من الممكن أن يؤدي تغيير المواقف الذهنية لدى الناس إزاء نشاطهم إلى نتائجَ أفضلَ من الناحية الصحية. دائمًا ما تأتينا تفاعلات الضغط النفسي الفسيولوجية حتى في المواقف التي لا تُهدِّد حياتنا فعليًّا بأي طريقة. وللأسف من الممكن أن يكون لهذه النزعة لإظهار استجابة الضغط النفسي حتى في المواقف...
تأمَّل آخرَ مرة شعرت فيها بضغط نفسي — تسارع ضربات القلب، واضطراب المعدة، وشد العضلات. ما الذي سبَّب ذلك الشعور بالضغط النفسي؟ إن الأحداث اليومية التي تبعث على الضغط النفسي لدى أغلبنا هي أشياءُ بسيطة في العموم. قد يكون عليك تقديم عرضٍ تقديمي مهم في العمل، أو تكون عالقًا في المرور، أو تشعر بالعجز من هول الأشياء الواجب عليك فعْلها أو الفواتير الواجب سدادها. لا شك أن هذه الأشياء جميعًا مُثيرة للضغط النفسي بحق، وأن أجساد الناس تستجيب بناءً على ذلك.
تهدُف تفاعُلات الضغط النفسي الفسيولوجية إلى مساعدة البشر (والحيوانات) على الاستجابة للمواقف الخطيرة التي تُهدِّد حياتهم — مثل أن يُطاردَك كلب ضخم يَنبح أو عند القتال في الحرب. وقد تكون هذه الاستجابات الفسيولوجية تكيفية أيضًا خلال مواقفَ أخرى تبدو «شديدة التوتُّر»، مثل مقابلة العمل أو اللقاء الأول بمَحبوبك.
الحق أننا دائمًا ما تأتينا تفاعلات الضغط النفسي الفسيولوجية حتى في المواقف التي لا تُهدِّد حياتنا فعليًّا بأي طريقة. وللأسف من الممكن أن يكون لهذه النزعة لإظهار استجابة الضغط النفسي حتى في هذه المواقف التي لا تُهدِّد الحياة أثرًا سلبيًّا على صحتنا البدنية. ربما يفسِّر هذا التنشيطُ المستمرُّ لاستجابة الضغط النفسي في حياتنا اليومية ارتفاعَ معدَّل الأمراض المُرتبطة بالضغط النفسي، ومنها الصداع والقُرحة ومرض القلب التاجي. وكما قال روبرت سابولسكي عالِم الأعصاب في جامعة ستانفورد: «ينشأ المرض المرتبط بالضغط النفسي، في الغالب؛ لأننا كثيرًا ما نُنشِّط جهازًا فسيولوجيًّا تطوَّر من أجل الاستجابة للحالات الطارئة الفِعلية الخطيرة، لكنَّنا نُنشِّطه طوال شهور دون توقُّف، حين نقلق بشأن الرهون العقارية وعلاقاتنا وترقياتنا.» وربما لهذا السبب «لا يُصاب الحمار الوحشي بقرحة المعدة»، كما أشار سابولسكي في ملاحظة ذكية، في الوقت الذي يُصاب بها البشر في كثير من الأحيان.
رغم أننا لحُسنِ الحظ لا نُواجه عوامل ضغط نفسي تُهدِّد حياتنا بحق بصفة منتظمة (أو حتى غير منتظمة)، فإننا كثيرًا ما نبالغ في ردود أفعالنا النفسية تجاه عوامل الضغط النفسي الصُّغرى فتبعث في أنفسنا جزعًا وهمًّا بالغين. وبإمكان رد الفعل هذا، على الأقل في بعض الحالات، أن يُؤدِّي بدوره لعواقب تُهدِّد الحياة.
قوة الأدوية الوهمية
تخيَّل نفسَك في صيدلية تتُوق لشراء دواء يُخلِّصك من أعراض برد بغيضةٍ للغاية — سعال مزمن وحلق مُلتهِب وأنف مسدود. ثم تُواجِه خيارًا: إما أن تبتاع الدواء الأرخص الذي لا يحمل علامة تجارية، أو تدفع ثَمن الدواء الباهظ الذي يَحمل علامة تجارية. ورغم أنك تُدرك ذهنيًّا أن هذَين الدواءين مُتماثلان تمامًا، فإنك تُقرِّر شراء الأغلى ثمنًا. لماذا؟ لأنك، مثل أغلبنا، تعتقد أنه أفضل مفعولًا.
