مجرَّد السعي وراء الممتلكات المادية من الممكن أن يقلل من السعادة. فالأشخاص ذوو النزعة المادية القوية غالبًا ما يكون لديهم مستويات شديدة التدني من الرضا عن الحياة في واقع الأمر. فإنهم يَشعُرون بقدرٍ أقل من المشاعر الإيجابية يوميًّا، وهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، ويُفيدون بشكاوى صحية أكثر؛ منها...
هناك قصة قصيرة رائعة للكاتب الألماني هاينريش بول عن سائح ثري يصادف صيادًا أثناء غفوته على قاربه. يُحادث السائح الصياد ويحثه على مواصَلة الصيد، مشيرًا إلى أن العمل بمزيد من الاجتهاد من الممكن أن يُتيح له، مع الوقت، كسبَ المال الكافي لامتلاك عدة مراكب وجعل أناس آخرين يصطادون لحسابه. فسأله الصياد لماذا لا بد أن يكون هذا هدفه. فأجابه السائح قائلًا: «عندئذٍ ستستطيع أن تجلس هنا في المرسى دون أن تحمل للعالم همًّا، وتغفو في الشمس، وتُطالع البحر الخلاب.»
بالطبع كان هذا بالضبط ما يفعله الصياد بالفعل.
تمثِّل هذه القصة ما يشير إليه الكثير من الأبحاث التجريبية حاليًّا: حين نَقضي أيامنا على النحو الذي نستمتع به نجد سعادة أكبر عن قضائها في بحثٍ لا يكلُّ عن المال. فبينما يحث السائح الثري الصياد على قضاء وقته في السَّعي وراء المزيد والمزيد من المال، يدرك الصياد الحكيم سلفًا أن سعادته الحقيقية تكمُن في قضاء الوقت نائمًا في الشمس. سأشرح لماذا لا يجلب لنا المال السعادة، ولماذا قد تُشكِّل طريقة التفكير المادية خطرًا، ولماذا إنفاق ما لدينا من مال على التجارب هو أيسر سبيل للسعادة.
لماذا لا تجلب كثرة المال السعادة؟
من الصعب مُقاومة الميل للاعتقاد بأن حيازة المزيد من المال ستأتي بمزيد من السعادة. فأغلبنا على كل حال يشتهي الأشياء الغالية الثمن، من سيارات فارهة إلى منازلَ أكبر حجمًا إلى رحلاتٍ أكثر ترفًا. فلا شك أن الناس الذين يتمتَّعون بهذا النوع من العيش الرغيد أكثر سعادة، أليس كذلك؟
لكن يتبيَّن أن المال لا يستطيع شراء السعادة حقًّا. كما هو مبيَّن في شكل ١٠-١، زاد دخل الفرد زيادة كبيرة خلال الستين عامًا الأخيرة، لكن لا تزال نسبة الأشخاص الذين يُعربون عن شعورهم «بسعادة بالغة» خلال هذه الفترة ثابتة تمامًا.
إحدى أوائل الدراسات التي أثبتَت هذه المعلومة التي ربما تبدو غير منطقية قارنت بين سعادة أشخاصٍ ربحوا جوائزَ مسابقات يانصيب كبرى وآخرين لم يعهدوا هذا النوع من الثروة المفاجئة. رغم عدم وجود تفاوت بين المجموعتين في تقديرهم لدرجة سعادتهم؛ فقد كان تقدير الفائزين باليانصيب لفرحهم بأنشطة عادية متنوعة -مشاهدة التلفزيون، وسماع نكتة طريفة، والتحدُّث مع صديق- أدنى من سعادة الآخرين الذين لم يفوزوا.
شكل ١٠-١: دخْل الفرد - الظاهر في الخط ذي النقاط الصغيرة - زاد زيادة ضخمة خلال الستين عامًا الماضية. لكن نسبة الأشخاص الذين أفادوا بأنهم «سعداء جدًّا» - الظاهرة في الخط ذي النقاط الكبيرة - لم تتغير.
