ان المجتمع الصالح يعارض الاستبداد لأنه نقيض قيمة الحرية، ويعارض الظلم لأنه نقيض قيمة العدل، ويعارض الفساد لأنه نقيض قيمة الصلاح، ويعارض التمييز الطائفي او العرقي لأنه نقيض قيمة المساواة، ويعارض الجهل لأنه نقيض قيمة العلم، ويعارض احتكار السلطة لأنه نقيض قيمة المشاركة السياسية، ويعارض الفوضى لأنه نقيض قيمة النظام العام...

استعير هنا مصطلح "الوعي القيمي" من الدكتور عادل العوا مؤلف كتاب "العمدة في فلسفة القيم" (١٩٨٦) حيث جعله عنوانا للفصل الاخير من كتابه الكبير. ولئن اختلفت مع المؤلف في بعض افكاره، الا انني تقبلت مصطلح "الوعي القيمي" ووجدته أعمق واشمل من مصطلحات اخرى مثل الوعي السياسي او الوعي العميق. ووجدت في مصطلح الوعي القيمي معادلا لمصطلح "الوعي الحضاري".

عرّف الوعي القيمي بانه: "وعي الشخصية الانسانيةً بذاتها وبشرط وجودها وبتطلعها الى ما تبتغي ان تكون". (العمدة ٧٠١)

واضيف انه وعي الانسان لنفسه بوصفه كائنا عاقلا حرا مريدا، قادرا ان يجسد في سلوكه وعلاقاته منظومة من القيم الحضارية العليا القادرة بدورها على انشاء مجتمع صالح ودولة حضارية.

ينطوي الوعي القيمي على معرفة وارادة وتطلع الى المستقبل.

اما المعرفة فهي منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري والتي تشكل اطارا عاما لسلوك الانسان مع نفسه ومع الاخرين بما فيهم الدولة والمجتمع، والطبيعة. "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ".

واما الارادة فهي الاداة التنفيذية التي يتم بواسطتها تجسيد القيم بعمل يراه الناس:"وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"، "وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا". و "الاخرة" هي التعبير الرمزي عن التطلع الى المستقبل.

والتطلع الى المستقبل جوهر ما تحرص منظومة القيم العليا على تحقيقه وهو ربط الانسان بمستقبل أفضل باعتبار القيم تعبيرا عما ينبغي ان يكون. وهذا ما يشير اليه القران الكريم بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ".

تستهدف هذه المقالات المساهمة في نشر الوعي القيمي بين الناس. ذلك ان من خصائص المجتمع الصالح، ان لم نقل من شروط قيامه، امتلاك افراده وعيا قيميا يتم على اساسه قياس الصالح والفاسد من الافكار والتصرفات والمواقف والاشياء. ولا يمكن الحكم على الاشياء دون امتلاك الوعي القيمي. ان المجتمع الصالح يعارض الاستبداد لأنه نقيض قيمة الحرية، ويعارض الظلم لأنه نقيض قيمة العدل، ويعارض الفساد لأنه نقيض قيمة الصلاح، ويعارض التمييز الطائفي او العرقي لأنه نقيض قيمة المساواة، ويعارض الجهل لأنه نقيض قيمة العلم، ويعارض احتكار السلطة لأنه نقيض قيمة المشاركة السياسية، ويعارض الفوضى لأنه نقيض قيمة النظام العام، ويعارض الجهل لأنه نقيض العلم، وهكذا. ولا تتحقق هذه المعارضات القيمية دون توفر الوعي القيمي بمنسوب عالٍ.

ولما كان المجتمع العراقي خاصة والمجتمعات الاسلامية عامة مجتمعات كتاب هو القران الكريم، فلابد ان اذكر ان منظومة القيم العليا التي جاء بها القران تعرضت للتفكك والاهتراء في وقت مبكر بعد وفاة الرسول محمد، وكان من اوائل المفردات القيمية التي عانت من ذلك هي قيمة "الاستخلاف الرباني للانسان"، و"الشورى"، حيث بلغت ذروة ذلك على يد معاوية الذي حول الخلافة الى ملك وراثي عضوض. واستمر ذلك الى ان وصل المجتمع العراقي الى حالة عبادة الشخصية والعبودية الطوعية على يد صدام حسين. وشمل ذلك مفردات اخرى مهمة في المنظومة القيمية للمجتمع العراقي، فتراجعت القيم العليا الصالحة، وسادت قيم اخرى غير صالحة، مثل التعصب، والطائفية، والعنف، والتطرف الديني، واهمال استثمار الطبيعة وعدم الاهتمام بالبيئة، والغزو، والسلب والنهب، والتمرد على القانون، وعدم الثقة، وتعاظم غريزة حب الذات، وغير ذلك، وهي من نتائج ومضاعفات الانظمة الدكتاتورية التي تعاقبت على حكم البلاد.

كل ذلك يضاعف مسؤولية النخب الواعية من المثقفين والكتاب والمفكرين والأكاديميين وعلماء الدين عن نشر الوعي القيمي بين الناس تمهيدا لإقامة المجتمع الصالح وبناء الدولة الحضارية الحديثة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق