q

مما لا شك فيه أن أعلام الإسلام ورجاله الأفذاذ وقادته الأبطال عبر التاريخ والذين أقاموا الحضارة الإسلامية وأسسّوا دعائمها هم رجال الشيعة وفي كل مجالات الحياة وفي مختلف العلوم والفنون، فقد تصدّرت الشخصيات الشيعية ميادين الأدب والعلم والسياسة والحكمة والجهاد في جميع مراحل التاريخ الإسلامي، وتبرز هذه الحقيقة لكل دارس وباحث وهي أن الشيعة هم عمود حضارة الإسلام، ولولا الشيعة لما كان للإسلام حضارة، فأرقى فترات الإزدهار والتمدّن التي شهدها التاريخ الإسلامي كانت في عهد الدول الشيعية كدول الحمدانيين والفاطميين والبويهيين والإدريسيين والموحدين والمرابطين والحموديين والمزيديين وغيرهم، كما إن أعظم الشخصيات التي عرفها التاريخ الإسلامي هم رجال الشيعة كالإدريسي والبيروني وأبي فراس الحمداني وسيف الدولة الحمداني والمتنبي والشريف الرضي وابن الرومي وأبي تمام وعضد الدولة البويهي وأسامة بن منقذ وابن الأبار وغيرهم الكثير.

نفي التشيّع عن الشخصيات الشيعية

يلاحظ الدارس والمتتبع للتاريخ الأدبي والعلمي والفكري الإسلامي إن المؤرخين القدماء قد أشاروا في تراجمهم لشخصيات التاريخ إلى المذهب الذي تدين به الشخصية التي يترجمون سيرتها، وعززوا قولهم بالدلائل الواضحة والقرائن البينة التي لا يستطيع أحد التشكيك فيها، وبعض هؤلاء المؤرخين كان من معاصري الشخصيات التي ترجم لها أو قريباً منها في العهد فهو يدون قوله عن معايشة لتلك الشخصية وهو أعرف من الذي يأتي بعد قرون طوال ليغير من عقيدة تلك الشخصية التاريخية ويقول بخلاف التاريخ والمؤرخين وبدون حجة أو دليل.

لكن بعض الكتاب والدارسين المعاصرين وكان أغلبهم ممن حمل صفة (دكتور) راح يحاول تغيير الحقيقة التاريخية عبثاً لنفي التشيع عن الشخصيات الشيعية التي دلت كل الحقائق التاريخية وأكدت أقوال المؤرخين على تشيعها، وكان من ضمن هذه الشخصيات التي تعرضت سيرتها لمثل هذه المحاولات الفاشلة هي شخصية القاضي ابن الأبّار القضاعي الأندلسي.

إفراغ التاريخ الشيعي

بدأت تنتشر ظاهرة نفي التشيّع عن الشخصيات الشيعية الصريحة مؤخّراً فلا تجد لهذه الظاهرة قديماً مكاناً لدى المؤرخين، كما لا تجد لها أثراً حتى عند أكثرهم تعصّباً على الشيعة، فلم يكن أحد من المؤرخين القدماء يجرؤ على نفي التشيّع عن شخصياته ورجالاته، لكن العجيب أن تجد من الكتاب المحدثين من تنكر لهذه الأقوال وأنكر حقائق التاريخ البينة وقال بخلاف ذلك دون حجة أو دليل أو قرينة أو حتى مصدر واحد يؤيد قوله سوى مصدر اجتهاده الشخصي وهواه السياسي.

ولا يخفى على القارئ الغاية من وراء ذلك وهي إفراغ التاريخ الشيعي الفكري والعلمي والسياسي والأدبي الزاخر من جهود أعلامه ومفكريه وسياسييه وقادته، وتجريده من رجالاته الذين اتخذوه منهجاً وعقيدة، وحملوه فكراً وعلماً كابن الأبّار الذي نشأ وترعرع في دولة شيعية وهي الدولة الموحدية فوالاها وبقي موالياً لها حتى بعد أن سقطت، كما يقول الكاتب والباحث المغربي الصّديق محمد بن شريفة: (إنّ الرجلَ ـ أي ابن الأبّار ـ يُعدّ غرس الموحّدين، وربيب دولتهم الأصلية، والفرعية أيّ في الأندلس وتونس).

ابن الأبّار

يعدُّ ابن الأبّار وهو القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد القضاعي الأندلسي البلنسي المعروف بـ (ابن الأبّار) من أعظم الشخصيات التي أفرزها تاريخ المسلمين في الأندلس، ولد في بلنسية بالأندلس سنة (595هـ/1199م) وقتل في تونس سنة (658هـ/1260م)، وقد لُقّب بـ (أحد أئمة الدنيا)، فهو الفقيه والمؤرخ والعالم والمحدِّث والمفسِّر والأديب والشاعر والكاتب وقد برع في كل مجالات العلم حتى جاوزت مؤلفاته الخمسين مؤلفاً، كما كان له دور كبير وفاعل ومؤثر على الحياة السياسية في الأندلس وهذا ما جعله نصب أعين هؤلاء الكتاب لنفي التشيّع عنه.

تشيّعه

لا يخامر كل من يطلع على كتب ابن الأبار ومطالعة سيرته ونشأته وحياته أدنى شك على تشيّعه الصريح، فقد ولد ونشأ وترعرع في دولة شيعية، وكان يشغل منصباً رفيعاً فيها وهو الكتابة في البلاط كما كان يتزعّم الوفود التي ترسلها الدول للاستغاثة بحلفائها أو المفاوضة مع خصومها وهذا يدل على عظيم شأنه وسمو مكانته ورفيع منزلته وقد اتفقت جميع التواريخ على شيعيته ودلت كل الحقائق والدلائل والقرائن على ذلك.

ونرى من المناسب استعراض أقوال بعض المؤرخين على ذلك والاستشهاد ببعض الدلائل التي أكدت شيعيته الصريحة التي لم يستطع أي مؤرخ إنكارها.

مع المؤرخين

أجمعت المصادر الشيعية والسنية على تشيّع ابن الأبّار وشهد بتشيّعه حتى المتعصّبين على التشيّع والمتحاملين عليه.

