ان اول ضغط نفسي يتعرض له اللاعب هو انه يمثل دولة، فان حقق الفوز اعتبر بطلا منتصرا يحظى بتكريم شعبه وتكريم رسمي من حكومة دولته، وان خسر فانه سيتعرض الى النبذ والتحقير وربما القتل باعتباره خائنا...
يعدّ مونديال روسيا من أنجح بطولات كأس العالم إن لم تكن أنجحها على الاطلاق، لأنه امتاز بحسن التنظيم وجمال الملاعب والضبط الأمني المريح الذي ساعد جماهير المشجعين على الاستمتاع بالبطولة والتجوال في الساحة الحمراء بفضائها المتوهج بالأضواء والمفاجئات الممتعة والأزياء الغريبة وكأنها تعيش مهرجانات اعياد الكريسمس. وتفرّد النقل التلفزيوني المباشر لملايين المشاهدين بجودة مذيعين محترفين يمتلكون معلومات متنوعة عن كل فريق وكل لاعب وكل دولة مشاركة يقدمونها باسلوب ممتع يشدك لمتابعة المباراة، ومحللين رياضيين من جنسيات مختلفة يقدمون ثقافة كروية شاملة، واقبال غير مسبوق من المشجعين من مختلف دول العالم لاسيما دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا، فضلا عن ان المونديال يبعث برسالة محبة لكل شعوب العالم.
وعلى صعيد الفرق المشاركة، حمل المونديال مفاجئات كثيرة، اهمها هزيمة الفريق الألماني، بطل كأس العالم، امام المكسيك وكوريا الجنوبية وخروجها من المونديال في جولته الأولى، وخروج مبكر لاقوى أربعة منتخبات عربية (مصر، المغرب، تونس، والسعودية)، وبروز منتخبات لدول صغيرة في مقدمتها فريقا السنغال وكرواتيا قد يشكل احدها مفاجأة بالوصول الى الأدوار النهائية.
وما تنفرد به كرة القدم العالمية انها رياضة ساحرة، وكثيرا ما تكون غير منطقية، وأنها لعبة جماعية يحتاج فيها كل فرد إلى الآخر، وفيها لا يوجد لاعب يفوز ولاعب يخسر بل فريق يفوز وفريق يخسر، وأنها تفقد متعتها بدون جمهور واسع من المشجعين.
ومن دون كل الفنون الرياضية فان العامل السيكولوجي في مسابقات كأس العالم لكرة القدم يلعب الدور الرئيس في الفوز والخسارة، ليس فقط على مستوى الضغوط النفسية للاعبين بل وجمهور المشجعين الذين تتباين مواقفهم من الاستمتاع الى الحماس الى التشجيع الى الهوس..الى السكتة القلبية!..دون ان يدرك كثيرون ان السبب الرئيس وراء هذه الاحداث هو سيكولوجي خالص..وتلك هي مهمة هذه المقالة.
الضغوط النفسية لفريق اللاعبين
تعني الضغوط النفسية بمفهوم الطب النفسي وجود احداث خارجة عن سيطرة الفرد تجعله في وضع غير اعتيادي، او هي متطلبات استثنائية عليه، او تهدده بطريقة ما، او هي الصعوبات والأحداث التي تسبب للفرد توترا او تشكل له تهديدا. والذي يحصل في مباريات كأس العالم، أن كل هذه الضغوط تجتمع في اللاعب: وضع صعب امام مليارت المشاهدين، متطلبات الفوز استثنائية، تهديدات بالنبذ الاجتماعي والاعتباري والوطني قد يتعرض لها. واذا علمنا ان كرة القدم تلعب بالدماغ وان الرجل هي وسيلة تنفيذ ما يقرره الدماغ، عندها ندرك ان الضغوط النفسية تؤدي الى ارباك العمليات العقلية في الدماغ فيفقد القدرة على اصدار اوامر بالاداء الذي يحقق له الفوز ضمن 32 فريق كلها تريد ان تخرج بافضل صورة.
ان اول ضغط نفسي يتعرض له اللاعب هو انه يمثل دولة، فان حقق الفوز اعتبر بطلا منتصرا يحظى بتكريم شعبه وتكريم رسمي من حكومة دولته، وان خسر فانه سيتعرض الى النبذ والتحقير وربما القتل باعتباره خائنا.. وحصل هذا في مباريات كاس العالم ( 1994) للحارس الكاميروني (جوزيف أنطوان بيل) الذي تعرض منزله للحرق بعد أن حملّته الجماهير الغاضبة مسؤولية الهزيمة. والمؤسف اكثر ان المدافع الكولومبي (اندرياس اسكوبار) كان قد سجل خطئا هدفا في مرماه فتلقى العقاب بان قتل رميا بالرصاص بعد عودته وكأنه جندي خان الوطن!.