هذه الاكتشافات عن انعدام الرابط نسبيًّا بين المال والسعادة تُساعدنا أيضًا على فهم السبب وراء عدم شعور الأشخاص الذين يعيشون في بلدانٍ أغنى بسعادةٍ أكبر. كما تُشير كارول جراهام، أستاذة السياسة العامة في جامعة ماريلاند، في كتابها «السعادة في أنحاء العالم: مفارقة الفلاحين السعداء والمليونيرات التعساء»؛ فإن «ارتفاع معدلات دخل الفرد لا يؤدي إلى ارتفاع متوسط مستويات السعادة مباشرةً.» فعلى سبيل المثال، تبلغ نسبة الأشخاص الذين يفيدون بشعورهم بالسعادة في بنجلاديش ضِعف نسبة الروس، رغم أن الروس يفوقونهم ثراءً بأربع مرات. على نحوٍ مشابه، تصل معدلات السعادة في نيجيريا ضِعف معدلاتها في اليابان، وإن كان دخل اليابانيِّين أكثر من دخل النيجيريين بخمسٍ وعشرين مرة.
وتُعطي أبحاثٌ لاحقة على عينات كبيرة أدلةً أقوى على أن الدخل المرتفع لا يزيدنا سعادة. فقد قاسَ مسحٌ واسع النطاق لنحو نصف مليون أمريكي دخل الأسرة، والرضا عن الحياة، والرفاه العاطفي. كان الرضا عن الحياة تقييمًا لقناعة الناس عامةً بالحالة الراهنة لحياتهم، بينما تحقَّق الرفاه العاطفي مما إذا كان الناس تُؤاتيهم مشاعر إيجابية بصفة منتظمة، مثل السعادة والاستمتاع.
كشفت هذه النتائج عن ارتباط زيادة الدخل بزيادة الرضا عن الحياة؛ فأصحاب المستويات الأعلى من الدخل أكثر رضًا عمومًا عن حياتهم بطبيعة الحال. بيْد أن زيادة الدخل ترتبط بارتفاع الرفاه العاطفي إلى حدٍّ معيَّن فقط. فلا يجني أصحاب الدخول البالغة ٧٥٠٠٠ دولار وأكثر، سعادةً إضافية من الدخل المرتفع. رغم أن عدد الأشخاص الذين يكسبون أكثر من ٩٠٠٠٠ دولار سنويًّا الذين يُفيدون بأنهم «سعداء جدًّا» يكاد يبلغ ضِعف عدد أولئك الذين يكسبون أقل من ٢٠٠٠٠ دولار، فلا يُوجد من الأساس اختلاف في السعادة بين مَن يكسبون ٥٠٠٠٠ ومَن يكسبون ٨٩٫٩٩٩.
لكن يوجد استثناء للقاعدة العامة التي تُفيد بأن المزيد من المال لا يجلب المزيد من السعادة. فمن الممكن أن تؤديَ قلة المال إلى تفاقم صعوبة منغِّصات الحياة اليومية بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر، مثل المشكلات الصحية ومتاعب الرعاية. قد يشغل هؤلاء الناس أن يكون لديهم المال الكافي للوفاء بالاحتياجات الأساسية - الطعام والسكن والتدفئة وما إلى ذلك. فبالنسبة إليهم المزيد من المال يأتي بمزيد من السعادة. فمن المستحيل على كل حال أن تحسَّ بالسعادة وأنت مشغول بما إذا كان أطفالك سيحصلون على الطعام الكافي ليأكلوه أو إذا كانت التدفئة ستتوفَّر لأسرتك هذا الشتاء. وبناءً على ذلك، فإن البرامج التي تُوفِّر المال للتخفيف من وطأة الفقر تؤدي مباشرةً إلى ارتفاع مستويات السعادة؛ من ناحية لأن الدخل الإضافي يحدُّ من الضغط النفسي لدى الأشخاص الذين يعيشون في مثل تلك الظروف.
بعبارة أخرى، بعد تلبية احتياجاتنا الأساسية، تتحقَّق السعادة حسب الطريقة التي نختار أن نقضي بها وقتنا. وقضاء المزيد من الوقت في أشياء تجعلنا سعداء - في قراءة كتاب، أو مشاهدة التلفزيون، أو مخالطة أصدقائنا - لهي طريقة أفضل كثيرًا لمضاعفة شعورنا بالسعادة عن قضاء المزيد من الوقت في العمل حتى إن كان لكسب المزيد من المال.
مخاطر النزعة المادية
تطالعنا في كل مكان الإغراءات للاعتقاد بأن السعادة تكمن في الحصول على المزيد والأفضل من الأغراض. فمن الواضح أن صور الإعلانات تُوحي برسالةٍ مؤداها أن امتلاك سيارة أفضل، أو مجوهرات أجمل أو منزل أكبر هو السبيل لرضًا أكبر عن الحياة.