يقول الذهبي (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز) المتوفى سنة (748هـ)، في كتابه: (سير أعلام النبلاء) وهو يتحدّث عن بعض آثار ابن الأبّار: (وقد رأيت لأبي عبد الله الأبار جزءاً سمّاه (درر السمط في خبر السبط) ـ يعني الإمام الحسين (عليه السلام) ـ بإنشاء بديع يدل على تشيّع فيه ظاهر، لأنه يصف علياً (رضي الله عنه) بالوصي، وينال من معاوية وآله).

وقال بتشيع ابن الأبّار أيضاً الصفدي في (الوافي بالوفيات) (ج3ص356) بقوله: (وله جزء سمّاه (درر السمط في خبر السبط) ينال فيه من بني أمية ويصف علياً (عليه السلام) بالوصي وهذا تشيّع ظاهر)

كما قال بتشيّع ابن الأبّار أيضاً المقري (شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني) في كتابه: (نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب)، وقد ذكر له قصيدة في رثاء الحسين (عليه السلام) في (ج2ص604) منها:

أتنتهبُ الأيامُ أفلاذَ أحمدٍ *** وأفلاذُ من عاداهُمُ تتوددُّ

ويضحى ويظما أحمدٌ وبناتُه *** وبنتُ زيادٍ وردُها لا يصرّدُ

أفي دينهِ ؟ في أمنهِ ؟ فـي بلادهِ ؟ *** تضيق علـيهم فسحةٌ تتورّدُ ؟

وما الدينُ إلّا دينُ جدهمُ الذي *** به أصدروا في العالمينَ وأوردوا

ثم قال المقري بعد إيراده هذه الأبيات: (انتهى ما سنح لي ذكره من (درر السمط) وهو كتاب غاية في بابه، ولم أورد منه غير ما ذكرته لان في الباقي ما تشمُّ منه رائحة التشيّع، والله سبحانه يسامحه بمنه وكرمه ولطفه).

آثار تشيّعه في كتبه

هذا نص ما قاله المقري في نفح الطيب وقد نوّه إلى ذلك الأستاذ الدكتور عبد اللطيف السعداني من أهل المغرب (فاس) في محاضرته التي حملت عنوان: (حركات التشيّع في المغرب ومظاهره) ونشرتها مجلة (الهادي) الصادرة في إيران باللغة العربية في عددها الثاني عام (1391هـ).

وقد أشار السعداني إلى وجود كتاب آخر لابن الأبّار في رثاء الحسين (عليه السلام) حمل عنوان (اللجين في رثاء الحسين) فقال ما نصه:

(ونتلمّس هذه الحركة فيما بعد عصر مبدع هذه القصيدة الحسينية فنعثر على أثر آخر للفكر الشيعي حيث نلتقي بأحد أدباء الأندلس في النصف الأول من القرن السابع الهجري هو القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي البلنسي (المقتول في20 محرم سنة 658هـ) ونقف على اسم كتابين من مؤلفاته العديدة موضوعهما هو رثاء سيدنا الحسين.

أولهما: (اللجين في رثاء الحسين)، ولا يعرف اليوم أثر لهذا الكتاب غير اسمه وثانيهما: (درر السمط في خبر السبط) وقد اعترف المقري في (نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب) بأنه أغفل نقل بعض الفقرات من الكتاب مما (يشمّ منه رائحة التشيع)، ثم إنه اكتفى بنقل جزء من الباقي فقط).

وهذا القول الواضح والشهادة الصريحة لا يدعان مجالاً للشك على تشيّع ابن الأبّار

في شعراء الشيعة

ويقول السيد جواد شبّر في (شعراء الحسين) (ج4) في تعليقه على كلام السعداني: (ومهما أطلنا في التنويه بهذا الكتاب ـ أي درر السمط ـ وأسلوبه الجميل وبيانه الرائع وتأثيره البالغ في سامعيه بوصفه لتلك الحوادث المؤلمة في تاريخ الإسلام، فإنه لا يكفي لبيان منزلته في الأدب الشيعي، وهو على كل حال يقدّم لنا الدليل القاطع على رواج حركة التشيع في الأندلس في هذا العصر).

ثم يبدأ شبّر بنقل فقرات من كتاب (درر السمط) ويقول في مقدمتها: (ولكي نأخذ فكرة واضحة عن ذلك أنقل بعض الفقرات من هذا الكتاب مما لا يبقى معه شك بتشيّع صاحبه....الخ)

وأكد تشيّع ابن الأبار كذلك الآغا بزرك الطهراني في كتابه (الذريعة إلى تصانيف الشيعة)، والسيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة) والسيد حسن الصدر في (دائرة المعارف الإسلامية الشيعية).

كما يدلنا قول ابن الأبّار من قصيدة يمدح فيها أحد ملوك الموحّدين ويتوعّد بها الأيوبيين على تشيّعه الصرف فلم يكن أعدى على الشيعة من الأيوبيين يقول ابن الأبّار:

يا آلَ أيوبَ اضْعَنُوا عَنْ مِصْرِهِ *** أَو أَذْعنُوا فَلَهُ بهَا إحْرَاقُ

لا عَائِقٌ يَثْنِيهِ عَنْهَا مَنْ رَأَى *** لَيْثَ العَرِين عَنِ العَرِينِ يُعَاقُ

مع الدكتور حسين مؤنس

مع كل ما ذكرنا من هذه الأدلة الناصعة والبراهين الساطعة على تشيّع ابن الأبّار إلّا أنك تجد من ينبذ كل هذه الحقائق وراء ظهره ويخلع عن ابن الأبّار صفة التشيّع لأغراض مذهبية وسياسية فالقلوب العمياء أعمت أبصار أصحابها.

وهذا ما حصل (للدكتور) حسين مؤنس الذي لم يحترم نفسه ولا لقبه العلمي حينما نفى صفة التشيّع عن ابن الأبّار في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن الأبّار (الحلة السيراء) ـ وهو كتاب نفيس يضم تراجم رجال الأندلس والمغرب وغيرهم تبدأ من المائة الأولى للهجرة حتى أوائل المائة السابعة ـ بقوله: (إنه ـ أي ابن الأبّار ـ ليس بشيعي لأنه لم يترك السنة ولكنه طالبي لأن الشيعي هو الذي يتبع مذهب الشيعة ويميل عن السنة) !!!!

