q
من أحد مبادئ الإنسان الاقتصادي أنه يتعامل مع المال بوصفه شيئًا قابلًا للاستبدال؛ أي يمكن نقلُه بسهولة لدفع ثمن أي سِلَع أو خدمات؛ فالأموال ليست مرتبطةً بأي غرضٍ مُعين. الاقتصاد السلوكي لدَيه تركيز على الطريقة التي يتصرَّف بها الناس بالفعل من خلال الأدلة التجريبية، بدلًا من التركيز على...

كلَّما كان التفكير في شيءٍ أسهل، كان هذا الشيء أشيع

أَوْلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر الأهمية للعقل البشري باعتباره قوة مؤثرة للمعرفة والتقدم. وكجزء من هذا التغيير العام، بدأ بعض المُفكرين يدرسون كيف يمكن للأفراد استخدام قدراتهم العقلية لتحقيق أهدافهم. وفي هذا السياق، طور الفيلسوف جيريمي بنثام الفكرة الأساسية لمحاولة تعظيم «المنفعة»، والتي رأى بوجهٍ عامٍّ أنها منفعة أو رفاهية أو متعة شخصٍ ما. بحلول عام ١٨٣٦، كان جون ستيوارت ميل قد عبَّر عن «تعريفٍ مجحف للإنسان باعتباره كائنًا يفعل حتمًا كل ما يُمكِّنه من الحصول على أكبر قَدرٍ من الحاجات الأساسية والراحة والرفاهية، بأقل قَدرٍ ممكنٍ من العمل والاضطرار إلى حرمان نفسه من الرفاهيات.» بالطبع، قد يتعارَض تحقيق أهداف المرء مع أهداف الآخرين أو أهداف المجتمع ككل. وقد وصف معاصرو ميل الذين انتقدوا هذا التعريف الشخصَ الذي يُصوِّره بأنه «الإنسان الاقتصادي».

مع تطور مجال الاقتصاد في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بدأ العلماء في تجسيد فكرة الإنسان الاقتصادي في هيئةٍ نظريةٍ سلوكيةٍ مُتماسكة. كانت المبادئ الأساسية ﻟ«نظرية الاختيار العقلاني» هذه أنَّنا لدَينا تفضيلاتٌ متسقة ومستقرة، وأننا نأخذ بعين الاعتبار النطاق الكامل للمعلومات المُتعلقة بأي قرار، وأننا نستخدِم هذه المعلومات لتقدير الخيار الذي يُلبِّي تفضيلاتنا على أفضل وجه. وطالما أقر الاقتصاديون بأن هذا النهج لم يُلِمَّ بالنطاق الكامل للفعل البشري، ولكنه كان تفسيرًا مبسطًا أفرز توقعاتٍ وتحليلاتٍ مُفيدة. ولكن مع تحوُّل تركيز الاقتصاديين إلى بناء نماذجَ رياضيةٍ معقَّدة تستند إلى العناصر الأساسية للنظرية، أُولِيَ اهتمامٌ أقلُّ بالعوامل الأشمل التي تؤثِّر على السلوك (مثل دور التعاطف، الذي أبرزه الاقتصاديون الأوائل، مثل آدم سميث).

لم يتبع هربرت سايمون هذا الطريق. كان سايمون عالمًا موسوعيًّا قدَّم إسهاماتٍ مُبتكرة في السلوك التنظيمي وعلوم الكمبيوتر وعلم النفس والاقتصاد. وتُعَد الطريقة التي يتَّخِذ بها البشر القرارات قاسمًا مشتركًا في كل أعماله. وعلى النقيض من نظرية الاختيار العقلاني، اقترح سايمون «العقلانية المحدودة». تنصُّ نظرية العقلانية المحدودة على أنه بدلًا من إجراء بحثٍ واسع النطاق عن الخيار الذي يوفِّر أقصى قَدْرٍ من الفوائد، فالناس «يرضَون ويكتفون» بما يفي بالغرض؛ أي إنهم يستخدمون الاختصارات الذهنية والقواعد الأساسية (أو «الاستدلالات») من أجل البحث عن خيارٍ مُرضٍ -وليس عن خيارٍ أمثل- وانتقائه.

على سبيل المثال، لنتخيَّل شخصًا يجب أن يختار بين مَطعمَين لتناوُل الطعام. من منظور نظرية الاختيار العقلاني، ستكون الاستراتيجية المُثلى للاختيار هي جمع وتحليل جميع المعلومات المُتاحة حول أسعار الطعام وجودته وأجواء المطعم، والعوامل الأخرى ذات الصِّلة في كل مطعم. في المقابل، قد يستخدم الشخص الذي يلجأ لما يُرضي ويفي بالغرَض الاستدلال القائل بأن «المطعم الأكثر ازدحامًا يكون أفضل على الأرجح»، بالإضافة إلى إلقاء نظرةٍ سريعة للتحقُّق من أن الأسعار مقبولة، على أساس أنه من المُحتمل أن يُسفِر ذلك عن قرارٍ جيد بما يكفي. إن الناس يلجئون لما يُرضي ويَفي بالغرض؛ لأن لديهم مواردَ معرفيةً محدودة وفي الوقت نفسه يتعين عليهم اتخاذ قراراتٍ سريعة في بيئاتٍ مُعقدة.