وقد تندهش أن هذا الاعتقاد دقيق؛ الأدوية الباهظة ذات العلامات التجارية أفضلُ مفعولًا. لكن ها هي المفارقة: ليسَت هذه الأدوية أفضلَ مفعولًا إلا لأننا نَعتقِد هذا. وذلك الاعتقاد هو ما يؤدي إلى تخفيف الأعراض بشكلٍ أكبر. من المُمكِن أن تؤدي الأدوية والعلاجات الوهمية إلى آثارٍ حقيقية، بل ومُستمِرة في كل جهاز حيوي من أجهزة الجسم تقريبًا والعديد من الأسقام، منها ألم الصدر والتهاب المَفاصِل وحُمى الكلأ والصداع والقرح وارتفاع ضغط الدم وألمُ ما بعد الجراحة ودُوار البحر ونزلات البرد.
دعوني أستعرض مثالًا يُوضِّح كيف تؤثِّر بحقٍّ توقعاتنا عن الدواء على فعاليته. في إحدى الدراسات، أُعطي الناس الذين أبلغوا عن معاناتهم من صداع متكرِّر كبسولاتٍ وُسم عليها «نيوروفين» (علامة تجارية) أو «إيبوبروفين عام». لكن في الواقع، كان نصف الكبسولات يحتوي على إيبوبروفين فعَّال، بينما نصفها الآخر كان دواءً وهميًّا. والنتائج؟ أفاد الذين تناوَلوا أقراص الدواء الوهمية الموسومة باسمٍ تجاري بزوال الصداع بدرجة أكبرَ من الذين حصلوا على نفس الأقراص التي عليها الوسم العام.
تقدِّم هذه الدراسة دليلًا قويًّا على أن العلامة التجارية لها تأثير مُهم. فالمشاركون الذين تناولوا الدواء الذي يَحمل علامة تجارية أفادوا بنسبٍ مُماثلة من زوال الألم بصرف النظر عما إذا كانوا تلقَوا إيبوبروفين حقيقيًّا أو وهميًّا. أما بالنسبة إلى أولئك الذين حصلوا على الدواء ذي الوسم العام، فقد أدلى الذين حصلوا على الدواء الحقيقي بتراجُع الألم بدرجةٍ أكبر من أولئك الذين حصلوا على الدواء الوهمي. إن توقعاتنا حيال فاعلية الدواء لها أثر كبير على شعورنا بالألم.
وليسَت العلامات التجارية وحدها هي التي تخلق هذه التوقُّعات — فحتى الاعتقاد بأن الدواء أغلى ثمنًا، وهو من الأمور التي نربطُها بالجودة، يزيد من فاعليته. فالناس الذين تناولوا أحد المسكنات التي أُقرت حديثًا مُعتقِدين أن تكلفتها للجرعة دولاران ونصف أفادوا بأنهم شعروا براحةٍ من الألم فاقت أولئك الذين أُخبروا بتخفيض سعر الدواء، وأن تكلفته لا تزيد عن ١٠ سنتات. وفي كلتا الحالتَين، كان المسكِّن قرصًا لا يحتوي على دواء فِعلي.
حسنًا، السؤال المهم حقًّا هو ما إذا كانت هذه النتائج بشأن الفاعِلية الأكبر للأدوية التي يعتقد الناس أنها باهظة لا تَنطبِق فقط على التجارب القائمة في المُختبَرات ولكن في الظروف العادية كذلك. الإجابة نعم — فهذا بالضبط ما يُلاحظ في الدراسات التي تختبر شتَّى أنواع الأدوية التي تُعالج مختلف الحالات. فعلى سبيل المثال، مرضى باركنسون الذين اعتقدُوا أنهم تلقَوا حُقنًا تحتوي على دواء (وإن كان في واقع الأمر محلولًا ملحيًّا) بتكلفة ١٥٠٠ دولار للجُرعة كانت كفاءته في شهادتهم تفوق ضِعف كفاءته في شهادة أولئك الذين حصلوا على دواءٍ اعتقدوا أن تكلفتَه لا تتجاوَز ١٠٠ دولار للجرعة.