أهذا غاية علمك أيها الدكتور ؟ والله إنها لمن أعظم المهازل وأشد المآسي وقعاً على التاريخ الإسلامي أن تتصدّى أنت وأمثالك لدراسته.

وليتك عرفتنا بمعنى طالبي ؟

أسمعتم بفرقة تسمى (الطالبية) ؟

وهل هي فرقة من فرق المسلمين ؟

وماهي عقائدها ؟

ومن هم أئمتها ؟

وإلى من تنتسب ؟

أإلى الشيعة أم إلى السنة ؟

فإن كنت تقصد إن ابن الأبّار طالبي لأنه يوالي علياً ويُطلق عليه لقب (الوصي) كما في كتبه فهو شيعي صريح، فلماذا هذا التلاعب والتزوير والتحريف والتدليس في عقيدة الرجل المسلم الشيعي الذي لم تجد أنت ولا غيرك اعوجاجاً ولا انحرافاً في عقيدته ودينه فنفيت التشيّع عنه ؟

وهل أن الشيعي برأيك هو من يميل عن سنة النبي (صلى الله عليه وآله) ؟

الله أكبر قاتلهم الله أنى يؤفكون هلا بحثت ونقّبت أيها (الدكتور) عن عقائد الشيعة الصافية النابعة من صميم الإسلام والقرآن وقارنت بينها وبين العقائد المزوّرة والخاطئة التي نُقلت إليك عنهم ؟

إنك في الحقيقة عندما حققت هذا الكتاب صُدمت بأن هذا الرجل كان مسلماً حقيقياً لا شك في عقيدته ولكنك بقيت على عماك بما سمعته من خرافات وتخاريف عن الشيعة من شيوخك المأفونين فلم تكلّف نفسك بالبحث عن الحقيقة ولم تشأ أن تتنازل للحق وأخذتك العزة بالإثم فقلت ما قلت طعناً في عقيدة رجل مؤمن ظلماً وبهتاناً وسيقاضيك ابن الأبّار بما قلت عنه أمام الملك الديان:

إِلَى الدَّيَّانِ يَوْمَ الدِّيْنِ نَمْضِي *** وعند الله تجتمعُ الخصومُ.

مع الدكتور بادكوبة

وقد فتح مؤنس الباب لغيره من الكتاب في نفي التشيّع عن الشخصيات والأعلام الشيعية بافتراضات واهية لا يقوم لها دليل ولا تستند إلى قرينة فحذا حذوه (الدكتور أحمد الهزاوة) في ذلك في مقاله (الأدب الشيعي في الأندلس) (دراسة في تجربة ابن الأبّار)، حيث يستعرض (الهزاوة) في مقاله نشأة الدولة الأموية في الأندلس والتي اقتفت سياستها في الشرق في حرب التشيّع فيقول: (وقد وصل الأمر بالأمويين الذين كانوا يُراقبون الأوضاع الاجتماعيّة للشيعة آنذاك، أنّهم كانوا إذا ظفروا بشيعيٍّ قتلوه). ثم يقول: (وقد عمل الأمويّون في الأندلس على تثبيت عقائد أهل السنّة والترويج للمذهب المالكي مرفقاً ذلك بمحاربة الفكر الشيعي).

والظاهر من حديث الدكتور إنه يريد أن يقول إن الأمويين كانوا مهتمين بالعقائد السنية، ولو طالعت فترة حكم الدولة الأموية لوجدت أنهم كانوا أبعد ما يكون عن العقيدة والدين بمختلف مذاهبه، فقد عاثوا فساداً في الأندلس، وتاريخ قرطبة وغرناطة وإشبيلية حافل بالثورات والانتفاضات والحروب ضد السلطة الأموية الظالمة التي لم تختلف سياستها في الأندلس عن سياستها في الشام، وكان من هذه الثورات التي قام بها المسلمون في الأندلس ضد الفساد الأموي ما وصفت بأنها: (تشيب لهولها الولدان) وهي واقعة (الربض)، ورغم إنها وغيرها كانت تقمع بقسوة ووحشية، إلا أن الثورات على الأمويين كانت تتوالى وهذه الثورات لم يقم بها الشيعة بل السنة، فلم قاموا بهذه الثورات إذا كان الأمويون (قد عملوا في على تثبيت عقائد أهل السنّة) ؟

فالظاهر من سياق حديثه إنه على قناعة أنهم كانوا يعملون على تثبيت عقائد أهل السنة، فهل أن تثبيت هذه العقائد لا يتأتى ـ في نظره ـ إلا من خلال محاربة فكر أهل البيت (عليهم السلام) وقتل الشيعة !!

مع قوله عن الدول الشيعية

ثم يقول عن قيام الدول الشيعية في بلاد المغرب ومصر والأندلس: (لم تدُم السياسة الأمويّة ضد التشيّع طويلاً، وذلك لوجود ثغرات في الصفّ الأموي، مثل قيام دولة الأدارسة في المغرب، والفاطميين في تونس ومصر، وكذلك ضعف وعجز الحكّام الأمويين أنفسهم، ذلك كلّه أدّى إلى نفوذ الأفكار الشيعيّة إلى تلك الديار، فسقوط الأمويين وتشكيل حكومة ملوك الطوائف التي كان مِن جُملتها الحمّوديون، وكانوا أصحاب ميول شيعيّة، أدّى إلى توفير المناخ لنموّ العقائد الشيعية والأدب الشيعي في الأندلس، ومِن المحتمل أن يكون تشيّع الحمّوديين الذي تأثـّر بعقائد الشيعة الأدارسة تشيّعاً زيديّاً).

يبدو إن هذا (الدكتور) لم يكن ملماً بتاريخ المغرب العربي والأندلس حيث يقول عن الحموديين بأنهم كانوا: (أصحاب ميول شيعية) (ومن المحتمل أن يكون تشيّع الحموديين الذي تأثر بعقائد الشيعة الأدارسة تشيّعاً زيدياً) !!!

وفي الحقيقة إن دولة بني حمود كانت امتداداً لدولة الأدارسة، وقد حكمها أحفاد الأدارسة أنفسهم، وقد قامت على أسس شيعية وليس ميول كما يقول الدكتور، ودلت جميع الحقائق التاريخية على أنها كانت دولة شيعية اثني عشرية وليست زيدية.

