخطط؟ وما هي أنواع التخطيط وميزاته وأهدافه؟ كيف يمكن لشهر رمضان أن يرافقنا طوال العام، وأن نعيش بركاته وخيره حتى يحين شهر الصيام من العام القادم؟ كيف يمكننا أن نحوله من موسم وشهر للصيام إلى شهر يمد بقية الشهور بفوائده التي خططنا لها وأحسنّا الاستفادة منها؟ كيف يمكن أن نجعل شهر رمضان شهرا للتخطيط والبرامج والمشاريع والأنشطة وتنفيذها بطريقة تضمن لنا الصلاح في الدنيا والنجاح في الآخرة؟
التخطيط هو تنظيم للذات وللفكر بشكل منطقي، وترتيب للخطوات ولإيضاح الطريق نحو الوصول إلى الهدف. والتخطيط هو الدراسة المسبقة لأيّ أمر تُقبل عليه المؤسسات والشركات والأفراد والعائلات بما يُحقّق النتائج المرجوّة ضمن خطّة واضحة المعالم.
والتخطيط هو عملية التفكير التي تسبق كل عمل، والتي تنتهي باتخاذ القرارات المتعلقة بما يجب عمله، وكيف يتم، ومتى يتم. ويُعرف التخطيط أيضا أنه وضع الأهداف في برنامج عملي قابل للتنفيذ، ورسم صورة واضحة للمستقبل، وتحديد الخطوات الفاعلة للوصول إلى هذه الصورة، وكيف يجري التعامل مع الزمن، وكيف يجري اختيار الأوليات.
والتخطيط يقسم حياة الإنسان إلى مراحل ومحطات يقف عند كل محطة منها ليراجع نفسه ويقيمها، ويمكننا من الاستخدام والاستثمار الأمثل للموارد واستخراج أقصى طاقة منه، وهو قوة دافعة إلى الأمام ويرفع الروح المعنوية، ويساعد على الاستعداد والجاهزية للفرص في الحاضر والمستقبل، والتخطيط ينمي مهارات وقدرات التخطيط لاستخدامها في أي مكان (العمل، الأسرة، البلد، القرية... إلخ).
وبدون الخطة تتضارب الأنشطة وتتغير الأولويات ويغرق الإنسان في بحار الضغوطات والطوارئ، ويجد نفسه يبتعد شيئا فشيئا عن رؤيته ورسالته، وعما كان يريد أن يفعله في الحياة. وفي الواقع، التخطيط أفضل من عدم التخطيط، فعدم التخطيط في أحوال كثيرة يعني الفشل، إذ يقول المختصون في مجال التخطيط الاستراتيجي إن عدم التخطيط يعني التخطيط للفشل.
على العموم، ينقسم التخطيط من حيث الفترة الزمنية إلى تخطيط قصير المدى (سنة فأقل) أي أن الفرد يخطط لفترة ستة أشهر أو ثلاثة أشهر أو أسبوع أو حتى يوم واحد، بل إنه يخطط لفترة زمنية محددة من اليوم. وإلى تخطيط متوسط المدى (سنة إلى أربع سنوات) كأن يخطط رئيس مجلس إدارة نادٍ معين أو اتحاد معين لمدة أربع سنوات التي هي عمر مجلس الإدارة. إلى تخطيط الطويل المدى (خمس سنوات فما فوق) كتخطيط المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات الأخرى التي تعتمد على الخطط الخمسية والعشرية وغيرها.
في المنظور الإسلامي، يضعنا القرآن الكريم أمام نموذجٍ من التخطيط والتنظيم الإلهي لكي نتدبر ونتفكر ونتبع آيات الله تعالى، يقول تعالى:﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾(يـس، 40)،﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ (الرحمن، 5)، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر، 499)، فحينما نقرأ هذه الآيات علينا أن نستلهم منها دروساً تدفعنا لأن نخطط لحياتنا، وأن يكون كل شيء في مكانه.