فهم تأثير الدواء الوهمي
من الواضح إذن أن تأثيرَ الدواء الوهمي قوي جدًّا، وهو الفائدة التي تعود علينا لمجرد ترقُّب فاعليةِ تدخُّلٍ من نوعٍ ما (سواء قرص أو إجراء طبي أو حقن). لكن كيف على وجه التحديد تؤدي توقعات التخلُّص من الألم إلى الشعور بتحسُّن؟
من التفسيرات أن اعتقادات الناس إزاءَ العلاج لها أثرٌ في سلوكهم. فعلى سبيل التوضيح، حين نتوقَّع أن يكون أحد الأدوية ناجعًا، ربما نغيِّر سلوكنا بطريقةٍ تؤدي إلى آثارٍ مفيدة فعلًا. تخيَّل أنك كنت تعاني صداعًا شديدًا، ثم تناولت قرصًا وأنت مُوقِن أنه سيُزيل هذا الألم. يُحتمل أن يؤدي توقُّعك اختفاءَ الألمِ سريعًا إلى الاسترخاء، وهو ما سيُساعِد بدوره على الحد من الصداع.
أحد أوضح الأمثلة على قُدرة طريقة التفكير الإيجابية على إعطاء نتائجَ صحيةٍ أفضلَ اكتشفه بروس موزلي، جرَّاح تقويم العظام في مركز هيوستن الطبي لشئون المحاربين القدامى. في هذه الدراسة وزَّع الباحثون مرضى بالتهابِ مَفْصِل الرُّكبة عشوائيًّا على ثلاث مجموعات:
خضع الرجال في المجموعة الأولى لجراحةٍ قياسية بمنظار المَفصِل.
وخضع الرجال في المجموعة الثانية لعملية غسيل مَفصِل الركبة، لكن دون كَشطِها كما يحدث في الجراحة القياسية.
لم يُجرَ لرجال المجموعة الثالثة إجراءٌ جراحي فعلي — وإنما شُقَّت رُكَبهم بمبضع لتترك ندبة فحسب.
أُخبِر المشاركون كلهم أنهم سيُشاركون في دراسة بحثية — فوافَقُوا — وإن كانوا لم يُخبَروا بنوع الإجراء الذي سيخضعون له. بعد ذلك استمرَّ تقييم حالة المرضى جميعًا على مدار عامين لتحديدِ ما إن كانت «الجراحة الفعلية» أفضلَ بحقٍّ من «الجراحة الوهمية». فكان الباحثون يسألون هؤلاء الرجال أسئلة حول مقدار الألم الذي كانوا يشعرون به، وما إن كانت قدرتهم على أداء الأعمال اليومية، مثل السير وصعود السلالم، قد زادت.
كانت النتائج مُذهلة. فلم يكن ثمَّة اختلاف في درجة الألم أو أداء الوظائف بين مرضى المجموعات الثلاث في أي مرحلة خلال عمليات المتابعة.
رغم أن الباحثين لم يستطيعوا أن يعرفوا تحديدًا ما الذي أدَّى إلى شعور الرجال في المجموعات الثلاث بنفس القدْر من التحسُّن؛ فمِن بين الاحتمالات أن مجرَّد الاعتقاد بأنهم خضعوا لجراحةٍ ستُحسِّن حالتهم جعلهم يُغيِّرون سلوكهم. من الوارد أن يكون الرجال في المجموعات الثلاث قد اتبعوا تعليمات النقاهة بحذافيرها، مثل المواظبة على التمرين لزيادة الحركة والعمل مع اختصاصي علاج طبيعي. بالتالي من الوارد أن يكون سلوكهم هو ما أدَّى إلى تراجع الألم وتحسُّن الأداء الوظيفي.
كشفت دراسات أخرى عن نتائج مشابهة بشأن فاعلية «الجراحة الوهمية». فمثلًا حين خضع مرضى مصابون بكسورٍ في النخاع الشوكي لجراحةٍ وهمية أفادوا بتراجُع الألم، بل وتحسُّن الوظائف الجسدية، ومرضى باركنسون الذين أُجريت لهم جراحة وهمية تحسَّنت وظائفهم الحركية تحسنًا واضحًا.