ثم يناقض نفسه بنفسه فيقول عن دولة بني حمود: (قامت سياسة الحمّوديين على التسامح، فلم يجبروا أحداً من رعيّتهم على اعتناق مذهب أهل البيت (عليه السلام).

ومذهب أهل البيت كما هو معروف هو التشيع الإثني عشري وليس الزيدي، ثم يطلق على شعراء الأندلس الذين عاشوا في ظل الدولة الحمودية صفة شعراء الشيعة فيقول: (وقد استمرّ حكمهم فترةً من الزمن مهيمنين فيها على قسمٍ من بلاد الأندلس، ومن الطبيعي أن تتأثر طبقات الرعيّة بهذه الحكومة، فقد برزت مجموعة من الأدباء والشعراء الشيعة خلال تلك الفترة من حكمهم).

فإذا لم تكن تلك الدول شيعية فلماذا تطلق عليها صفة (التشيّع) ؟ ولماذا أطلقت على شعرائها لقب: (الشعراء الشيعة) ؟ ثم على أي مصدر اعتمدت في احتمالك بأن الدولة الحمودية كانت زيدية وكل الدلائل والحقائق تؤكد على أنها كانت دولة شيعية إثني عشرية ؟

مع قوله في شعراء الأندلس الشيعة

ثم يستعرض شعراء الأندلس الشيعة فيقول: (وقد أنشد الشعراء قصائد كثيرة، كان منهم الشاعر ابن درّاج، الذي أنشد قصائد غرّاء للأمراء الحمّوديين، وكذلك لأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، ويعتبر أوّل شاعر أندلسي نظـّم شعراً حزيناً في مصائب أهل البيت (عليهم السلام)، يقول ابن بسّام حول قصيدة ابن درّاج الهاشميـّة: (إذا سمع دعبل الخزاعي والكميت بن زيد قصيدتَه هذه فلا يمكنهما أن ينبسا ببنت شفة).

وبعد أن يستعرض هؤلاء الشعراء الشيعة ومدائحهم لأهل البيت (عليهم السلام) ينفي عنهم التشيع بقوله:

(طبعاً، لا يمكن الحكم على هؤلاء الشعراء بالتشيّع، وذلك لأن الأوضاع المضطربة في ذلك الزمان ووجود دولة ذات ميول شيعيّة أمثال الحمّوديين، والطمع في عطايا الملوك والحكـّام، ذلك كلّه أدّى ببعض الشعراء إلى كتابة هكذا أشعار في مناقب ورثاء أهل البيت (عليهم السلام) !!

الله أكبر إنه يناقض نفسه بنفسه، فهو يصف دولة بني حمود بأنها: (قامت سياسة الحمّوديين على التسامح، فلم يجبروا أحداً من رعيّتهم على اعتناق مذهب أهل البيت (عليه السلام).

إذن ما الذي يجبر الشعراء على قول أشعار في مناقب ورثاء أهل البيت وماهي (الأوضاع المضطربة) التي تضطرهم إلى ذلك ؟

ثم يحاول أن يدعم قوله بما يعضده ولكنه لا يجد من قال بقوله من المؤرخين القدماء ولا حتى المتقدمين فيستعين بمن لا يُعتد به ولا يُأخذ عنه فيقول: (وبهذه المناسبة، فقد شكّك بعض الباحثين المعاصرين في تشيّع هؤلاء الشعراء، كما شكـّكوا باعتقادهم الإثني عشري) ثم يذكر في الهامش مصدرين لا يعتدّ بهما مقابل ما ذكرنا من المصادر المعتبرة على تشيّع ابن الأبّار وهذان المصدران هما: (تاريخ الأدب العربي) لشوقي ضيف، و(البيئة الأندلسيّة وأثرها في الشعر) لسعد إسماعيل شبلي.

غير أن الهزاوة لا يذكر الأقوال المشككّة في تشيّع ابن الأبّار في هذين المصدرين الذين ذكرهما في الهامش ويكتفي بذكرهما فلو كانا حقيقة قد شككا بذلك كما يدعي فلم أخفى ما ذكر هذان المصدران من قول واكتفى بالإشارة إليهما وقد كان هذا هدفه الوحيد من الموضوع ؟

محاولة تزوير البصمة الشيعية

إن الدكتور في مقاله يرمز إلى هذا الأدب بالشيعي لأنه يحتوي على بصمة شيعية بحتة كما في قوله: (وبمرور الزمان صار الأدب الشيعي أكثر هيجاناً، وبالخصوص في عصر المرابطين والموحّدين في الأندلس)، ثم يخلع صفة التشيّع عن أصحاب هذا الأدب كما في قوله عندما يعدد شعراء الأندلس: (ابن أبي خصال (465 ــ 540هـ) كاتبٌ أميرٌ سنيٌ من المرابطين، ويوسف بن تاشفين، أنشد قصائد في مناقب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعترته ومصائب أهل البيت (عليهم السلام) ، وكذلك صفوان بن إدريس (561 ــ 595هـ) شاعرٌ من شرق الأندلس، كان مِـن مُريدي ابن أبي الخصال؛ فقد أعرض فجأةً عن مدح الأمراء وانشغل بمدح النبي وآله (عليهم السلام)، وكتب أشعاراً حزينة مؤثــّرة في رثاء الحسين بن علي (ع)، أدّت إلى تهييج النـاس وبعث الحماس فيهم، وكانت مراثيه تـُقرأ في مجالس العزاء في مرسيليا والمناطق الشرقية من الأندلس، كما كانت تثير الحماسة والهمـّة في نفوس الناس).

ما هذا التناقض يا دكتور إنك قلت قبل قليل: (أن الشعراء كانوا يقولون الشعر في أهل البيت طمعاً في عطايا الملوك والحكـّام)، ثم تقول عن صفوان بن إدريس: (إنه أعرض عن مدح الأمراء وانشغل بمدح النبي وآله (عليهم السلام) !

