هناك علاقة وثيقة بين التعرض للضغوط النفسية وبين احتمال الإصابة بالإمراض النفسية والجسمية، إلا إن اهتمام الطب ظل والى عهد قريب مقصوراً على جسم الإنسان، إذ إن التخصصات في الطب كانت تهتم بمرض عضو معين أو جزء منه، مؤكدة على المرض فقط متناسية شخصية المريض نفسه. إلا إن اندلاع الحرب العالمية الثانية وما خلفته من إمراض نفسية وجسمية أدى إلى ظهور اتجاه جديد في الطب يعرف بالاتجاه النفسي الجسمي، وكان الرائد في هذا المجال هو طبيب الغدد الكندي (هانس سيلي) بعد نشر كتابه (ضغوط الحياة) عام 1956.
وبعد الدراسات والأبحاث والنظريات التي جاء بها كلا من (جيمس، ولانج، ولندزلي، واودلف ماير، وبابيز) وجاء (سيلي) بأعراض التكيف العام بعد التجارب التي آجراها في جامعة (ماكجيل)، فقد لاحظ إن مستحضرات غدية معينة تحدث أعراضا متشابهة تتميز بتضخم الغدة الكظرية وضمور الغدة النخامية والعقد اللمفاوية مع ظهور تقرحات في القناة الهضمية، إن بعض هذه التغيرات هي علامات تضرر فقط والبعض الأخر هي دلالات لآليات الجسم الدفاعية ضد هذه العوامل المختلفة.
ومن الجدير بالذكر إن الضغوط وفقاً لنظرية (سيلي) تقسم إلى نوعين، الأولى هي الضغوط الجسمية كالكسور والحروق والحمى والالتهابات، أما النوع الثاني فهي الضغوط النفسية، كالصدمات النفسية والإنباء المفاجئة والحرمان والقلق، ووفقاً لهذه النظرية فان الضغوط قد تؤدي إلى تغيرات بدنية نسيجية مستديمة في جسم الإنسان، بمعنى آخر إن الفرد الذي يتعرض لضغوط نفسية أو جسمية قد يكون عرضة للإصابة بالإمراض الجسمية نتيجة التغيرات البدنية المصاحبة لتلك الضغوط.
وتعد الحروب ذاتها من أقسى الضغوط النفسية التي يمر بها الإنسان، فهي تهديد مباشر لحياته وحياة عائلته وتهديد لممتلكاته ومستقبله بشكل عام، والحروب ذاتها تستفز الإنسان وتثير انفعالاته بشكل كبير كصدمة أولى بالإضافة إلى ما يصاحبها من أحداث تعد ضغوطاً حياتية تؤثر في تكيف الإنسان وتحدث عنده تغيرات بدنية وجسمية قد تؤدي إلى إصابته بمرض نفسي أو جسمي مما يصعب تلافيه، ومن التغيرات المصاحبة للحرب مثلاً، تغير محل السكن بسبب التهجير القسري أو وفاة أو قتل احد أفراد العائلة أو احد الأقارب أو عوق شديد يصيب الفرد أو احد إفراد عائلته وصعوبة التنقل من مكان لآخر والمصاعب التي يلاقيها المجندون والمتطوعين في الحياة العسكرية، هذا فضلاً عن الأضرار ممكنة الحدوث في البنية التحتية للبلد مما ينعكس على المواطن بشكل خاص من خلال تعطل الكهرباء وتوصيل المياه وعلى المجتمع بشكل عام من خلال تعطل حركة الإنتاج وتأثيره على الاقتصاد العام للدولة، وكل ذلك دون شك يعد من الضغوط الناجمة أو المصاحبة للحرب.