يوضح مثال اختيار المطعم وجهة نظر سايمون عن أن اللجوء لما يُرضي ويفي بالغرض هو استراتيجيةٌ مفيدة وناجحة عمومًا مقارنةً باستراتيجية الاختيار الأمثل. ولا شك أن هذه النظرية تتعارض مع المبادئ الأساسية لنظرية الاختيار العقلاني. ولكن على الرغم من فوز سايمون بجائزة نوبل في الاقتصاد، فلم يكن له تأثيرٌ يُذكر على مهنة الاقتصاد. فقد كان يُنظر إلى العقلانية المحدودة باعتبارها شيئًا حقيقيًّا، وربما غير ملائم، ولكنه في النهاية ليس مهمًّا بما يكفي لتقديم تحدٍّ جوهري.

وجاء هذا التحدي بعد ذلك بفترةٍ وجيزة. ففي أوائل السبعينيات، بدأ عالما النفس دانيال كانمان وعاموس تفيرسكي في إجراء تجاربَ اختبرَت مدى توافُق قرارات الناس فعليًّا مع توقُّعات نظرية الاختيار العقلاني. كانت هذه التجارب مسليةً ومشهودةً وسهلة الفهم. كما أوضحا أيضًا أن الأحكام والقرارات الفعلية للناس انحرفَت عن أحكام وقرارات «الإنسان الاقتصادي»، نظرًا لتأثير الاستدلالات و«الانحيازات» في اختياراتهم. ولعل الأهم هو زعمُهما بأن هذه الانحرافات كانت مُمنهجة؛ ومن ثَم يمكن التنبؤ بها ودمجها في نماذج الاقتصاديين.

نحن لا نناقش الأمثلة والرؤى الواردة بعمل كانمان وتفيرسكي بالتفصيل، نظرًا لوجود كثيرٍ من التفسيرات الجيدة فعلًا؛ لا سيما ما قدَّمه دانيال كانمان نفسه في كتابه الأكثر مبيعًا «التفكير السريع والبطيء». تتعلق إحدى أبسط التجارب بكيفية استحضار المعلومات إلى الذهن. في هذه التجربة اختار كلٌّ من كانمان وتفيرسكي خمسة أحرفٍ ساكنة في اللغة الإنجليزية (K, L, N, R, V) يكثر ظهورها كلها في المَوضع الثالث من الكلمة وليس في بدايتها. ثم عرَضا كل حرفٍ من هذه الحروف الساكنة على الناس وسألاهم: هل الأرجح أن يظهر هذا الحرف في الموضع الأول أم الثالث في الكلمة؟

رأى المشاركون عمومًا أن هذه الحروف كانت من المُحتمل أن تظهر في الموضع الأول أكثر من الثالث. وفي المتوسط، رأوا أن الأحرف ظهرَت أكثر بمقدار الضعف في الموضع الأول (على سبيل المثال، lion) عنها في الموضع الثالث (على سبيل المثال، milk). هذا على الرغم من حقيقة أن احتمالية ورودها في الموضع الثالث كانت أكبر في الواقع. وتفسير هذه النتيجة بسيط؛ من الأسهل التفكير في الكلمات التي تبدأ بحرفٍ مُعين أكثر من التفكير في الكلمات التي تحتوي على حرفٍ مُعين في وسطها. وتُنقَّح هذه الملاحظة بعد ذلك عَبْر اختصارٍ ذهني مفاده؛ كلَّما كان التفكير في شيءٍ أسهل، كان هذا الشيء أشيع.

أطلق كانمان وتفيرسكي على هذا اسم «استدلال التوافر»، على أساس أن بعض الأفكار «متوافرة» لأذهاننا أكثر من غيرها. هذا ما يحدُث عندما يشعر الناس بالقلق بشأن السفر جوًّا؛ لأنهم يستطيعون بسهولة تذكُّر صور حوادث الطائرات المروِّعة، بينما المخاطر الموضوعية للطيران أقلُّ بكثيرٍ من خيارات السفر الأخرى. وبالطبع لا ينبغي على «الإنسان الاقتصادي» أن يترك مثل هذه الأشياء تؤثِّر على خياراته. فعليه تقييم جميع المعلومات ذات الصلة، بغضِّ النظر عن مدى سهولة توارُدها بالذهن.

