النرجسية الجماعية، عندما يستطيع أن يشعر بأنه عضو في هذه الأمة، فأنا الأعظم ـ أنا الأروع من أي شخص سواي. وهكذا بوسعه أن ينغمس في هذه التجربة النرجسية، ولكنها ما دامت ممتدة إلى الجماعة فهناك إجماع بين كل أعضاء هذه الجماعة. وهو في الحقيقة يوحّد هؤلاء الناس...
النرجسيون يمكن كذلك أن يعيشوا في جنون اثنين folie à deux. وأذكر حالة امرأة وابنتها كانت كلتاهما مقتنعة، وتقول، إنهما الوحيدتان اللتان كانتا نظيفتين، ومحتشمتين، وتعرفان كيف تطهوان، في كل البلد. وأي شخص سوف يقول إن ذلك جنون، لأن هذا الاعتقاد غير النقدي تماماً بعظمتهما ومعصوميتهما عن الخطأ هو تجلّ للنرجسية المطبقة.
وعندما يقول إنسان: "إن بلدي هو أروع بلد، ونحن أفضل من أية أمة غيرنا." فقد تقول إنه وطني، مخلص لأمته، مواطن جيد، ولا أحد يقول إنه مجنون لأنه يشاركه في ذلك كل شخص سواه. وكل شخص سواه يحبّ أن يشعر بذلك أيضاً، وشعب البلد الآخر يجب أن يشعر بذلك حيال بلده. وعندما يجتمع الطرفان يكون هناك كره هائل لأن على كل منهما أن يحافظ على النرجسية الجماعية التي يشارك بها الآخرين في الشعور العجيب بعظمته.
والنرجسية الجماعية هي نرجسية الإنسان الفقير. فالإنسان الغني، القوي، لديه ما يكفي لمؤازرة نرجسيته بماله، بقوته، بتلك العناصر من الواقع التي تعطيه الإحساس بقوته. والإنسان الفقير ـ وأنا لا أقصد الفقير تماماً بل الإنسان العادي، ماذا لديه؟ إنه مستخدَم في مكان ما، ليس لديه شيء يقوله، وهو خائف من منافسيه، وكل حياته سباق الجرذان ـ ففيمن يستطيع أن يؤثّر؟ ابنه الصغير وربما كلبه، ولكن ابنه قد كبر أيضاً وزوجته قد تعلّمت أن تهتم بنفسها. ولكنه حين يستطيع أن يشارك في النرجسية الجماعية، عندما يستطيع أن يشعر بأنه عضو في هذه الأمة، فأنا الأعظم ـ أنا الأروع من أي شخص سواي. وهكذا بوسعه أن ينغمس في هذه التجربة النرجسية، ولكنها ما دامت ممتدة إلى الجماعة فهناك إجماع بين كل أعضاء هذه الجماعة. وهو في الحقيقة يوحّد هؤلاء الناس ويقويهم عندما يستطيعون أن يعبّروا بصورة مشتركة عن إيمانهم بخصائصهم الخارقة للعادة. وذلك هو السبب في أن ما يُدعى التعصّب القومي هو أساس معظم الحروب، كما نرى، مثلاً، في النازية والصهيونية.
ويمكن للمرء أن يجد القدر الهائل من النرجسية في النرجسية العائلية. فللأُسر نرجسية سرية. فكروا في هذه الأسر التي تأتي فيها الأم من حياة رفيعة قليلاً، أعلى قليلاً في السلّم الاجتماعي، فإنها سوف تشعر إلى الأبد أن أسرتها أفضل من أسرة زوجها أو العكس بالعكس، ويسمع الطفل من البداية كم هم آل كوهن أو سميث رائعون وكم هو الطرف الآخر ناقص. ثم هي طبقتهم، لأن الأسرة تحمل معها في الوقت نفسه نرجسية طبقية هائلة. إياك أن تتزوج من طبقة أخرى، ويبرّر ذلك أن الناس الذين هم من خلفية واحدة يعرف بعضهم بعضاً معرفة أفضل. إلا أن برهانهم هو أنهم لا يتزوجون لأن الخلفية التي تُطيق عدم المبادرة، والافتقار إلى اللذة، هي التي تجعلهم أشقياء مرتين.