وتعد الآيات الواردة في سورة يوسف -رؤيا الملك للبقرات السبع وتفسيرها- أوَّل موازنة تخطيطيَّة مبنيَّة على أسس علمية، استطاع من خلالها نبي الله يوسف (عليه السلام) كسب الوقت في سنوات الرخاء بمضاعفة الناتج للإفادة منه في سنوات الجدب؛ وعليه كانت بمثابة أداة رقابية، تنفذ هذه الخطة على مدار أربع عشرة سنة.
اعتبر أولياء الإسلام العظماء أنّ رعاية النظم والتخطيط في الأعمال من جملة المسائل المهمّة في حياة الإنسان، فأكّدوا على القيام بذلك. يوصي الإمام عليّ عليه السلام الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام قائلاً: أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم" ينبغي لكلّ إنسان، إيجاد النظم في أعماله الحياتيّة ليستفيد من عمره أفضل استفادة. ومن أبرز ما يدلّ على النظم أن يقسم الإنسان أوقاته في الليل والنهار على أساس احتياجاته، ليكون النظم هو الأساس لحياته.
يقول الإمام السيد محمد الشيرازي في هذا الشأن: (يشهد عالمنا اليوم حركة قوية وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب تغيراً شديداً، فيجب أن نكيِّف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل، خصوصاً إذا كان مضمون المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا، ومواكبة المستقبل تتمّ: عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم، والقرارات الصائبة التي يتّخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف الاختصاصات، في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً من حيث تكوينه).
ويضيف الشيرازي: (معرفة المستقبل أمر واجب في الجملة، والتخطيط له واجب آخر؛ لأنهما مقدمة الواجب، وهي وإن لم تكن كذلك شرعاً إلا أنها لازمة عقلاًـ وبهما يتم تحقيق أغراض المولى جل وعلا الملزمة، وهذه تعد أول خطوة في هذا الاتجاه. لذا لابد من معرفة المستقبل بكل أبعاده وأجزائه وجزئياته، فبدون المعرفة لا يستطيع الإنسان أن يحسن التخطيط للمستقبل، وبدون حسن التخطيط لا يملك الإنسان حلولاً له، وربّما أوجب المستقبل سقوطه).
وانطلاقا من ذلك، فإن التخطيط على المستوى الفردي والمجتمعي هو ضرورة في الإسلام، وواجب على كل مسلم واع، يريد بناء مستقبله، ويسعى للنهوض بمجتمعه، وأن التخطيط في شهر رمضان، كما هو التنفيذ، فرصة يجب أن لا تمر مر السحاب، لأن شهر رمضان، بحسب الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) هو الشّهر الذي أراد الله فيه للإنسان أن يغيّر نفسه وأن يمحّص نفسه وأن يدرس نفسه، ويعرف نقاط الضّعف ونقاط القوّة فيها، وليعرف السّلبيّات من الإيجابيّات، وأن يعمل على أن يدرّب نفسه على الخير في مقابل الشّر، وعلى العدل في مقابل الظّلم، وعلى الحقّ في مقابل الباطل.
وعليه، فإن شهر رمضان هو البداية، وهو المنطلق، لأن الله أراد لهذا الشّهر أن يكون شهر التغيير، وشهر الإرادة الخيّرة، والإرادة المؤمنة، والإرادة العادلة، حتّى يكون الإنسان الذي يتحرّك في الحياة خيراً لنفسه، وخيراً لعياله، وخيراً لأهله، وخيراً للنّاس من حوله، وخيراً لدينه، وخيراً للحياة كلّها.
نخلص مما تقدم أن أهم عناصر التخطيط من المنظور الإسلامي، وفي شهر رمضان المبارك، هي:
• تحديد الأهداف: في قوله عز وجل: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الملك: 22).
• تحديد الأولويات: ويتجلَّى ذلك في دعوة النبي "ص" حيث بدأ بأهله قبل غيرهم: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214).
• استثمار جميع الموارد المتاحة: يتضح في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15).
• بذل الأسباب والوسائل المشروعة: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: 60).
• تعليق النتائج بمشيئة الله تعالى: وذلك بعد تفريغ الجهد في الأخذ بالأسباب والتوكُّل على الله تعالى: (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الكهف: 23 ـ 24).
.....................................
اضف تعليق