هذا هو الضغط النفسي الأهم الذي يتعرض له اللاعب في مباريات كاس العالم حصريا، أعني الخوف من عار الهزيمة الوطنية لأنها تعدّ حرب دول..الفرق فيها ان السلاح هنا كرة مدورة وان الدولتين متساويتان في العدد( 11مقاتلا).
(بالمناسبة، الصينيون القدامى لعبوا كرة القدم قبل اكثر من 2500 قبل الميلاد وكانوا يقدمون الولائم للفريق الفائز ويجلدون الفريق المهزوم!) .
الضغط النفسي الثاني:
يتحدد هذا الضغط بمستوى التحكم الانفعالي للاعب من حيث التوتر والشدّ العصبي والسيطرة على التصرف مع من يستثيره او يستفزه من فريق الخصم، فان كانت لياقته النفسية ضعيفة في تحكمه الانفعالي فانه يتصرف بانفعال.. حتى مع لاعب من فريقه، كما حصل مع حارس مرمى الفريق الايراني الذي دفع زميله مدافع فريقه بانفعال في مباراته مع الارجنتين. وحصل ايضا ان اللاعبين الايرانيين اعتمدوا الاستفزاز النفسي مع اللاعب رونالدو، وآخرين فقدوا اعصابهم وحصلوا على البطاقة الصفراء.
وثمة معلومة سيكولوجية لا يعرفها كثيرون، هي:
ان اهم عامل في التسديد على الشبكة وتحقيق هدف هو التحكم الانفعالي.. لأن التحكم الانفعالي يشّفر في الدماغ مكان الكرة في الهدف بتسديده صحيحة، فيما الانفعال يفقده التسديد الصحيح حتى لو كان على بعد خمسة امتار من الهدف، وحصل هذا كثيرا في المونديال ومن لاعبين كبار امثال ميسي ورونالدو.
وهنالك ثلاثة ضغوط نفسية اخرى يتحدد اولها بمستوى ثقة اللاعب بنفسه وباعضاء فريقه عند نزوله الى الملعب، ما اذا كان الفريق متجانسا نفسيا ويلعب بروح الفريق ام بروح انانية...يريد أن يكون هو البطل بتحقيق هدف. ويتحدد ثانيها بضغط المدرب، فمن يلّح على فريقه بهجوم متواصل غالبا ما يصاب بالفشل، ومن يعرف استراتيجية التهدئة وامتصاص زخم الفريق المناسب يعرف كيف يحافظ على معنويات فريقه ومتى يحتفظ بالكرة اطول وقت ممكن، ويعرف ايضا متى يشن هجوما معاكسا حين يلمح بدايات الوهن النفسي في فريق الخصم.. وحصل هذا في مباريات البرازيل والارغواي، وخسارة الفريق الالمانيّ.
وآخر تلك الضغوط هي الصورة التي يحملها اللاعبون عن الفريق المنافس، فان رأوا فيه انه فريق لا يمكن ان يهزم، فان الخوف والقلق يربكان العمليات الفكرية للدماغ بوصفه الجهاز المسؤول فيتشتت التركيز و يضعف اداؤه.. وحصل هذا مع الفريق الروسي في مباراته مع الارجواي الذي فاز عليه بثلاثة اهداف مع انه يلعب على ارضه وبين جمهوره.
لكن المدرب الروسي وظّف (السيكولوجيا) بامتياز في مباراة فريقه مع اسبانيا، فقد اعتمد استراتيجية الدفاع المحكم المعزز بتشجيع الجماهير الروسية، لتوليد الاحباط عند الفريق الاسباني ،ليراهن على ضربات الترجيح..وقد حصل بأقصاء الفريق المرشح بالحصول على كأس العالم.. وعاشت المدن الروسية ليلتها فرحا جماهيريا ووطنيا.