فإذا كان بعيداً عن الأمراء فكيف ينال عطاياهم ؟ ثم أي صفة تُطلق على ابن دراج القسطلي الذي قال شعراً في أهل البيت ما إن: (إذا سمع دعبل الخزاعي والكميت بن زيد قصيدتَه هذه فلا يمكنهما أن ينبسا ببنت شفة) كما يقول ابن بسام في الذخيرة في قصيدة ابن دراج القسطلي الهاشمية ودعبل والكميت هما من أكبر شعراء الشيعة وأعظمهما أثرا في مدح ورثاء أهل البيت فإذا كان ابن دراج سنياً فكلنا سنة لأن ابن دراج يقر لعلي (عليه السلام) بالوصية كما في قوله في قصيدته الهاشمية وهو يمدح الملك الحمودي علي بن حمود:

إلى ابن الوصيِّ إلى ابن النبيِّ *** إلى ابن الذبيح إلى ابن الخليل

وقوله أيضا:

يا ابن الوصيِّ علي أوصِ سمِّيهِ *** ألا يضيعَ سميّ جدكَ أحمدِ

أليس نقطة الخلاف بين الشيعة والسنة هي هذه الكلمة ؟

أليس ما يميّز الشيعي عن السني هو إطلاق هذا اللقب على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) التي تدل دلالة واضحة على اعتقاد صاحبها بأن علياً أحق بالخلافة من غيره ؟

بصمة التشيّع الصريحة

ألم تكتشف أيها الدكتور فرق البصمة الشيعية عن السنية في المدائح النبوية في الأندلس بين شعراء الشيعة وشعراء السنة وهذا واضح لكل دارس للأدب الأندلسي، فشعراء السنة كانوا يبدؤون في مدائحهم بمدح النبي (صلى الله عليه وآله)، ويتدرّجون بمدح الخلفاء الثلاثة ثم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ ولكن دون إطلاق كلمة الوصي عليه ـ ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة كما يزعم شيوخ السنة ثم بقية الصحابة وآل البيت كما في مدائح ابن الجنان الأندلسي وغيره من شعراء السنة.

ولكنك لا تجد مثل هذا التدرّج لدى شعراء الشيعة الأندلسيين الذين ذكرتهم، بل تجد ما يدل على العكس، فابن دراج الذي تزعم أنه لم يك شيعياً يخاطب علي بن حمود بقوله:

ردّ الإلهُ إليه حقَّ والدهِ *** فكلُّ حقٍّ به ردٌ لمن كانا

وفي هذا البيت إشارة واضحة إلى مؤامرة السقيفة التي تمخّضت عن اغتصاب حق أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة.

أما ابن أبي خصال (465 ــ 540هـ) الذي وصفته بـ (كاتبٌ أميرٌ سنيٌ من المرابطين) فيقول عن ظالمي آل محمد:

ولم يرقبوا إلاً لآلِ محمدٍ *** ولم يذكروا أن القـيامةَ موعدُ

وإنَّ عليهم في الكتابِ مودةٌ *** بقـرباهُ لا ينحاش عنها موحدُ

فيا سرعَ ما ارتدّوا وصدّوا عن الهدى *** ومالوا عن البيت الذين بـه هدوا

ويا كبـدي أن أنـتِ لـم تتـصدّعي *** فأنتِ مـن الصفوانِ أقسى وأجلدُ

فيـا عبـرتي إن لم تفـيض عليهم *** فنفـسيَ أسخى بالحياةِ وأجودُ

فهل صادفت شاعراً سنياً يصف ظالمي آل محمد بأنهم (ارتدوا) ؟ وهل قال بهذا الأمر أحد من علمائهم ؟

أنسيت أن (السلف الصالح) مغفور له مهما عمل، وهو مأجور حتى وإن ارتكب ابشع الجرائم، وقتل المسلمين المؤمنين ظلماً وعدواناً وجعل رؤوسهم أثفية للقدور وزنا بنسائهم، فهو مع كل ذلك مأجور وقد تأول فأخطأ وله مع ذلك أجر واحد !!!!!!!!!

أنسيت أن من أشد ظالمي آل محمد، ومن لم يشهد التاريخ الإسلامي أكثر منه نصباً للعداء لهم، ومن كان يأمر بسب أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر في البلاد، ومن دس السم إلى سيد شباب أهل الجنة وقتل خيار الصحابة، ومن ارتكب في الإسلام ما لا يحصى من الجرائم والموبقات هو خال المؤمنين و(أمير ...... !!!!

ولا أدري كيف يتم التوفيق بين هذا الأدب وأصحابه في رأيك ؟.

قوله في ابن الأبار

وحين يستعرض الدكتور حياة ابن الأبّار تحت عنوان: (ابن الأبّار والأدب الشيعي) يشير إلى منابع تعليمه ومصادر أدبه الشيعية فيقول: (تعتبر آثار ابن الأبّار وكتاباته من المصادر المهمّة في معرفة تاريخ وثقافة وأدب الأندلس بلا تردّد، فقد كان يشاهد العزاء الحسيني في مسقط رأسه شرق الأندلس، وقد سمع من أساتذته مراثي خامس أهل العباء الإمام الحسين (عليه السلام).

ثم يشير إلى البيئة الشيعية التي نشأ بها ابن الأبّار فيقول: (كان أحد أساتذته المسمّى أبو الربيع سليمان الكلاعي، على علاقة خاصّة وحميمة بالشاعر صفوان بن إدريس، الذي تحدّثنا عنه قبل قليل، وقد تعرّف ابن الأبّار على هذا النوع من الأدب، المعروف في الأدب العربي بأدب البكاء، على يد هذا الشاعر، ونال إجازة الرواية لبعض كتب المناقب من أساتذته، من جملتهم كتاب مناقب السبطين تأليف أستاذه أبي عبد الله محمد بن التجيبي (540 ــ 610هـ) إذاً، فلا غرابة في اهتمام ابن الأبّار بمصائب آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، وبالخصوص فاجعة كربلاء التي أولاها عنايةً خاصّة، فقد كان ذلك ظاهراً من خلال كتاباته وآثاره).

وبعد أن يستعرض كل هذه الدلائل والحقائق على شيعية ابن الأبّار ينكرها ويصرّ على كلمة ميول فيقول: (ومن بين آثاره كتابَين، يُقدّمان صورةً واضحة عن ميوله الشيعيّة، وهما: دُرر السمط في خبر السبط، والآخر: معدن الـّلجين في مراثي الحسين، وهو كتاب لم يصل ــ مع الأسف ــ إلينا، لكنّ الشئ الوحيد الذي نعرفه عنه هو ما قاله ابن الأبّار نفسه في التكملة عنه حيث قال: (من تأليفي).

