التعرُّض لمرضٍ يُهدِّد الحياة، والأذى الجسدي، وموتُ شخص عزيز، وغيرها من الظروف الصعبة يجبرنا على أن نَنظر إلى أنفسنا والعالم بأساليبَ جديدة. من المفيد أن نعي هذه الظاهرة وأن نكون قادرين على استخدامها لتحويل التجارب المُؤسِفة إلى فرصٍ لإعادة تقييم الأمور والعثور على هدفٍ أسمى في الحياة...
القُدرة على رؤيةِ الإيجابي في الظروف القاسية تُوضِّح كيف تحدِّد طريقةُ تفكيرِنا العواقبَ. رغم أننا لا نستطيع أن نمضي في الحياة مُتجنِّبين كلَّ الخسائر، فإننا نملك سيطرة كبيرة على الطريقة التي نرى بها حتى الصدمات الأليمة. من ثَم؛ فإن معرفة السبيل لتبنِّي طريقةِ تفكير إيجابية جزءٌ أساسي من الحفاظ على مشاعر السعادة، مهما كانت الظروف.
في ٢٧ نوفمبر عام ١٩٩٠، كان بي جيه ميلر، الطالب في الصف الثاني بجامعة برينستون، يسير عائدًا لمسكن الطلاب في وقت متأخِّر من الليل حين اتخذ قرارًا غيَّر مجرى حياته. إذ قرَّر في الساعة الثالثة صباحًا، بعد ليلةٍ قضاها في الشرب، أن يصعد لسطح قطار مكُّوكي مكهرب متوقف في الحرم الجامعي. تعرَّض بي جيه لأحد عشر ألف فولت كهربائي جعله يوشك على الموت. وقد أخذته طائرة هيلوكوبتر لمُستشفًى قريب، حيث اضطرَّ الأطباء إلى اقتطاع ساقيه من أسفل الركبتين وبتر ذراعه اليسرى من أسفل المرفق.
بعد عدة شهور من الجراحات والعلاج الطبيعي، عاد بي جيه إلى برينستون وتخرَّج مع دفعته عام ١٩٩٣. رغم أنه ظلَّ يُعاني آلامًا مبرحة، استعاد بي جيه جزءًا كبيرًا من قوَّته البدنية، بل ونافس مع الفريق الأمريكي للكرة الطائرة في بطولة الألعاب البارالمبية الصيفية عام ١٩٩٢ في برشلونة. وهو يعمل الآن طبيبًا في سان فرنسيسكو.
هذه القصة ملهِمة بحق على عدة مستويات، ولا شك أن قدرة بي جيه على التأقلم مع ذلك الحدث المأساوي تدُل على قوَّته الذهنية الجبارة. لكن بالرغم من كل الفوائد التي استفادها من هذه التجربة، والحياة الرائعة التي بناها، لا بدَّ أننا نتصور كيف كانت حياته ستصير أيسر كثيرًا من دون الاضطرار لمكابدة هذا النوع من الألم والخسارة.
غير أنك قد تندهش من رد بي جيه على السؤال الذي يدور في أذهان الكل «إن كنت تستطيع هل تعود بالزمان وتبطِل ما حدث ليلة تلك الحادثة؟» إذ كان يجيب بالنفي. كما حدَّث مراسل لمجلة «برينستون ألومناي ماجازين» قائلًا: «لقد أسفرت عن أمورٍ حسنة جمَّة. لم أكن متطلعًا للعمل بالطب قبل الحادثة، ولا أعتقد أنني كنت سأصبح طبيب رعاية تخفيفية ماهرًا لو لم أمرَّ بتلك التجربة.»
يتحدَّث بي جيه بحماسٍ عن الألفة السريعة التي تجمعه بمَرضاه وتعاطُفه معهم. فهو يعمل مع محاربين قدامى فقدوا أطرافهم، وأناسٍ أردتْهم الحوادث مشلولين، ويُشير إلى أن مظهره الخارجي يساعد مرضاه بالأولى. فهم يُدركون على أيِّ حال بمجرد النظر إليه حين يدخل عليهم حجراتهم في المستشفى أنه يَفهم ما عانوه.