وكانت المفاجأة السيكولوجية هي منتخب روسيا، فقبل المونديال كان الفريق الروسي يحتل المرتبة السبعين في التصنيف العالمي، وكان الجميع يعدّه صيدا سهلا سيغادر مبكرا، فيما تفوق على منتخبات البرازيل والبرتغال واسبانيا بوصوله المرحلة قبل النهائية. وكاد ان يصل المربع الذهبي لولا تغلب منتخب كرواتيا عليه بركلات الترجيح(4-3)،ليغادر الفريق الروسي ومدربه المميز مرفوع الرأس، بمؤازرة سيكولوجية من جمهور واسع لعبت دورا رئيسا في تحقيق ما حصل.
والحقيقة السيكولوجية الأخيرة التي اثبتها مونديال روسيا، ان منتخب اللاعب الواحد أضعف معنويا من المنتخب الذي يلعب بروح الفريق، بدليل خسارة الكبار..ميسي ورونالدو ونيمار..وأن المنتخبات التي تلعب بروح جماعية توحدّها سيكولوجيا، تكون هي المرشحة للفوز بدليل وصول منتخبات: كرواتيا، بلجيكا، فرنسا، انكلترا..المربع الذهبي.
المنتخبات العربية وسرّ الدقيقة تسعين
هي المرة الأولى التي تشارك فيها اربع منتخبات عربية في نهائيات كأس العالم لكرة القدم، غير ان مشاركتها احدثت صدمة كبيرة لدى ملايين العرب، بخروج مبكر وخسارات قاسية، اثقلها هزيمة الفريق السعودي بخمسة اهداف امام الفريق الروسي، واوحشها الصورة الهزيلة لمنتخب (الفراعنة)الذي سقط امام الفريق الروسي بثلاثة اهداف مقابل هدف.
والمفارقة، ان المنتخبات العربية خسرت في الدقيقة تسعين، فالمنتخب المصري خسر امام اورجواي بهدف نظيف من خوسيه خيمينيز في الدقيقة 89، وهزمت المغرب في الثواني الاخيرة امام ايران، وخسرت تونس في مواجهتها أمام المنتخب الإنكليزي بهدف من هاري كاين في الدقيقة الأولى من الوقت بدل الضائع، وتلقت السعودية هدفين اضافيين للفريق الروسي في الوقت الاضافي.
وفي رأينا ان سرّ خسارة المنتخبات العربية في الدقائق الأخيرة يعود لسبب سيكولوجي خالص. فجميعها دخلت مسكونة بالخوف، وضعف الثقة بالنفس، ومقارنة تحملها بانها اقل مستوى من الفرق المشاركة، ولأن كرة القدم تلعب بالدماغ كما اوضحنا،فان هذه العوامل النفسية اصابت المنتخبات العربية بالتشوش الفكري الذي ادى الى تشتت التركيز وانعكاسه بالتالي على ضعف الأداء وغياب التركيز الذهني في التسديد،باستثناء الفريق المغربي الذي كان الافضل عربيا والمؤهل لعبور الدور الاول لولا الهدف الذي سجله المهاجم المغربى عزيز بوهدوز، خطئا فى مرماه فى الدقيقة الرابعة من الوقت المحتسب بدلا من الضائع.
وفي يقيني، ان المنتخبات العربية لم يحصل لها اعداد نفسي، اعني ان اللاعبين لم يتلقوا دروسا تخصصية في علم النفسي الرياضي تساعدهم على استثمار مهاراتهم الفنية وكيف يتعاملون نفسيا مع الفريق الخصم، وكيف يفهمون ان الدقيقة تسعين لا تعني نهاية المباراة، كما اتضح لنا من متابعتنا لهم كيف كانوا يراقبون الشاشات التي يظهر عليها الوقت. والأهم، كان على ادارة هذه المنتخبات ان تصطحب خبيرا سيكولوجيا متخصصا بعلم نفس الرياضة يكون برفقة المدرب اثناء المباراة، ويجري اختبارات نفسية قبل اللعب ليكتشف اللياقة النفسية لللاعبين ويمحو من ذاكرتهم اتكالية اضعفتهم.
وثمة مفارقة، أن منتخبات عالمية كبيرة منحت نفسها القابا بأسماء الألوان (الأبيض، الأحمر، الأزرق، السمائي) واخرى تدل على الفرح والمشاركة الجماهيرية مثل منتخب (التانغو، الديوك..)،فيما المنتخبات العربية منحت نفسها القابا تدل على التفرّد بالقوة التي لا تهزم(الأسود، ثعالب الصحراء، النسو، الصقور..) وتلك علّة سيكولوجية في الشخصية العربية أنها مصابة بـ(تضخم أنا)..تداري به عجزها البائس!
اضف تعليق