ويواصل الدكتور حديثه فيقول: (وقد أطرى الغبريني كثيراً على هذا الكتاب، وقال: إن هذا الكتاب كافٍ لإثبات فضل ابن الأبّار في الأدب، ويمكن استنتاج أنّ هذا الكتاب كان نثراً لا نظماً من كلام ابن الأبّار نفسه عنه حيث قال في (معدن اللجين): إنه من تأليفي). إلى هنا انتهى كلام الدكتور.

ورغم كل هذه القرائن التاريخية الواضحة كوضوح الشمس على شيعية ابن الأبّار والتي لم يستطع الدكتور سوى الاعتراف بها إلا أنه ينفي التشيّع عنه ويتشبّث بتخيّلاته ويبني عليها احتمالات لا تستند إلى واقع ولا تقوم على دليل فلنستمع إلى ما ذكره تحت عنوان: (ابن الأبّار والتشيّع، هل كان ابن الأبّار شيعياً) ؟

المخالفون المجهولون

لم يأتِ الدكتور بمصدر واحد يخالف الأقوال التي ذكرناها والتي أكدت تشيّع ابن الأبّار ولم يذكر أي مؤرخ أو كاتب أو باحث قديم أو معاصر يقول بعدم شيعية ابن الأبّار وفي هذا دلالة واضحة على أنه لم يجد مصدراً واحداً ينفي تشيّعه فماذا يصنع ؟

في محاولة لفرض رأي مخالف لتشيّع ابن الأبّار يُلاحظ أن الدكتور يريد أن يدعم قوله بنفي التشيّع عن ابن الأبّار بإضافة ضمير الغائب الجمعي على من قال بعدم تشيّع ابن الأبار بزعمه ويختلق لهم آراء في ذلك، أي إنه يختلق القول وصاحبه المجهول.

فبعد أن يستعرض أقوال المؤرخين الصريحة ممن قال بتشيّع ابن الأبّار فيذكر أقوال الذهبي في سير أعلام النبلاء، والمقري في نفح الطيب، والصفدي في الوافي بالوفيات، والسيد محسن الأمين في أعيان الشيعة، وأغا بزرك الطهراني في الذريعة فإنه لا يذكر أي مصدر ممن قال بخلاف هذه الأقوال فيتقول عن أناس أختلقهم هو وأعطاهم ضمير الغائب حيث يقول (أما المخالفون لتشيّع ابن الأبّار فيقولون) ولكن من هم هؤلاء المخالفون أيها الدكتور ؟

ليتك ذكرت اسم واحد من هؤلاء المخالفين أو مصدراً واحداً يقول بعدم تشيّع ابن الأبّار وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أنك لم تستطع أن تجد مصدراً واحداً يقول بخلاف أقوال الذهبي والمقري والصفدي والأمين والطهراني.

ثم يحاول أن يظهر بمظهر الباحث المنصف المحايد بقوله:

(وهل يمكن الحكم بتشيّع ابن الأبار، استناداً إلى ما مرّ ؟

للإجابة على هذا السؤال، نرى من المناسب أن نطرح أدلـّة المخالفين والموافقين في هذا الموضوع، ثم نحكم ــ بعد ذلك ــ على تشيّعه أو عدمه، عبر دراسة أدلّة الطرفين في الموضوع، بغية الوصول إلى نتيجة نهائية).

محاولة نفي التشيّع الفاشلة

ولا يُخفى إنه جعل من نفسه فقط طرفاً في المعادلة غير المتكافئة ولمخالفة للأقوال التي ذهبت إلى تشيّع ابن الأبّار، فإذا كنت لم تستطع أن تطرح مصدراً واحداً من المخالفين فكيف تطرح الأدلة على ما تدعي ؟ أهكذا يكون البحث العلمي أيها الدكتور ؟

إن المقري على تعصّبه على الشيعة ومخالفته لهم لم يستطع إنكار أو نفي التشيّع عن ابن الأبّار كما إن المقري الذي نقل بعضاً من كتاب درر السمط وأخفى الكثير واعترف بإنه أخفى ما يشمّ منه رائحة التشيع لم يجرؤ على قول ما قلت، فمن هم المخالفون الذين تريد أن تطرح أدلتهم ؟ هلا ذكرتهم بدلاً من إضفاء ضمير الغائب عليهم ؟

ويستمر ضمير الغائب لدى الدكتور في قوله: (أمّا المخالفون لتشيّع ابن الأبّار فيقولون: رغم أنّ كتابه دُرر السمط يعظّم جلالة أهل البيت (عليه السلام) ويذمّ بني أميّة، لكنّ هذا لوحده لا يُثبت تشيّعه، لأنّ تشيّع ابن الأبّار يعني الحبّ والولاء لأهل البيت لا الاعتقاد بالأسس الفكريّة للشيعة الإمامية، ولهذا نلاحظ أنّ ابن الأبّار رغم أنه يقول بأن عليّاً (عليه السلام) كان وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّه سيد الأوصياء، لكنّه لا يعتقد بما تعتقد به الشيعة من وصايته على وزن وصاية موسى لهارون، بل يقول: إنّه آخر خليفةٍ للمسلمين، وأن معاوية أول ملكٍ بعد ظهور الإسلام، كما يرى أنّهما معاً ــ عليّ ومعاوية ــ في الجنّة) !!!.

عجباً والله ! بل أعجب العجب هو هذا القول ! إن قول هذا الدكتور كمن يقول إن هذا الرجل ـ أي ابن الأبّار ـ يشهد أن لا إله إلا الله وإن محمداً رسول الله ولكنه ليس بمسلم !!

إنه يعترف بأن ابن الأبّار يعتقد بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الوصي بعد رسول الله بل هو سيد الأوصياء ولكنه لا يعتقد بما يعتقد به الشيعة ! وهل يعتقد الشيعة بغير ذلك ؟ فإذا كان ابن الأبّار يعتقد بالوصية لعلي فكيف يعتقد بأنه آخر خليفة للمسلمين ؟ أنا لا أستطيع فك هذه الألغاز وأترك حلها للقارئ الكريم.