تشير بعض الأبحاث إلى أن الدواء الوهمي من الممكن فعلًا أن يُحدِث تغيُّرات فسيولوجية في الجسم، وهو ما يحول بدوره دون الشعور بالألم. فمن الممكن مثلًا أن ينشِّط الاعتقاد بأن الدواء سيساعد على تخفيف الألم نظامَ الإندورفين، الذي يعمل تلقائيًّا في الجسم لتخفيف الألم. ومما ينسجم مع هذا الرأي، أن الناس الذين يظنُّون أنهم يحصُلون على دواءٍ لتخفيف الألم يظهر لديهم نشاط منخفض في المناطق المستجيبة للألم في المخ والنخاع الشوكي. بالإضافة إلى ذلك، تظهر استجاباتٌ مشابهة في المخ لدى الأشخاص الذين يتلقون مُسكِّنًا في عبوة فخمة، بطباعة فاخرة وملصق علامة تجارية، في حين لا تظهر على مَن يتلقون نفس الدواء في عبوةٍ عادية تَحمل ملصقًا عامًّا. تُشير هذه الدراسات إلى أن تأثير الدواء الوهمي يُقلِّل الألم ولو جزئيًّا بتغيير طريقة استجابة المخ للألم.
كيف تؤثِّر المواقف الذهنية على الهرمونات والجوع والصحة
يدُلُّ تأثير الدواء الوهمي دلالةً واضحة على أن توقُّعاتنا إزاء تأثيرات الأدوية لها أثرٌ ملموس على الطريقة التي تستجيب بها أجسادنا وعقولنا. ومن هذا المُنطلَق، تؤدِّي مواقفنا الذهنية إزاءَ فاعلية الأدوية إلى تحسُّن حالتنا فعليًّا. لكن هذه إنما واحدة من الطرق التي تؤثِّر بها طريقةُ تفكيرنا على الاستجابة الفسيولوجية لأجسادنا.
في تجربة قوية للدلالة على تأثير طريقة التفكير، طلب الباحثون من المشاركين تذوُّق نوعين مُختلفَين من شراب الحليب بنكهة الفانيلا الفرنسية. قيل لبعضهم إنَّ شرابهم الأول كان شرابًا للحمية يُسمى «سينسي شيك»؛ وقيل لهم إنه لا يحتوي على دهون ولا سُكر إضافي ولا يحتوي إلا على ١٤٠ سعرًا حراريًّا. أُخبر بقية المشاركين أن هذا الشراب كان نوعًا من الحلوى يُدعى «إندالجنس» (متعة)؛ وقيل لهم إنه يحتوي على نسبة كبيرة من الدهون والسُّكر و٦٢٠ سعرًا حراريًّا. وبعد أسبوع، عاد المشاركون جميعًا وتذوَّقوا ما قيل لهم إنه شراب الحليب الآخر.
بالطبع كان الشرابان متطابقين.
بعد أن انتهى المشاركون من الشراب، قاس الباحثون مستوى الجريلين في أجسامهم. يُثير الجريلين الشعورَ بالجوع؛ أي إنه كلَّما ارتفع مستوى الهرمون زاد الجوع. من ثمَّ فإننا بعد أن نتناول وجبةً دسمة، ينخفض مستوى الجريلين، فكأنه يقول للجسم: «لقد تناوَلت ما يَكفي من الطعام.»
كما توقَّع الباحثون، ظهر لدى الناس الذين اعتقدوا أنهم قد تناولوا مشروبًا عالي السعرات انخفاضٌ كبير في مستويات الجريلين — أكثر ثلاث مرات تقريبًا عن مستوياته حين اعتقدوا أنهم قد احتسَوا شرابًا للحمية. مجرَّد الاعتقاد أنهم قد استهلكوا سعراتٍ أكثر أدَّى إلى تغيرات في الاستجابة الفسيولوجية للجسم — وانخفاض هائل في الشعور بالجوع.
لم تختبِر هذه الدراسة الخاصة بشراب الحليب سوى الآثار القصيرة المدى لطريقة التفكير. لكن ظهر في أبحاث أخرى أن طريقةَ تفكيرنا من الممكن أن تؤدي إلى تغيراتٍ فسيولوجية جذرية وممتدة في أجسامنا.
رغم أن الآليات التي تُفسِّر ما كان من فوائد محسنة ليست معروفة بعينها، فإن هذه النتائج تشير ببساطة إلى أنه من الممكن أن يؤدي تغيير المواقف الذهنية لدى الناس إزاء نشاطهم إلى نتائجَ أفضلَ من الناحية الصحية. وكما تُشير إلين لانجر، أستاذة علم النفس في جامعة هارفارد ومؤلفة هذه الدراسة: «أعتقد أن الدراسة تكشف عن أننا نملك السيطرة على أدائنا نفسيًّا وبدنيًّا أكثرَ بكثير مما يظن أغلبنا.»
اضف تعليق