إن تعرض المجتمع العراقي إلى أضرار جسيمة ناجمة عن الحصار الاقتصادي الذي فرض عليه من عام 1991 لمدة تزيد على (12) سنة، وممارسات العنف الطائفي والقومي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، جعله في حالة من عدم التوازن والاستقرار، ومن مظاهر هذه الممارسات التهجير القسري للمواطنين، ووضع المجتمع العراقي أمام سيل جارف من المعاناة التي يمتد بعضها أصلا إلى حقب زمنية بعيدة، لتأتي بعد ذلك ظاهرة غريبة على مجتمعنا كرستها الأحداث السياسية القائمة والوضع الراهن هو الاعتداء وتفجر أعمال العنف والمعاملة بعدائية وقسوة دون مبرر يدعو إلى ذلك، حيث يقوم مسلحون وجماعات مسلحة تريد ترسيخ نفوذها وفرض تبعية لأفرداها بقوة السلاح ومن مظاهرها الاعتداء والتهديد بالقتل والترهيب على أسس طائفية أو عرقية أو قومية أو أسباب أخرى نجم عنها تهجير قسري فردي وجماعي لم يشهده العراق من قبل رغم تماسك لحُمته الوطنية، والاجتماعية، مما يستلزم الانتباه لمدى تعرض الفرد العراقي لضغوط حياتية مما يتبعه ضرورة الاهتمام بالجانب النفسي للعلاج والذي مازال لا يثير أي اهتمام لدى أطبائنا وإدارات مستشفياتنا في الوقت الذي يعد معظم الأطباء إن نسبة عالية من المرضى المراجعين للعيادات والمستشفيات يعانون من إمراض نفسية.
إن الفرد العراقي يعاني من ضغوط إضافية لم تتضمنها المقاييس المعدة لقياس الضغوط النفسية، ومن هذه الضغوط الإضافية هو ما تثيره الجماعات المسلحة من تهديد واستفزاز وقتل واستيلاء على الممتلكات والخطف والتعذيب على أساس طائفي وقومي عند سيطرتها على المدن والقرى أو عند القيام بعمليات انتحارية أو تفجير السيارات المفخخة أو العبوات مما يؤدي إلى الشعور بعدم الأمان نتيجة توقع الفرد بان حياته وأهله وممتلكاته ستكون عرضة للاقتحام في أية لحظة وانه معرض للقتل والأسر أو التعذيب في إي وقت، وهو ما يتنافى مع القيم والعادات والتقاليد العربية والإسلامية التي جبل الفرد العراقي عليها، فضلاً عما ترمي إليه هذه المجموعات المسلحة من بث الفرقة بين طوائف ومذاهب الشعب الواحد فتجعل طائفة ما تشعر بالغبن أو الانتقاص من بعض حقوقها ولهذا يسخر الفرد كل طاقاته ويوجهها لصيانة كيانه وكيان طائفته متناسياً دوره الوطني وانتماءه الأول والأخير الذي يجب إن يكون للعراق.
وشهد العراق وضعًا أمنيًا خطيرا بعد سيطرة مسلحين من تنظيم "داعش" على مساحات واسعة ومحافظات بالكامل، وتقدمهم نحو عدة محافظات وسيطرتهم على بعض مناطقها، في حين تستمر العمليات العسكرية للقوات العراقية لمواجهة التنظيم. فقد قام تنظيم "داعش" المتطرف بشن حملة تطهير عرقي ممنهجة في شمال العراق، وبتنفيذ إعدامات جماعية وخطف وبيع للنساء، وما ارتكبه من جرائم يندى لها جبين الانسانية، حيث جمع مسلحو داعش عشرات الرجال والصبية في شاحنات ونقلوهم خارج قراهم حيث أعدموهم، هذه الإعدامات التعسفية الجماعية وعمليات الخطف، وبيع النساء والتي تستهدف "بشكل ممنهج" أبناء الأقليات في شمال العراق، ولاسيما منهم المسيحيون والتركمان الشيعة والايزيديون، قد تركت آثار نفسية وجسدية على السكان الذين نجوا من هذه المذابح والذين فقدوا أهلهم وخاصة النساء والأطفال، إذ لا يمكن لطفل أو امرأة إن تعيش بوضع نفسي متزن بعد إن شاهدوا هذه الجرائم، كذلك سوف تزيد هذه العوامل النفسية من عمليات الحقد والثأر والانتقام ضد الطرف الأخر، ومن ثم تؤدي إلى زعزعة الوضع الأمني والسياسي في العراق.
لقد كانت الأحداث التي مر بها النازحون العراقيون من النوع الكارثي الذي يصعب تصوره، وأدت إلى تشكيل ضغوطات نفسية شديدة قد يترتب عليها إخلال في تركيبة توازنه النفسي والاجتماعي تؤدي إلى خسارة قدرته الجسدية والنفسية على التحمل مما قد يؤدي إلى استنزاف طاقته وتدميرها، إن الحروب والصراعات والأزمات والكوارث جعلت الإنسان يواجه منذ القدم في حياته اليومية ضغوطات ما زالت مستمرة معه حتى الوقت الحاضر تعكس طبيعة القلق الذي يعاني منه في معتقداته وأنماط حياته، وتبرز المشكلة من حدة الأزمات ووطأة الضغوطات النفسية التي تواجه النازحين في المجالات الانفعالية والاقتصادية والصحية والاجتماعية والسياسية حيث أصبحت تشكل عبئاً كبيرا يشغل كاهل أفراده، مما يستدعي الكشف عنها والتصدي لها وإيجاد الحلول التي من شأنها التقليل من أثارها السلبية التي تنتج عن هذه الأزمات.