ثم يقول ما لا تقوم الجبال الرواسي على حمله: (كما يرى أنّهما معاً ــ عليّ ومعاوية ــ في الجنّة) !!!.

الله أكبر ما هذا الإفتراء على الرجل وما هذا التناقض الفظيع من جانبك ؟ فإن كنت صادقاً في قولك فلِمَ لم تذكر الفقرة التي يرى فيها ابن الأبّار هذا الرأي الزائف الذي وضعته عنه وهو أنه: (كما يرى أنّهما معاً ــ عليّ ومعاوية ــ في الجنّة) ؟

ثم ألم تذكر أنت في مقالك نفسه رأي ابن الأبّار الصريح في معاوية وبني أمية بقولك تصف ما قاله ابن الأبار في كتابه درر السمط: (وقد وصفَ فضائل أهل البيت (ع) بأنها كالشمس الساطعة، رغم ما عانوه من الظلم المُستـَعر مـن جانب بني أميّة، وأنّهم كالنجوم التي يهتدي بها الناس، ثم تهجّم على بني أمية ووصَفهم بعبارات تحقيريّة، كقوله: (الطلقاء)، وأنـّهم تشبّثوا بالمناصب التي اغتصبوها بغير حقّ).

التناقض الفظيع

ونحن هنا بدورنا نسألك أيها الدكتور على من ينطبق وصف (الطلقاء الذين تشبثوا بالمناصب) ؟ ألا يتمثل لك معاوية الذي كان على رأس الطلقاء مع أبيه ؟ فكيف توفق بين القولين المتناقضين ؟ ثم كيف لم ينتبه الذهبي إلى قولك الأول والذي نذكرك بقوله في ابن الأبّار حيث يقول: (وقد رأيت لأبي عبد الله الأبّار جزءاً سمّاه (درر السمط في خبر السبط) ـ يعني الإمام الحسين (عليه السلام) ـ بإنشاء بديع يدل على تشيّع فيه ظاهر، لأنه يصف علياً رضي الله عنه بالوصي ، وينال من معاوية وآله).

هذا قول الذهبي الذي اطلع على الكتاب قبلك ونقل رأي ابن الأبّار الصريح في علي ومعاوية وهو يدحض قولك الزائف الموضوع عنه

ونكرر قولنا ونؤكده: ليت أنك ذكرت مصدراً واحداً من الذين نسبت إليهم هذا القول سوى الإشارة إليهم بضمير الغائب بقولك (أما المخالفون لتشيّع ابن الأبّار فيقولون)

الدليل الزائف

ولا يجد الدكتور من دليل على أن ابن الأبّار لم يكُ شيعياً سوى ما يدل على جهله حتى بسياق الكلام الذي يتضح لكل إنسان رغم اقتطاعه جملة قصيرة من رسالة ابن الأبّار لابن المطرف يقول فيها: (كلا، بل دانت (الأندلس) للسنّة، وكانت من البدع في أحصن جـُنـّة..) فيقول عن كلام ابن الأبّار هذا: (كنايةً عن بدع الشيعة الإثني عشريّة والفِرَق الأخرى) !!

الله أكبر ! ألم تقل أنت بنفسك يا دكتور إن ابن الأبّار عاش في ظل دولة شيعية في الأندلس وهي دولة الموحدين ؟

وقد شهد ابن الأبّار سقوطها ولم يحكم الأندلس بعدها السنة بل استولى عليها ملك أرغون (دون خايم) فكيف دانت الأندلس للسنة ؟

ثم ألم يتضح لك من خلال سياق كلام ابن الأبّار إنه يعني (سُنة) النبي (صلى الله عليه وآله) أي الشريعة المقدّسة التي طبّقها الشيعة في سياستهم ولم يقصد من كلمة (السُّنة) الطائفة.

ثم أيّة بدعة أظهرها الشيعة الإثني عشرية في الأندلس سوى حبهم وعقيدتهم بأهل البيت (عليهم السلام) ؟ ثم ألم تزعم إن دولة بني حمود كانت زيدية فلماذا أبدلتها هنا بالإثني عشرية عندما تعلق الأمر بالبدع ؟

شواهد من سراب

ولعل من أعجب الأمور في موضوعه ما أورده تحت عنوان (الشواهد على عدم التشيّع العقائدي لابن الأبّار) حيث يقول: (ويمكن جعل الشواهد التالية مؤيّدةً لرأي المخالفين لتشيّع ابن الأبار)، ـ وتبقى أسماء المخالفين مجهولة حتى نهاية المقال ـ ثم يعدد تلك الشواهد التي لا تستند سوى إلى السراب:

(وهي:

أ ــ لو ألقينا نظرةً فاحصة على الأوضاع أواخر سلطة الموحّدين في الأندلس، لظهرت لنا المصائب والويلات التي جَرَت على المسلمين جرّاء سلطة المسيحيين بعد سقوط مُدن الأندلس الواحدة تلو الأخرى، ونتيجةً لتلك الأوضاع المؤلمة راجَت وازدهرت صناعة أدب الرثاء في الأندلس.

وقد استـَغـَلّ الشعراء هذه الفرصة وصاروا يَرْثون أهل البيت (ع) ويذكـّرون بجنايات الأمويين، لا سيما الواقعة الأليمة المُقرحة للقلوب، وهي واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين (ع) وأصحابه، وكان الناس في الأندلس يعتبرون ذلك سلوى لهم ولمأساتهم، وكان النداء يصل حتى إلى غيرهم من المسلمين في البلدان الأخرى، وعبر ذلك كان الشعراء يحثـّون المسلمين على مقاومة المسيحيين الغزاة، فلم يكن الرثاء الذي قام به الشعراء سوى رثاءً للأوضاع المزرية التي مرّ بها مسلمو الأندلس، وتسليةً لخواطرهم، وكان ابن الأبّار واحداً من أولئك الشعراء الذين كتبوا في هذا المجال، فلم يكن غريباً ولا بعيداً عن تلك الأجواء التي تأثر بها، وقدّم في ظلّها كتاباً أسماه دُرر السمط، والذي صار مورد تأييد وتمجيد الكثيرين، أمثال الذهبي، ذلك العالم المتعصّب ضدّ الشيعة).