يقدِّم كانمان وتفيرسكي كثيرًا من الأمثلة الأخرى تُبيِّن كيف أن نظرية الاختيار العقلاني لا تُجسِّد قراراتٍ حقيقية. عند تقييم المخاطر، يُفترَض من صُناع القرار أن يُوازنوا بين فُرَص تحقيق المكاسب وفرص الخسائر لمعرفة ما إذا كان من المُحتمل أن تكون النتيجة النهائية إيجابية (فيما يُعرَف باسم «نظرية المنفعة المتوقَّعة»). في الواقع، تكون الخسائر المُحتملة أكبر بكثيرٍ في مثل هذا القرار مقارنةً بالمكاسب المُحتملة؛ إذ يدَّعي تفيرسكي وكانمان أنه كي يوافقَ شخصٌ ما على المقامرة، يجب أن يكون المَبلغ الذي يمكن أن يربحه نحو ضعف المبلغ الذي يمكن أن يخسره.

في الظروف المناسبة، نتأثر حتى بما إذا كان وصفُ اختيارٍ ما يُشدِّد على المكاسب أم الخسائر. على سبيل المثال، شارك تفيرسكي في وضع دراسةٍ أظهرَت أن ٨٤ في المائة من الأطباء كانوا يختارون الجراحة بدلًا من العلاج الإشعاعي إذا قيل لهم إن «فرصة النجاة والبقاء على قيد الحياة شهرًا واحدًا [لهذه الجراحة] ٩٠ في المائة»، ولكن ٥٠ في المائة فقط كانوا يختارونها إذا قيل لهم «إن هناك نسبةَ وفَياتٍ تبلغ ١٠ في المائة في الشهر الأول». تُقدِّم العبارتان المعلومات نفسها، ولكن إحداهما تؤطر الاختيار من حيث المكاسب، والأخرى من حيث الخسائر.

على الرغم من أن هذا البحث يحمِل تشابُهات مع عمل هربرت سايمون (مثل أهمية الاختصارات الذهنية)، فقد قُدِّمَ بصورةٍ مختلفة نوعًا ما. فقد صاغ كانمان وتفيرسكي النتائج في إطار الأخطاء أو الاختلاف عن «الإنسان الاقتصادي»، ونشَرا عملَهما في دورياتٍ اقتصادية، وقدَّما تقديراتٍ كمية لتأثير النتائج التي توصَّلا إليها. ومع ذلك، فليس واضحًا إلى أيِّ مدًى كان من المُمكن أن يكون لعملهما تأثيرٌ حقيقي على الاقتصاد بدون وجود بعض المُدافعين المؤثِّرين من داخل المجال نفسه. ولحُسن الحظ، كان لديهما هؤلاء المُدافعون.

كان ريتشارد ثالر قد اطلع مصادفةً على النتائج التي توصَّلا إليها في عام ١٩٧٦، ورأى على الفور صلتها بمجموعةٍ من ملاحظاته الخاصة التي كانت مُحيرةً من وجهة نظر نظرية الاختيار العقلاني. شرع ثالر في كثيرٍ من الأنشطة والأعمال المُشتركة مع كلٍّ من كانمان وتفيرسكي، فضلًا عن وضع مفاهيمه الخاصة التي بدأَت في تقديم تفسيراتٍ بديلة للسلوك الاقتصادي. وبدأَت سلاسل مقالاته البارزة حول «السلوكيات المنحرفة» عن نموذج الاختيار العقلاني في حشد كتلةٍ ناقدة من الباحثين، الذين شرعوا في الاتحاد معًا، وجذْب دعْم المؤسسات المؤثِّرة، وخلْق جيلٍ جديد من الباحثين، الذين وضعوا، بدورهم، تفسيراتٍ أكثر تطورًا لما بدأ يُطلَق عليه اسم «الاقتصاد السلوكي».

تعكس هذه التسمية التركيز على الطريقة التي يتصرف بها الناس فعلًا من خلال الأدلة التجريبية، بدلًا من التركيز على توقعات نظريات الاختيار العقلاني للسلوك الواجب. ويوضح أحد الأمثلة الأخيرة السريعة جوهر هذا المجال، ألا وهو: مفهوم ثالر عن «الحسابات الذهنية»، الذي يتعلَّق بكيفية تصنيف الناس للأموال وتتبُّعها. من أحد مبادئ «الإنسان الاقتصادي» أنه يتعامل مع المال بوصفه شيئًا «قابلًا للاستبدال»؛ أي يمكن نقلُه بسهولة لدفع ثمن أي سِلَع أو خدمات؛ فالأموال ليست مرتبطةً بأي غرضٍ مُعين. المال مجرَّد مال. في الواقع، يخصِّص الناس قدرًا من المال (أوعية مالية) لاستخداماتٍ معينة (على سبيل المثال، «نقود الإيجار») ولا يُحبُّون نقل الأموال بين هذه الأوعية.