لكن الأبحاث التجريبية لا تدحض هذه الفكرة فحسب، وإنما تشير أيضًا إلى أن مجرَّد السعي وراء الممتلكات المادية من الممكن أن يقلل من السعادة. فالأشخاص ذوو النزعة المادية القوية غالبًا ما يكون لديهم مستويات شديدة التدني من الرضا عن الحياة في واقع الأمر. فإنهم يَشعُرون بقدرٍ أقل من المشاعر الإيجابية يوميًّا، وهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، ويُفيدون بشكاوى صحية أكثر؛ منها الصداع وألم الظهر واحتقان الحلق.
بل وترتبط النزعة المادية حتى بانخفاض الرضا عن العلاقة الزوجية. فالزيجات التي يكون فيها الزوجان محدودَي النزعة المادية تمرُّ بخلافاتٍ أقل، وتتمتَّع بتواصلٍ أفضل، ورضًا أكثر عن تلك التي يكون فيها أحد الزوجين أو كلاهما شديد المادية. كما أنها من المرجَّح أن تستمر مدة طويلة.
غالبًا ما ترجع الحاجة الدائمة إلى شراء الأشياء إلى انخفاض الاعتزاز بالذات. فالأشخاص الذين يشعرون برضًا كبير عن أنفسهم يساورهم شعور -زائف- بأن شراء الأغراض المادية سيجعلهم أكثر اغتباطًا. ورغم أنهم قد يحسُّون بتحسنٍ مؤقت من تلك الاقتناءات، فإن هذا الشعور الإيجابي لا يلبث أن يزول. بالإضافة إلى ذلك، فإن شراء الأشياء لاستعراض الثروة معركة خاسرة؛ لأنه دائمًا سيظل هناك شخصٌ آخر لديه أشياء أكثر وأفضل. لهذا السبب يكون المقِيمون في أحياء ثرية أشدَّ اهتمامًا بشراء الأشياء، لكنَّهم ليسوا أسعد حالًا.
لكن حتى بالنسبة إلى أولئك الذين لا يُركِّزون بوجهٍ عام على شراء الأغراض المادية، من الممكن أن توهِن طريقةُ تفكيرهم المؤقتة المُتمركِزة على الاستهلاكية من سعادتهم. ففي إحدى الدراسات، عرض الباحثون على بعض الناس صورًا لسِلَع كمالية، مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية والمجوهرات، بينما رأى آخرون صورًا مُحايدة. أولئك الذين رأوا الصور المادية أفادوا فيما بعدُ عن مستويات أعلى من الاكتئاب والقلق، مما يشير إلى أنه حتى طريقة التفكير المادية العابرة من الممكن أن تؤذي رفاهنا النفسي. كما أنهم كانوا أقل اهتمامًا بالمشاركة في أنشطة اجتماعية.
ما الذي يسعنا عمله إذن للحدِّ من اهتمامنا بالماديات، لما لها من آثارٍ سلبية على الشعور بالسعادة؟ فلتظلَّ مُتذكِّرًا أن محاولة العثور على السعادة بشراء أغراضٍ مادية قضية خاسرة. في الواقع، يشعر البوذيون بأن الأغراض المادية هي بالأحرى عقبات تحول دون السعادة الحقيقية. روجر كورليس، أستاذ الأديان في جامعة ديوك ومؤلِّف كتاب «رؤى البوذية» كان قد قال ذات مرة: «محاولة أن تكون سعيدًا بتكديس الممتلكات أشبهُ بمحاولة إشباع جوعك بإحاطة جسدِك من كل ناحية بالشَّطائر.»
لماذا المال ليس الطريق إلى السعادة؟
من الأسباب التي تجعل المال لا يجلب لنا السعادة الطويلة الأجل أننا نعتاد على ثرائنا المستجد. في البداية، يكون من الرائع الحصول على بعض المال الإضافي، لكننا مع الوقت نعتاد فحسب على هذا المستوى الأعلى من الدخل أو الثروة المفاجئة؛ ومن ثَم فهي لا تؤدي إلى قدرٍ أكبر من الفرح. يُسمِّي الباحثون في مجال علم النفس هذا التأقلم الدائرةَ المُفرغة للمتعة.
إليك مثالًا على تأثير التأقلُم. فلتتذكر حصولك على أول هاتف محمول على الإطلاق: كم كنت سعيدًا؟ لعلك شعرتَ بإثارة بالغة؛ لأنه صار باستطاعتك على نحوٍ غير متوقَّع أن تتصل بالناس من سيارتك! كان هذا الجهاز الجديد مُثيرًا في بادئ الأمر.