إنه يخرج عن الموضوع في محاولة لقدح بصيص ولو من سراب لكي يسلط الضوء على قوله، ولكنه يضلّ حتى في خياله، فيستمر بنسبة الأقوال التي يبتدعها لأناس غير موجودين أصلاً وإطلاق صفة المخالفين عليهم ويختلق أشياء لا علاقة لها بالموضوع وينسبها إلى (المخالفين) المجهولين ليموّه بها، في حين إنه لا يوجد غيره مخالفاً لحقيقة تشيّع ابن الأبّار، ويختلق شواهد أوهى من خيوط العنكبوت في محاولة لتدعيم قوله الذي ترفضه كل حقائق التاريخ فيقول: (ويمكن جعل الشواهد التالية مؤيّدةً لرأي المخالفين لتشيّع ابن الأبّار) !

ونقول للدكتور جواباً على شواهده إننا لو تقصّينا أدب مناقب ورثاء أهل البيت (عليهم السلام) في الأندلس لوجدنا أن ذروته كانت في زمن قوة الدول الإسلامية في الأندلس وخاصة في زمن الدولة الحمودية والموحدية والمرابطية، وليس في زمن انفراط تلك الدول وتساقطها، ثم ما علاقة انهزام المسلمين أمام الروم بالرثاء الحسيني ؟ أما كان الأولى لشعراء الأندلس أن يكتبوا القصائد الحماسية التي تشحذ الهمم، وتلهب نفوس المسلمين، وتثيرهم للدفاع عن دينهم وبلدهم ؟ فليس هناك أية علاقة لا من قريب ولا من بعيد في ذلك، ثم ألم يفطن الذهبي وهو (ذلك العالم المتعصّب ضدّ الشيعة) كما وصفته إلى هذا الشيء حينما نعت ابن الأبّار بالتشيّع ؟

محاولة فاشلة أخرى

ثم يحاول الدكتور أن يضعف الشواهد القوية التي أكدتها المصادر على تشيّع ابن الأبّار فأراد أن يعيب على السيد الأمين والشيخ الطهراني اعتمادهما على المقري في تشيّع ابن الأبّار فيقول:

(عدم التمكّن من الوصول إلى آثار ابن الأبّار أدّى إلى الحكم على عقائده عبر ما تنقله المصادر الأخرى، لا من مصنّفاته نفسها مباشرةً، ولم تكن تلك النقولات دقيقةً بما فيه الكفاية، فالسيد محسن الأمين والآغا بزرك الطهراني اعتمدا ــ فقط ــ على نقل قول صاحب نفح الطيب (المقري)، والحال أنّ كتاب دُرر السمط مطبوع، ويمكن البحث فيه كلـّه؛ للخروج بنتيجة، تؤكّد أنّ تشيـّع ابن الأبّار لم يكن سوى إظهار المحبّة لآل البيت (ع)، لا تشيّعاً عقائدياً).

إنه هنا يناقض نفسه بنفسه ففي الوقت الذي يعيب على السيد الأمين والشيخ الطهراني اعتمادهما على ما نقلته المصادر القديمة عن ابن الأبّار وخاصة قول المقري في نفح الطيب بتشيّع ابن الأبّار فإنه يحاول أن يمسك ولو بقشة لكي يبني عليه احتمالاته وما يحاول أن يثبته من أشياء لا تمت إلى الواقع بصلة لكي يبني عليها ليخلع صفة التشيّع عن ابن الأبّار وليته حذا حذوهما باعتماده مصدراً واحداً يعزز قوله المخالف ويدعم رأيه.

قتله أكبر دليل على تشيعه

إن الدكتور قبل كل هذا الذي قاله نسي شيئاً مهماً في الكتاب وهو أن المقري لم يستطع أن ينقل إلا فصول قصيرة من الكتاب لأنه يتعارض تماماً مع مذهبه واعترف بأنها فصول شيعية بحتة فلو كان كما قلت بأن ابن الأبّار يرى أن معاوية في الجنة لرقص المقري لها طرباً ولأثبتها في كتابه.

كما أن هناك شيء آخر فاته وهو أن ابن الأبار ترك للمكتبة العلمية والأدبية الإسلامية تراثاً ثراً تجاوز الخمسين كتاباً في شتى العلوم فكان من أعظم جرائم الدولة الحفصية هي قتل هذا الرجل وحرقه مع كتبه ولا أدري كيف يبيح الإنسان لنفسه قتل شيخ عالم ومؤرّخ وأديب وحافظ ومفسّر وكاتب كبير أربى على الستين وحرقه وحرق مؤلفاته التي أفنى عمره في إخراجها على جثته بدعوى هجاء السلطان ببيت واحد نسبه إليه أعداؤه المحيطون والمتربصون به ؟

ألا يتضح للدكتور إن هذه الوحشية ليست فورة غضب من سلطان بقدر ما هي حقد مذهبي أعمى على ابن الأبار وإلّا لكان اكتفى بقتله، فما معنى أن يُحرق كل ما وجد من كتبه ولم يبق منها إلا النزر القليل مما لم يجدوه ؟

لقد كانت تهمة ابن الأبار الوحيدة التي لا تغتفر عند السلطان هي تشيّعه، كما لا يمكن لعلماء الدولة الحفصية أن يتحملوا وجود عالم شيعي أندلسي بينهم، فدبروا له هذه المكيدة، وهو ما يؤكده حرق كتبه على جثته، ولو بقيت تلك الكتب لوجدنا تراثاً شيعياً مهماً وزاخراً بالعلم والأدب، ولكن هي العصبية العمياء التي أعمت أصحابها فسوّلت لهم أنفسهم ارتكاب هذه الجريمة البشعة بحرق تراث يعدّ أنفس وأعظم ما كتب عن تاريخ الأندلس وتاريخ رجالاتها.

ونكتفي بهذه الأجوبة التي أظنها كافية لدحض آراء (المخالفين) الذين لا نعرفهم، ويستطيع أي باحث أو (دكتور) أن يكون (مخالفاً) ويدعي عدم شيعية ابن الأبّار ولكنه يجب أن يدعم رأيه بمصادر تعادل المصادر التي ذكرناها والتي أكدت تشيّع ابن الأبّار وتخالفها، وأن تكون تلك المصادر صريحة وليست مجهولة وأن يسمِّي أصحابها بدلاً من الإشارة إليهم بضمير الغائب.

اضف تعليق