q

خالد بن الشريف

 

«لا ينبغي السماح للخوف من الشر أن يشل حركة حياتنا حتى وإن كان ذلك صعبًا في هذه اللحظات»، هكذا عبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن صدمتها إزاء حادث الدهس في برلين، الذي خلف وراءه 12 قتيلًا وعشرات الجرحى.

الواقعة التي ما زالت أصداؤها جارية حتى الساعة، أثارت بشدة مشاعر الخوف الممزوجة بالحزن لدى الرأي العام الألماني، وجذبت الكثير من التعاطف العالمي، على غرار حادثة الدهس في نيس الفرنسية قبل شهور.

ماذا حدث؟

عند الساعة الثامنة مساءً، الاثنين 19 ديسمبر (كانون الأول)، اقتحمت شاحنة عملاقة سوداء اللون سوقًا مكتظة بالناس، بالقرب من كنيسة الذكرى في حي كودام بقلب العاصمة الألمانية برلين.

تحكي سائحة أسترالية تدعى تريشا أونيل: «رأيت فقط تلك الشاحنة السوداء الضخمة تقتحم السوق وتصدم عددًا كبيرًا من الناس، ثم انطفأت كل الأضواء وكان كل شيء مدمرًا، دماء وجثث في كل مكان»، قبل أن تنهار بالبكاء.

قطعت الشاحنة مسافة ما بين 50 إلى 80 مترًا، وهي تدهس أمامها جموع المواطنين؛ مما أودى بحياة 12 شخصًا، وجرح قرابة 50 شخصًا، بعضهم أصيب بجروح خطيرة، قبل أن تهرع الشرطة وسيارات الإسعاف إلى عين المكان في أقل من خمس دقائق، لتجد جثة بقمرة الشاحنة، وتعتقل مشتبهًا فارًا، يعتقد أنه سائق الشاحنة.

بحسب الشرطة الألمانية فإن الشاحنة السوداء تحمل لوحة تسجيل بولندية، وترجح أنه تمت سرقتها من ورشة، أما الجثة التي عثرت عليها الشرطة داخل الشاحنة فتعود لشخص بولندي الجنسية مات مقتولًا بالرصاص، حيث من الممكن أن يكون السائق الذي كان يقود الشاحنة أثناء الدهس، هو من قتل البولندي وسرق شاحنته، كما ترجح شرطة برلين.

وقد تكلف المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة، المختص بالجرائم الكبرى المهددة للأمن القومي والأحداث الإرهابية، في التحقيق في واقعة الدهس بالعاصمة الألمانية برلين، التي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى.

من الذي نفذ هجوم الدهس؟

في الحقيقة ما تزال هوية منفذ أو منفذي الهجوم غير واضحة حتى الآن، فبحسب إذاعة «برلين- براندبورغ» نقلًا عن مصادر أمنية، فإن الرجل المعتقل، المشتبه في قيادته للشاحنة التي دهست جمعًا من المواطنين في إحدى أسواق الكريسماس في برلين مساء أمس الاثنين باكستاني الأصل، بعمر 23 سنة، وقدم إلى ألمانيا في 31 ديسمبر (كانون أول) عام 2015، طالبًا اللجوء.

ونقلت الوكالة الألمانية للأنباء (د.ب.أ) عن مصدر أمني أن «المشتبه به استخدم أسماء مختلفة؛ مما جعل تحديد هويته أمرًا أكثر صعوبة، كما أنه نفى تورطه في الحادث» مضيفة الوكالة الإعلامية أنه كان «يستقر في أحد نزل اللاجئين بالعاصمة الألمانية».

فيما لم تعلق الشرطة الألمانية بشكل رسمي على هوية منفذ الحادث، بينما صرّح رئيس المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة هولغر مونش بأنه لا يستبعد أن يكون عدة أشخاص شاركوا في الاعتداء.

وذكر موقع «دويتشه فيله» الإعلامي أن ألمانيا تجري اتصالات مع باكستان بشأن المشتبه به المقبوض عليه، كما وضعت شرطة برلين بوابة إلكترونية خاصة، مطالبة المواطنين بمدها بالصور والفيديوهات التي بحوزتهم بشأن واقعة أمس.

من جانب آخر، أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) مسؤوليته عن الحادث، إلا أنه لم يصدر أي تعليق ألماني رسمي تجاه هذا الإعلان حتى الآن.

إلا أنه تم إخلاء سبيل المشتبه في ضلوعه في تنفيذ هجوم برلين، في ساعة متأخرة من هذا اليوم.

لكن ما هو مؤكد وفق ما قاله وزير الداخلية الألماني توماس دي ميزير هو أن «الحدث المروع الذي وقع مساء أمس كان هجومًا متعمدًا بدون شك»، كما تحدثت الشرطة على «احتمال أن يكون الحادث اعتداءً إرهابيًّا»، وأكدت أن المقتول وسط قمرة قيادة الشاحنة لم يكن هو السائق أثناء عملية الدهس.

وما تزال التحقيقات جارية حتى الساعة، في انتظار أن يكشف المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة، المكلف بالتحقيق في الحادث، عن هوية المنفذ أو المنفذين، ودوافعه وراء الهجوم.

كيف استجاب الساسة الألمان لواقعة الدهس؟

طغت مشاعر الغضب والحزن على الرأي العام الألماني في تعاطيه مع الفاجعة، التي قتل خلالها 12 شخصًا وجرح قرابة خمسين شخصًا، ورغم ذلك، كانت تصريحات الساسة في الحكومة الألمانية تحمل الكثير من الاتزان في هذه الظروف الصعبة.