ومع ذلك تتفاوت درجة نرجسية الناس تفاوتاً كبيراً. وتجد أناساً نرجسيين إلى أقصى الحدود من دون أن يكونوا مخبولين ومن دون أن يكونوا مجانين. والشخص الذُّهاني منسحب من العالم كثيراً لأنه قد ناله منه أسوأ الأذى. ولكنه كذلك حسّاس تجاه الناس أكثر بكثير من الشخص النرجسي غير الذُّهاني. الذي يكون في جلّ الأحايين غير حسّاس لأنه غير قادر على الرؤية، وعلى المعرفة، وعلى النظر فيما يجري في الشخص الآخر.
والشخص النرجسي جداً شديد التيقّن لأنه لا يهمه كيف هي الأمور. وهو يستطيع أن يتكلم بيقين لأن كل يقينه يرتكز على ما يعتقد به. وإذا كان ذلك ما يعتقد به، فهو صحيح. ولنقدم مثالاً على ظاهرة من ظواهر البارانويا: لنقل إن شخصاً يفكر في شخص آخر هو عدوّه، أو يبغضه. وقد يكون هذا صحيحاً تماماً. وقد يصل به الأمر في بعض الأحيان إلى أن يكون خائفاً من أن يؤذيه الرجل بعض الأذى. فما هي ردة فعل المصاب بالبارانويا؟ إنه يكون مقتنعاً أن الرجل يخطط لقتله، وهذا الاقتناع لا يتزعزع لأنه اهتدى إلى خبرة إحساسه الذاتي، التي هي عنده حقيقة واقعة. تلك حقيقة، ولذلك فهو يؤمن بالحقيقة لأن أحاسيسه الذاتية بعداء الآخر وجيهة وجاهة الحقيقة، ولا يدخل الواقع في تلك الصورة.
ويصدق الأمر نفسه على الوهم. ولنقل عندما يرى شخص أن أمة أمست لبوة. وكثيراً ما يكون هذا موضوع أحلام الرجال. والآن، ففي الحلم ذلك طبيعي، على الرغم من أن الحلم، كما قال فرويد، ذُهان مؤقت لا نرى فيه الواقع كما هو؛ فخبرتنا الذاتية هي التي تصنع الواقع. ولكن عندما يرى شخص، ممتلئ بالرعب والذعر: "أمي لبوة، إنها سوف تأكلني،" ويرى اللبوة تدخل فيقول: " هناك لبوة قادمة،" ويعتقد أن ذلك حقيقي، فعندئذ نقول إنه مخبول، إنه مجنون. إن لديه وهماً، وهو أن أمه لبوة، حين يكون بالفعل ما لديه في الواقع هو الفزع الشديد منها. ولكن لأن فزعه الذاتي هو والواقع سواء، ولأن أحاسيسه تصنع الواقع، يمكن لـه أن يقول، ويمكن لـه أن يرى فيها، أنها لبوة، وأن كل جهازه الحسي وما يمكن أن ندعوه إحساسه بالواقع قد اختفى كلياً.
إن فهم النرجسية هو أحد المفاتيح لفهم تصرفات الناس غير العقلية، ولفهم الإنسان لنفسه؛ وردود الفعل غير العقلية هي إلى حد كبير أساسها الظواهر النرجسية. وتحليل شخص شديد النرجسية أمر صعب للغاية لأنه نسبياً لا يدانيه أحد. وهو في العادة يستجيب بقوله إن المحلل أخرس، عدواني، حسود، غبي، وأي شيء للفرار من الإحساس بأن عظمته غير مصونة، لأن المحافظة على صورته وإبقاءها في حالة حسنة أمر شديد الحيوية بالنسبة إليه. ولذلك فهو أمر لا يمكن أن يتمّ إلا بحذر شديد وبطء شديد.
إن درجة النرجسية تتباين إلى حد كبير. وإنك لتجد أناساً نرجسيين من دون أن يكونوا مخبولين، ومن دون أن يكونوا مجانين. مع ذلك تجد بين من هم ليسوا مجانين، وفضلاً عن النرجسيين إلى أقصى الحدود، أناساً ليست نرجسيتهم أقل بكثير من ذلك ويستطيع كل إنسان بالملاحظة الذاتية وبالمقارنة وبملاحظة الآخرين أن يتحقق من نرجسيتهم. ومن المستحيل أن يتحدث المرء عن النرجسية نظرياً من دون أن يكون قد خبرها في نرجسيته، أو أن يكون قد رآها بوضوح في شخص آخر، ولكن على نحو يمكن فيه أن يراها حقاً لا أن يسميها فقط. ولولا هذه الخبرة لا معنى للتحدث عنها لأن المرء يتحدث عن الجانب الآخر من القمر.