لكن تخيَّل الآن كيف قد تشعر إن استعضتَ عن هاتفك المحمول الحالي بالهاتف المحمول الذي كنتَ في غاية الفرح به منذ ١٥ أو ٢٠ عامًا. من المؤكد أنك لن تشعر بفرحة بالغة؛ لأنك صرت الآن معتادًا على التكنولوجيا الدائمة التطور المتوافرة على الهاتف المحمول. ومن ثَم فإننا نتوقَّع ألا تقتصر هواتفنا المحمولة على السماح لنا بالاتصال بالناس من السيارة فقط، وإنما كذلك بالتقاط الصور، أو قراءة الجرائد، أو شراء الكتب. هذا مثال واضح على أننا نتأقلم مع مرور الزمن ونجد أن الأشياء التي كانت سببًا في زيادة بهجتنا في البداية - مثل العلاوة أو الهاتف المحمول - لم تَعُد كذلك مع مرور الوقت.
بالإضافة إلى ذلك، فإن النمو في الثروة من الممكن أيضًا أن يغيِّر المقارنات التي نعقدها. فقد تَحدو بنا زيادةُ الدخل على الانتقال إلى حيٍّ أرقى أو إرسال أبنائنا إلى مدرسة خاصة، وهو ما نتوقَّع أن يجعلنا أشد سعادة. لكن هذه البيئات الجديدة في الواقع إنما تغيِّر طبيعة المقارنات التي نجريها، وهذه المقارنات تجعلنا أشد سخطًا. فربما كلُّ مَن في الحي الجديد، على سبيل المثال، يقود سيارات فارهة أو يَحصل على عناية باهظة التكاليف بحديقته، وربما يذهب أصدقاء أبنائنا في مدرستهم الجديدة في رحلاتٍ أشد ترفًا ويمتلكون منازلَ أخرى. فإذا بثروتنا الجديدة لا تُعطينا السعادة المتوقعة. وكما قال بنجامين فرانكلين: «لم يجعل المال إنسانًا سعيدًا قط، ولن يفعل، فليس في طبيعته ما يبعث على السعادة. فكلما زاد ما لديك منه، زادت رغبتك في المزيد منه.»
التفسير الثالث لعدم وجود علاقة عمومًا بين المال والسعادة، أن المال قد يغيِّر الطريقة التي نُمضي بها وقتنا. فعلى عكس المتوقَّع قد يقضي الأشخاص الذين يملكون مالًا طائلًا وقتَهم دون قصد على نحوٍ لا يفضي إلى السعادة. فأصحاب الدخل فوق المتوسط يقضون وقتًا أقلَّ في مزاولة أنشطةٍ تُعزِّز بهجتهم، مثل التمارين والاسترخاء، ويَقضُون وقتًا أكثرَ في أنشطةٍ لا تُعزِّزها بالضرورة، مثل العمل والانتقال من مكانٍ إلى آخر. فعلى سبيل المثال، يقضي الذين يكسبون ١٠٠ ألف دولار سنويًّا ٢٠ في المائة من وقتهم في أنشطةٍ ترفيهية، في حين يقضي مَن يكسبون أقل من ٢٠ ألف نحو ٣٤ في المائة من وقتهم في تلك الأنشطة. كما أنَّ أصحاب الدخول المُرتفعة يقضون أمسياتٍ أقل في مخالطة الناس، ووقتًا أقصر من النهار في التفاعل مع الآخرين.
هذه النزعة العامة لدى الناس الذين يربحون مالًا أكثر لقضاء المزيد من الوقت بمُفردهم من الممكن أن تؤثِّر حتى على شعورهم بالفرح. فقد اكتشفت دراسة حديثة أن أصحاب الدخل المرتفع يفيدون بإحساسهم بعواطفَ أشد تركيزًا على الذات، مثل الكبرياء والاغتباط. على النقيض، يفيد الذين يحققون مالًا أقل بإحساسهم بعواطفَ أشد تركيزًا على الآخرين، مثل الشفقة والحب. كما عبَّر عن الأمر بول بيف، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، إرفين، حين قال: «الثروة لا تضمن السعادة، لكنها قد تجعلك ميالًا للشعور بأنواعٍ مختلفة منها - مثل أن تكون متعتُك ذاتية بدلًا من أن تستمدها من صحبة أصدقائك وأقاربك».
العلاقات الاجتماعية هي أفضل مُسبِّبات السعادة؛ لذلك قد يخسر أصحاب الدخل المرتفع بقضائهم وقتًا أقل مع الآخرين. وفي هذه الحالة من الممكن فعلًا أن يؤدي المزيد من الثراء إلى سعادة أقل.
اضف تعليق