حيث يؤكد العديد من الباحثين إن الأزمات بشكل عام والفترة التي تعقبها بشكل خاص تسبب في حدوث آثار نفسية واجتماعية وصحية مؤلمة للمجتمع تنعكس على الاستقرار النفسي لإفراده وتوافقهم الاجتمــاعي، مــثل الــشعور بالــخوف والــهلع والحــزن والإحباط والــفشل والاكـــتئاب والـتوتر والقلق من المستقبل المجهول والخوف من مصادر الخطر وعدم الاطمئنان للآخرين وسهولة الإصابة بالأمراض الجسمية.
وبالتأكيد فقد يتعرض الأفراد النازحين قسراً إثناء ممارسة حياتهم إلى ضغوطات نفسية شتى نتيجة الأوضاع السيئة التي مروا بها من خلال هجر منازلهم وممتلكاتهم وباب رزقهم عنوة أو من خلال تعرضهم للترهيب والقتل أو تعرض احد أفراد عائلاتهم إلى القتل أو الخطف أو نتيجة الظروف السيئة التي يعيشونها، ومما زاد من تفاقم المشكلات التي تواجه النازحين صعوبات حياتهم حيث ذكرت منظمة الهجرة الدولية في تقريرها عن النازحين في العراق إن أهم المشكلات التي تواجه النازحين هو الحاجة إلى المأوى يليها التوظيف والطعام وان أغلبية النازحين داخلياً الذين شملهم تقرير منظمة الهجرة الدولية ونسبتهم 59% يسكنون في بيوت مؤجرة إلا أن مواردهم المالية تتضاءل مع الوقت وأسعار الإيجارات ترتفع، وان هناك حوالي 18% يعيشون مع عائلات أو أصدقاء في ظروف مزدحمة وان هناك حوالي نسبة 22% يعيشون في مستوطنات جماعية أو مباني عامة، كما أنهم معرضين للطرد من قبل السلطات المحلية أو أصحاب الأملاك، كما يعيش مئات الآلاف في مخيمات.
بالإضافة إلى الافتقار إلى المعايير القياسية والخدمات الأساسية كالمياه النظيفة والصرف الصحي والكهرباء جعلها عاملاً رئيسيا في الأزمة الإنسانية التي يتعرض لها النازحون داخليا، كما أشار التقرير إلى تدهور الرعاية الصحية لهؤلاء النازحين مما يزيد من إصابتهم بالأمراض الخطيرة.
إن هذه المشاكل التي تواجه النازحين قسراً بالتأكيد تزيد من عوامل الضغوط النفسية، إن مثل هذه الضغوط قادرة على تفجر اضطراب نفسي قد يكون حاد ويدوم مدة طويلة وتختلف المواقف الضاغطة باختلاف التركيب النفسي للفرد فبعض الأفراد لديهم القدرة على التحمل لمواجهة اعنف المواقف بقدر كبير من الاتزان وبعضهم لا تتوفر فيهم هذه القدرة فسرعان ما يصابون بالانهيار الجسمي وبعض الأمراض الانفعالية.
أخيرا فان الهروب وتسرب العديد من القوى الفاعلة في المجتمع إلى مجتمعات أخرى يتسبب في انتشار عوامل الضغط النفسي التي لها تداعيات خطيرة على الصحة النفسية والجسمية، وهو خسارة كبيرة وتفريغ وتبديد للطاقات القادرة على تحقيق عملية البناء والمساهمة في انتعاش الواقع الاقتصادي والاجتماعي في مجتمعنا الذي نحن في أمس الحاجة إلى عملية التنمية وإعادة الأعمار التي من أهم نجاحها هو خلو المجتمع من الضغوطات النفسية التي تعيق عملية التطور بما تسببه من تداعيات خطيرة للفرد والمجتمع.
اضف تعليق