وصرح وزير الداخلية الألماني توماس دي ميزيير في بيان له حول الحادث «مهما كان ما سنكشفه عن دوافع المهاجم، يجب ألا نسمح بأن يسلبوا منا نمط حياتنا القائم على الحرية»، فيما قال وزير داخلية ولاية سارلاند الألمانية كلوس بوليون إنه « يتعين أن نقول إننا في حالة حرب، رغم أن بعض الناس الذين يرغبون دائمًا في رؤية الخير لا يرغبون في رؤية ذلك».

من جهتها، تفقدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مكان الاعتداء في برلين، ووضعت إكليل زهور في مكان الحادث برفقة وزيري الخارجية شتاينماير والداخلية دي ميزير، وسجلوا أسماءهم في سجل التعازي في الكنيسة.

وكانت المستشارة ميركل قد أعربت عن صدمتها إزاء الحادث قائلة: «سيكون ذلك أمرًا بغيضًا بالنسبة لكثير من الألمان، الذين يعملون يوميًّا، من أجل مساعدة اللاجئين»، مردفة: «سنجد القوة من أجل الحياة التي نريد أن نعيشها في ألمانيا: حرة ومشتركة ومنفتحة».

فيما قال وزير العدل الألماني هايكو ماس: «حادث الدهس لم يصب قلب برلين فقط، ولكنه أصابنا جميع»، معزيًا أسر الضحايا والجرحى.

هذا وأمرت الداخلية الألمانية بتنكيس الأعلام حدادًا على الضحايا، كما أعلنت أنها اتخذت التدابير الأمنية اللازمة لإبقاء أسواق عيد الميلاد مفتوحة دون خطر.

كيف استقبل ساسة العالم «واقعة برلين»؟

استجاب العالم بكثير من التعاطف مع ألمانيا إثر تعرضها لهذا الاعتداء، وأعاد للساسة الأوروبيين توجسهم مجددًا من شبح «الإرهاب» الذي ضرب أوروبا بقوة في هذا العام.

وكان الرئيس الفرنسي فرانسو هولاند من السباقين، الذين اتصلوا بميركل معربًا عن «وقوف فرنسا حكومة وشعبًا مع ألمانيا في هذا الحادث» الذي أصاب فرنسا سابقًا على نفس الشاكلة.

فيما أدان وزير الخارجية الدنماركي، أندريس سامويلسون، عملية الاعتداء معلقًا: «الهجوم في برلين هجوم على جميع من يريدون عالمًا سلميًّا وحرًّا وديمقراطيًّا. نحن متحدون في بُغضنا لهذه الجرائم، وفي إصرارنا على حماية مواطنينا بقدر الإمكان».

وفي السياق ذاته، هاتف الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما السيدة أنجيلا لميركل، مؤكدًا لها تعاطف الولايات المتحدة الأمريكية مع ألمانيا، أما بالنسبة للمرشح الجمهوري الفائز في الانتخابات الأمريكية، دونالد ترامب، فقد ندد بما سماه «الهجمات المتواصلة للإرهابيين الإسلاميين على المسيحيين».

بينما عبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن صدمته أمام «وحشية الهجوم على سوق الميلاد في برلين»، على حد قوله. مثلما أبدت كل من لبنان والإمارات ومصر تضامنها مع ألمانيا منددة بالهجوم.

وعلى أثر الحادث المأساوي، أعلنت عدد من البلدان الأوروبية، مثل النمسا وفرنسا وبلجيكا، استنفارها الأمني، من احتمال حدوث «هجوم إرهابي» بمناسبة أعياد السنة الجديدة، حيث تكثر الاحتفالات، ويتجمع الناس في ساحات الشوارع.

كيف تؤجج واقعة الدهس اليمين المتطرف في ألمانيا؟

تضفي «الاعتداءات الإرهابية» شرعية كبيرة لخطابات اليمين المتطرف بألمانيا، الرافض للهجرة والإسلام، وبخاصة أن العديد من الاعتداءات التي ضرت أوروبا هذا العام، ارتكبها مهاجرون أو لاجئون منحدرون من إحدى بلدان العالم الإسلامي؛ مما يرفع أسهم الأحزاب اليمينية أمام منافسيهم الليبراليين داخل المشهد السياسي الأوروبي بشكل عام.

وكان حزب البديل الألماني المعارض للاتحاد الأوروبي والمعادي للاجئين قد دعا «لتطبيق حظر فوري على دخول أي أشخاص غير معروفي الهوية إلى ألمانيا»، مضيفًا: «لا بد من مراقبة الحدود بحيث لا يمكن لأحد الدخول بشكل غير شرعي، وبحيث لا يمكن أن يكون هناك هويات متعددة، وبحيث يمكن رفض طالبي اللجوء المعروفين للشرطة بشكل فوري».

ويخشى مراقبون من أن يكون المشتبه به في تنفيذ هجوم الدهس في برلين، منحدرًا من فئة المهاجرين أو اللاجئين، حيث من شأن ذلك أن يعزز شعبية اليمين الأقصى داخل ألمانيا، ويقوي حظوظه الانتخابية في السباق الرئاسي الألماني القادم، كما قد يضطر الليبراليون في الحكومة الألمانية، بسبب ذلك، إلى التخلي عن سياستهم المفتوحة تجاه المهاجرين واللاجئين بشكل عام، بعد سلسلة «الاعتداءات» التي ضربت ألمانيا في هذه السنة، وتورط فيها لاجئون ومهاجرون.

لكن رغم الأصوات اليمينية المتعالية، يبدو أن الساسة الألمان حتى الآن يتعاملون مع الأحداث الصادمة في برلين، بنوع من التوازن، حيث حرص المسؤولون الألمان على عدم التسرع في إصدار الأحكام قبل اكتمال التحقيق، كما سبق لرئيس البرلمان الألماني أن حذر من الاستغلال السياسي لهجوم برلين.

اضف تعليق