فهْمُ النضوج الذي يعقُب الصدمة
التعرُّض لمرضٍ يُهدِّد الحياة، والأذى الجسدي، وموتُ شخص عزيز، وغيرها من الظروف الصعبة يجبرنا على أن نَنظر إلى أنفسنا والعالم بأساليبَ جديدة. من المفيد أن نعي هذه الظاهرة وأن نكون قادرين على استخدامها لتحويل التجارب المُؤسِفة إلى فرصٍ لإعادة تقييم الأمور والعثور على هدفٍ أسمى في الحياة.
رغم أنه قد يبدو من الصَّعب بشدة أن نرى أيَّ إيجابيات عند مواجهة ظروف شخصية حالكة، فمن الممكن أن نجد بعض الجوانب المفيدة في كل المواقف السلبية تقريبًا. فالعديد من الناس الذين تُشخَّص حالتهم بالسرطان مثلًا يشهدون بمرورهم بتغير في أولويات الحياة، وحياة روحانية أكثر ثراءً، وعلاقات أقوى بمن يُحبُّون. وعلى حدِّ وصف إليزابيث ألكسندر، الشاعرة وأستاذة العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا التي فقدت زوجها وهو في سن الخمسين إثر نوبة قلبية؛ إذ تقول: «علينا بطريقةٍ ما أن ندع المصائب تشكِّلنا فتجعل أرواحنا أقوى وأجمل.»
يُعرِّف علماء النفس هذا اللون من اختيار المنظور بنُضجِ ما بعد الصدمة، أي المرور بتحوُّلات إيجابية كبرى بعد مجابهة أزمة محورية في الحياة. يحدث هذا النضج بينما يُحاول الناس استيعابَ الصدمة والتأقلُم معها، ومن الممكن أن يُفضي هذا إلى تغيُّرٍ بنَّاءٍ ومستمر.
كما قد تتوقَّع، القادر على العثور على بعض الجوانب الإيجابية في المواقف الصعبة يحظى بعواقبَ أفضل. إذ نجد مثلًا الناس القادرة على منحةٍ في التشخيص بالسرطان وهم يشهدون بمستوياتٍ أدنى من الضيق والاكتئاب، ومستويات أعلى من العواطف الإيجابية، وتحسُّن عام في طبيعة الحياة. كما أنه كما عرفت في الفصل الثاني، يؤدِّي تبنِّي طريقة تفكير إيجابية في خِضَم الشدائد إلى حالةٍ أفضل جسديًّا مع الوقت. فمثلًا المراهقون الذين يُشخَّصون بمرض السكري ويستطيعون أن يرَوا بعض المزايا في هذه التجربة يلتزمون أكثرَ بنظام العلاج الذي يُوصَف لهم، وهو ما يؤدي بالتالي إلى صحَّةٍ أفضل.
القُدرة على إدراك أن مجابهةِ ضائقةٍ شديدة يأتي بفائدة وهدف، تساعد على الحفاظ على رِباطة الجأش والتوازن، حتى حين تكون الظروف سيئة تمامًا إلى حدِّ أنه يبدو أنه لا سبيل لأن يشعر الإنسان بسعادة حقيقية.
أغلبنا سيتعرَّض في مرحلةٍ ما لخسارة كبرى، لتكن وفاة شخص عزيز، أو مرضًا أو إصابة خطيرة، أو طلاقًا. فلا يمكننا أن نعيش الحياة متحاشين كلَّ التجارب البغيضة، لكن بإمكاننا اختيار أن نرى هذه التجارب البالغة الصعوبة من زاويةٍ إيجابية بالالتفات إلى ما سنَربحه، بدلًا من الذي سنخسره. وكما تقول آنا بيراردي، مديرة معهد الاستجابة للصدمات في جامعة جورج فوكس: «يخرج أغلب الناس من الصدمات وهم أكثرُ حكمة، وقد ازدادوا تقديرًا للحياة.»
اضف تعليق