الاقتصاد السلوكي لدَيه تركيز على الطريقة التي يتصرَّف بها الناس بالفعل من خلال الأدلة التجريبية، بدلًا من التركيز على توقعات نظرية الاختيار العقلاني للسلوك الواجب.

أحد الأمثلة الجيدة على ذلك يتعلق بالطريقة التي يدفع بها الناس مقابل وقود السيارات في الولايات المتحدة. في الولايات المتحدة، يُباع البنزين بثلاثة أنواع من الأسعار والجودة المتصاعدة. وفي عام ٢٠٠٨، انخفض سعر البنزين بنحو ٥٠ في المائة. وكان هذا يعني أن الناس كان لديهم دخلٌ أكبر قابل للإنفاق، وتماشيًا مع نظرية الاختيار العقلاني، يمكنهم إنفاقُ هذه الأموال كيفما أرادوا على الشوكولاتة والسجائر وطعام الحيوانات الأليفة، وما إلى ذلك. ولكن بدلًا من ذلك، وجد الاقتصاديون الذين درسوا بيانات المعاملات الحقيقية أن الناس كانوا يتحوَّلون فعليًّا نحو الحصول على النوع الأغلى من البنزين. فنظرًا لأن لدَيهم ميزانيةً ذهنية - لنقُل ٥٠ دولارًا للبنزين - وكانت لديهم مساحةٌ للتصرُّف في حدود تلك الميزانية، فقد ملئوها. الأهم من ذلك، أن مشترياتِ سلع أخرى مثل الحليب وعصير البرتقال في المتاجر نفسها لم تتأثر؛ إذ لم يشترِ الناس أنواعًا أغلى من هذه المنتجات بدخلهم الإضافي، بل اشترَوا البنزين فحسب. بالطبع، يمكن أن يكون هذا البنزين المُمتاز هو بالضبط ما يريد الناس حقًّا إنفاق أموالهم الإضافية عليه. ولكن بصفةٍ عامة، فإن امتلاك مزيدٍ من الدخل لا يؤدي إلا إلى تحولٍ ضئيل للغاية نحو شراء المنتجات الفاخرة.

ليس المقصود بذلك أن الحسابات الذهنية غير حكيمة أو غير مفيدة في حدِّ ذاتها؛ فقد تكون كذلك، ولكنها يمكن أن تكون العكس أيضًا. قد ترغب الحكومات في مساعدة الناس على إنشاء حساباتٍ ذهنية تساعدهم على تحقيق أهدافهم (مثل الادخار للجامعة) أو توفير شبكات أمان في حالة الأزمات. بدلًا من ذلك، فالفكرة الأساسية هي أن أهمية الحسابات الذهنية تحتاج إلى الاعتراف بها؛ فإذا تم تجاهُلُها أو رفضُها باعتبارها غير ذات أهمية، فمن المُحتمَل أن تضلَّ السياسات والخطط.

كان علم الاقتصاد السلوكي مَعنِيًّا، بصورةٍ خاصة، بهذه الأنواع من القرارات على المستوى الفردي، ولكنه لا يُعنى بذلك بصورةٍ حصرية. فقد قدَّم، على سبيل المثال، أفكارًا جديدة حول مصطلح «الأرواح الحيوانية» الذي وضَعَه جون ماينارد كينز (١٩٣٦) وكيف ولماذا دفع الأسواق إلى إظهار سلوكياتٍ غير متوقَّعة وعشوائية، مثل الفقاعات ونوبات الذُّعر والانهيارات. وتطوَّر المجال بطرقٍ أخرى أيضًا. وكان أحد اتجاهات هذا التطوُّر الانتقال إلى توسيع نطاق التجريب في بيئات العالَم الواقعي، وكان أحد أهداف ذلك معرفة ما إذا كانت الانحيازات ستختفي إذا انخرط الأشخاص في اللعبة بالاستثمار فيها، وكانت الإجابة بالنفي. كان ثمَّة اتجاه آخر هو الاتجاه نحو تطبيق هذه الأفكار على مشاكل السياسات، سواء كانوا يزيدون معدَّلات التبرُّع بالأعضاء، أو يُساعدون الناس على الادخار من أجل تقاعُدهم. ولكن عند هذه النقطة نحتاج إلى التوقُّف والعودة إلى هذا الاتجاه بمجرد استكشافنا لتاريخٍ مُختلفٍ يميل نحو نقطةٍ مماثلة.

* مقتطف من كتاب (الرؤى السلوكية)، للمؤلفين مايكل هالزوورث وإلزبِث كيركمان، ونشر مؤسسة هنداوي

اضف تعليق