والنرجسية مشكلة عصيبة من مشكلات النشوء الإنساني. وبإمكانكم إجمال كل التعاليم، سواء أكانت بوذية أم يهودية نبوية أم مسيحية أم إسلامية، أو ان تأخذوا بعد ذلك بقول من المذهب الإنساني ـ فيمكن القول إن ما يقول به كل ذلك ماهوياً هو أن تتغلّبوا على نرجسيتكم. إن ذلك هو ابتداء الحب كله، والأخوة كلها، لأنه في هذه النرجسية يغترب الناس بعضهم عن بعض. وتختلط النرجسية بحب الذات. وفي التراث الفلسفي تجدون بأشد الوضوح أن النرجسية أو التمركز حول الأنا شيء مختلف كل الاختلاف عن حب الذات. لأن حب الذات حب، وفي الحب فإن مسألة من هو موضوع حبي لا تُحدِث أي اختلاف.
إن على الإنسان أن يكون لـه موقف إيجابي محب من نفسه. والمتمركز حول الأنا هو في الواقع شخص لا يحب نفسه، وهو شخص جشع. وعموماً فإن الجشِع هو الشخص الذي لا يشبع. والجشَع هو نتيجة الإحباط العميق على الدوام. والشخص الذي يشبع ليس جشعاً، بخصوص القوة أو الطعام أو أي شيء سواهما. والجشَع هو نتيجة خواء في الداخل على الدوام. وذلك هو السبب في أنك تجد الناس الذين هم قلقون جداً أو مضغوطون، مثلاً، يبدؤون في تناول الطعام بصورة اضطرارية، استحواذية، لأن لديهم إحساساً بالخواء.
وإذا أراد كل شخص أن ينشأ وينمو حقاً، فيجب أن تكون إحدى محاولاته التعرّف بنرجسيته. على المرء أن يحاول ذلك. فأنت تتعرّف بها ببطء، وببطء تقوم بخطوة جيدة، خطوة إلى الأمام، وإذا ازداد تعرّفك، فذلك هو الأفضل. ولكن التعرّف بها صعب للغاية لأنك قاضي نفسك، أي أنك تعتقد بما تفكر، ولكن من سيصحح لك؟ من الذي سيظهر أنك غالط؟ فمن زاوية نظرك لا تشعر بذلك، فأنت لا تملك علامة توجّه.
ويصدق الأمر نفسه على الراقص الذي يقوم بالتمارين. فالأمر المهم بالنسبة إلى الراقصين هو أنهم لا يعرفون ذاتياً في كثير من الأحيان كم كانت تمارينهم جيدة. وذلك هو السبب في أنهم ينظرون في المرآة، لأن الراقص لا يعرف من الإحساس الذاتي الصرف هل قام بحركة بديعة، أو هل كان ضبط الوقت صحيحاً، أم كان سريعاً. إنه لا يعرف ذاتياً كيف يقيس. إن ذلك شبيه بإحساسنا بالسرعة التي نمضي بها. والآن ففي النرجسية يمكن أن يكون شخص آخر هو علامة التوجّه، فتكلمه بأمر ما، فيقول لك: "اسمعني الآن، إن ذلك محض هراء،" وأنت لا تؤمن بذلك إلا لأنه قد كانت لديك هذه الفكرة أو لأنه اهتمامك. وجرت العادة ألا يفعل الناس ذلك، ولكن المحلل يفعل ذلك شريطة أن تكون لديه خبرة كافية بنرجسيته. ويمكن أن تقول إنه ذا تغلّب شخص من الأشخاص عليها تماماً فسيكون ما يدعوه المسيحيون القديس أو ما يدعوه البوذيون الإنسان المتنوّر. أو ما يدعوه "إكارت" Eckhart الإنسان العادل. ولا يهم كثيراً كم يذهب الشخص بعيداً ـ فما يهم هو في أي اتجاه يذهب.
اضف تعليق